نقد الدين عند هابرماس 1-3


خلدون النبواني
الحوار المتمدن - العدد: 6599 - 2020 / 6 / 22 - 15:18
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

يأتي هابرماس في مقدمة الطبعة الفرنسية لمؤلفه الضخم نظرية الفعل التواصلي على تطور تفكيره من نظرية الوعي إلى نظرية التواصل وصولاً إلى علاقة الأخلاق والقانون والديمقراطية. بالإضافة إلى هذه المراحل الثلاث في انتقال هابرماس، أو توسيع دائرة اهتمامه، من مبحث إلى آخر، فإن هناك من يتحدث عن مرحلة رابعة في فكره ويقصدون بها التفكّر في اللاهوت وفي دور الدين في الفضاء العام السياسي لمجتمعات ما بعد العلمانية والدولة الليبرالية والتفكير ما بعد الميتافيزيقي. يكاد يُجمع النقاد على أن هذه المرحلة الرابعة تبدأ مع مطلع صدور كتابه Zwischen Naturalismus und Religion بين الطبيعانية والدين (2005) الذي يؤكدون أنه نقطة التحول عنده نحو "فلسفة الدين". لكن القارئ الجيد لنصوص هذا المفكر الإشكاليّ يعرف أن إرهاصات الاهتمام بالديني عند هابرماس تعود إلى بداياته الأولى حين كان لا يزال كاتباً مغموراً في بداية الثلاثينات من عمره. ثم تلى تلك المرحلة، شيئ من الابتعاد الواضح عن المسألة الدينية إلى درجة أن هابرماس سيُصرّح مثلاً عام 1994 بنفوره من النقاش الدينيّ بالقول: "لستُ في الواقع مع النقاش اللاهوتيّ ولا أتحرك طوعاً أبداً تقريباً في حقل غير معروفٍ لي بشكلٍ كاف" ،
ورغم هذا التصريح لهابرماس، فإننا نجد في نصوصه السابقة إشارات متفرقة، وهي، على قلتها، تؤكد ليس فقط اهتمام هابرماس الصامت باللاهوت، وإنما انفتاحه على الدين والرغبة المضمرة في فتح الأبواب له من جديد في المجتمعات مابعد العلمانية كما يسميها. ولعل أول تلك الإرهاصات (التي لم تُثر الكثير من الانتباه حينها على ما يبدو) نجدها في كتابه التفكير مابعد الميتافيزيقي (1988) الذي يقول فيه صراحةً :
بنظرة من الخارج نجد أن الدين – وهو المحروم بدرجة كبيرة [اليوم] من ممارسة مهامه المرتبطة بتصوراته عن العالَم – يظل غير قابل للتعويض فيما يتعلق برابط التطبيع مع غير اليوميّ في الحياة اليومية. وبسبب عدم القدرة على استبداله لا يزال الفكر ما بعد الميتافيزيقي يتعايش لليوم مع الممارسة الدينية. والأمر لا يعني هنا معاصرة للوقائع غير المُعاصِرة، بل أكثر من ذلك بالكثير. فهذا التعايش المُستمر يفسِّر عدم قدرة الفلسفة عن الاستغناء عن الدين بعد أن قد فقدت كل صلة مع غير اليوميّ. وبقدر ما تتضمن اللغة الدينية محتوى دلاليّ يُلهمنا، بل لا يمكننا الإستغناء عنه [...] فإن الفلسفة، حتى في صيغتها مابعد الميتافيزيقية، لا تستطيع لا الحلول مكان الدين ولا إزاحته."

كما وتشهد على مثل هذا الاهتمام المتردد باللاهوت عند هابرماس بعض مقالاته وحواراته المتفرقة التي راحت تتوالى تباعاً منذ بداية الثمانينات وحتى نهاية التسعينات من القرن الماضي والتي تطرقت بشكل مباشر حيناً وجانبي في كثير من الأحيان إلى المسائل اللاهوتية أو علاقة الدين بالتفيكر ما بعد الميتافيزيقي في المجتمعات الحديثة. ثم كان للنقاشات والجدالات التي انخرط فيها مع مطلع القرن الحالي حول مسائل البيوطيقا مثل الهندسة الوراثية، وتحسين النسل، والنمو الطبيعي، والتدخل الجيني، والطبيعة البشرية ، الخ أثراً بالغاً في تحديد وجهته وتوسيع خطاه نحو اللاهوت مُفلسَفاً. كما مما لا شك أن "حدث" 11 سبتمبر قد جعل من مناقشة عودة الديني والإرهاب مسائل مفروضة على جدول أعمال الفيلسوف "إلى درجة أنها لم تعد تترك لنا الخيار لما يتوجب علينا الخوض فيه" ، بحسب كلمات فيلسوف التواصل. لكن نقطة التحول الواضحة والتي فاجأت البعض – وربما أكثرها صراحة وحماساً أيضاً لفتح باب التساؤل على الديني والدفاع عن حق أصحاب العقائد في التعبير عنها في الفضاء العام السياسيّ – يعود إلى خطابه في 14 أكتوبر 2001 أثناء تسلمه جائزة "المكتبة الألمانية" والذي حمل عنوان (مستوحى من عنوان نص لهيجل) "الإيمان والمعرفة". من هذا المقال الذي ستعقبه ثلاث مقالات (أكثر تحفظاً وأكثر نسقية) سيتم جمعها في الفصل الثاني من كتاب بين الطبيعانية والدين: تحديات الديمقراطية (2005) ستتبلور بوضوح أفكار هابرماس حول اللاهوت.
هكذا إذن تكثّف انخراط هابرماس في اللاهوت كتابةً وجدالاً وندوات داعياً فيها إلى فتح الباب الموصد على الدين لا لاستعادته في الفلسفة فقط، وإنما، وهذا الخطير، في الفضاء العام السياسيّ. لاشك أن مواقف هابرماس هذه شكلت صدمة مفاجأة للمهتمين بفكر هابرماس ونقداً شرساً لهذه الردة نحو الدين وهذا الاهتمام المُكثّف باللاهوت من مواقع فلسفية وعلماجتماعية، محافظة فهو يدافع فيها عن عودة الدينيّ رغم كونه مكَوَّن ما قبل حداثيّ، حارَبَته الحداثة ولا يزال، في نظر الكثيرين يمثّل – فيما لو أُقحِم في السياسة – أكبر خطر يتهدد الدولة العلمانية الغربية الحديثة التي تكفل دساتيرها تعايش التصورات المختلفة حول العالم والعقائد الدينية دون احتراب أو صراع في مجتمع متعدد ودولة علمانية لا تتحيز لأي دين وتؤكد حق الجميع في الاعتقاد والإيمان وممارسة الطقوس.
قبل وضوح تحوّل اهتمامه نحو اللاهوت، كان هابرماس يعدُّ الدين شيئاً من الماضي ما قبل الحداثوي، بل وخطراً يهدد الحداثة. لا شيء غريب هنا فمسائل الروح لم تعني يوماً لهابرماس سوى – دون أن يقول ذلك صراحة – انحرافات ما يدعوه بنقيض العقل أو آخِره das Andere der Vernunft بخاصة في الشعر والأدب والفنون والتصوف الخ. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل في عودة هابرماس الشيخ للدينيّ ولفتح باب الحداثة الموصود أمام شبح اللاهوت هو تحوّل روحيّ لفيلسوف إجرائي، امتثالي conformiste شيأت العقلانية الباردة عنده كل تجليات الروح؟ أم هو تأكيد لنزعة محافظة لا تجد سلامها إلا في حاضر متصالح مع كل شيء وماضٍ لا يريد له أن يمضي؟ سأسعى للإجابة على هذين السؤالين من خلال قراءة نقدية لنصوص هابرماس حول الدين والتي سأتتبعها على نحو كرونولوجي متسلسل في الصفحات القادمة.

هابرماس الشاب والتصوف اليهوديّ:

سأبدأ باقتفاء كتابات هابرماس حول الدين منذ بداياته الأولى متوقفاً عند أحد نصوص هابرماس الشاب والذي كتبه عام 1961 أي بعمر 31 سنة والمُترجَم إلى العربية بعنوان :"المثالية الألمانية وأعلامها اليهود" لأنه، برأيي، يُمثِّل مدخلاً لا غنى عنه لفهم تطوّر موقف هابرماس من الدين، وربما تحيز هابرماس لبعض الأديان على حساب بعضها الآخر.
في هذا النص الشبابيّ المتقد حماساً للتراث الكابالي اليهودي الصوفي، يمنح هابرماس "الغلبة" للفلاسفة من أصل يهوديّ في تشكيل والتأثير في "التركيبة الثقافية التي تميّز الفلسفة الألمانية في القرن العشرين" . وهذا التفوّق للمثقفين اليهود هو، بكلمات هابرماس نفسه، أمرٌ "ثبتت صحته منذ زمن بعيد" وهو لذلك ليس بحاجة إلى تقديم إثبات جديد على صوابه .
لنلاحظ هنا أنه وفي مقابل تلك النزعة الفوقية الاستعلائية المسيحية التي لجئ إليها النازيون باللاوعي للتقليل من شأن ثقافة اليهود، يقوم هابرماس بقلب الآية ببساطة بجعل هذا التفوق والغلبة في صف المثقفين اليهود أصحاب التراث الكابالي فيقع في نفس فخ العرق المتفوق. بل إننا نقرأ بين سطور هابرماس إشادة بالصهاينة أي أولئك اليهود الذين لم يندمجوا مع المجتمع الألماني والذين عانوا من ويلات معسكرات الاعتقال حيث برز، وفقاً لمفرداته، من "بين هؤلاء الذين ينتمون إلى الشرائح الهامشية التي كانت الأكثر نجاحاً بتحقيق عملية الانخراط، ناطقون باسم اليهودية يدعون للعودة إلى الأصول. وقد وجدت هذه الحركة تعبيرها السياسي في الصهيونية وتعبيرها الفلسفي في الوجودية المبكرة على يد مارتن بيوبر، Martin Buber الذي استعاد أجواء المرحلة الأخيرة من التصوف اليهودي."
في استحضار أثر التصوف اليهودي على الفكر الألماني يغدو استدعاء فالتر بنيامين أمراً لا مناص منه فهو الذي جمع وعلى نحو فريد بين التفكير المادي الماركسي والتصوف الروحي اليهودي وهو من قال: "إنه يمكن للمادية التاريخية أن تجابه أياً كان ودون اللجوء إلى أية مساعدة، شرط أن تجعل اللاهوت في خدمتها" والمقصود باللاهوت هنا عند بنيامين وهابرماس هو اللاهوت اليهودي قبل أن يضيف هذا الأخير: "وهذا ما حصل فعلاً على يد أرنست بلوخ Ernst Bloch." كما يعرِّج هابرماس على هرمان كوهين Herman Cohen الذي اكتشف، بحسب هابرماس دائماً، و"بطريقة ملفتة فعلاً في العهد القديم فكرة السلام الأبدي الكانطية" . بقراءة كلمات هابرماس هذه يخيّل إلينا أنه ما من جديد لدى المثالية الألمانية سوى إعادة اكتشاف وتكرار النص التوراتي أو التصوف الكابالي، فكل نتائجها التي وصلت إليها موجودة سلفاً في تلك النصوص المؤسسة للفلسفة الألمانية. بل حتى العلم والفلسفة والعقل يجدان مرجعيتهما الأصلية عند أنبياء اليهود بحسب كوهين ومن بعده هابرماس الذي يصادق على "أن مفهوم العقل الذي اتخذ تاريخياً صورة المصدر الأصل، برز أول ما برز، من خلال أقوال الأنبياء اليهود" وليس في سياق الفلسفة اليونانية فبرأيه إن "محاولة بعض المثقفين اليهود العودة إلى اليونان لم تخلُ أبداً من عجز. [في حين] وحدها تقاليدهم العريقة، تقاليد الكابال بدت في الواقع مصدراً للقوة."
يُكرِّس هابرماس إذن هذا المقال لتأكيد أثر الدين ممثلاً هنا في التصوف اليهودي الحاسم على نشوء المثالية الألمانية، بل والفكر المعاصر الألماني بمجمله فهو يؤكّد: "لم يعد الأمر يتعلق إلا بنا نحن إذ بالنسبة لحياتنا ولاستمراريتنا أصبح الإرث اليهودي ضرورياً للروح الألمانية" ، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك بالتأكيد على أنه "لو لم يوجد تراث يهودي – ألماني كان علينا اليوم أن نبتدعه لأنفسنا. غير أنه [لحسن الحظ] يوجد فعلياً." هكذا يجعل هابرماس المسألة اليهودية "بمثابة ماضٍ حاضر جداً" وهو لهذا يؤكد في مقاله ذاك على التأكيد على الأصل الديني للمثقفين الألمان اليهود قائلاً: "فرغم أني عكفت خلال سنوات دراسة الفلسفة [إلا أني] كنت أجهل قبل الشروع بهذا العمل أصل أكثر من نصف المفكرين الواردة أسماؤهم هنا. أما الآن فلم أعد أقبل بمثل هذه السذاجة. "

من الممكن أن يكون هابرماس المتأثر كثيراً بماكس فيبر، قد سعى في مقاله هذا أن يقلّد فيبر في كتابه أخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، الذي سعى فيه هذا الأخير إلى تبيان أثر الروح البروتستانتية في تطور الرأسمالية منذ منتصف القرن الثامن عشر. لكن على خلاف فيبر الذي قدّم دراسة جديّة (لا تخلو من أيديولوجيا وتحيز)، يظل مقال هابرماس هذا مقالاً صحفياً خفيفاً لا يخفي تحيزه المباشر لضحايا النازية ويختلط فيه الديني بالسياسيّ بالأيديولوجي باللاهوتي. مع نضجه سيصبح هابرماس أكثر حذراً وتقية في إخفاء مثل هذه النوازع اللاعقلانية على فكره وأقل مباشرة في كشف انحياز مواقفه السياسية.



نصوص على التخوم لهابرماس قبل تحوله نحو اللاهوت :
1- الخطاب الفلسفي للحداثة:
وفي بداية استعراض نصوص هابرماس غير المباشرة في تناولها للديني والتي تتموضع متفرقة بتباعد بين مقاله المتقد حول الأثر اليهودي الخلّاق على المثالية الألمانية، وصولاً إلى كتابه بين الطبيعانية والدين (2005)، فإنني أود أن أتوقف على عجالة مع كتابه السجاليّ الخطاب الفلسفي للحداثة (1985) لأستشهد منه بمقطع طويل نسبياً يتهكم فيه ليس على التجارب الجمالية والفنية والأدبية فحسب، وإنما على التجربة الصوفية تحديداً التي امتدح أُثرها الحاسم على المثالية الألمانية كما رأينا، لكنها هنا ليست بالمعنى الكابالي اليهودي دون شك. يقول هابرماس متهكماً :
منذ رومانسية يينا le romantisme d’Iénaلم ينقطع استجداء التجارب الحدية الصوفية والجمالية على حد سواء لمنح الذات القدرة على تجاوز ذاتها في الإنتشاء. لقد أحرق الصوفي عينيه وأغلقهما في ضوء المطلق؛ أما الجماليّ المُتحمِّس فقد ترك نفسه للدوار ودوخة الصدمة. من هنا وهناك يتفلت مصدر الانفعال من كل تحديد. وفي غياب التحديد لا يظل مرئياً سوى خيال الباراديغم المرفوض ومحيط ما تم تفكيكه. [...] إن اللعب بالانتشاء ذي الإلهام الديني و الجمالي، إنما هو لعبة سخيفة جداً تنتقي جمهورها المفضل من دائرة المثقفين فهم لا يزالون الأقدر على التضحية بالعقل على مذبح حاجاتهم في التوجه.
نلاحظ هنا كيف يحمل هابرماس على التصوف بعد أن كان قد احتفل بالصوفية الكابالية اليهودية في مقاله العائد لعام 1961. لكن وبعيداً عن هذا التناقض أو، الكيل بمكيالين، أو ربما تغير وجهة النظر حتى إزاء التجربة الصوفية فإن ما أود الوقوف عنده أكثر في هذا الكتاب الضخم هو مقاربة جدية لمسألة الدين جاءت في محاضرته المعنونة ﺑ "مفهوم الحداثة عند هيجل". انطلاقاً من كتابات هيجل الشاب حول المسيحية وبخاصة في نص هذا الأخير الإيمان والمعرفة (1802)، يوضح هابرماس بدقة كيف تمكّن هيجل من ضبط ازدواجية الذاتية Subjektivität التي طبعت الفلسفة الحديثة بختمها: فهي من جهة الروح التي تحققت فيها الحرية وفلسفة المُطلق، لكنها هي من كشفت، بالمقابل، عن حداثة مُفكّكة ومفتقرة للقدرة على توحيد عالم وقد تشتت. يُشخّص هيجل الشاب عجز العقل الحديث (الذي حل محل الدين في الحداثة) بوصفه "غير قويّ كفاية ليعيد إنتاج القوة الموحِّدة التي اضطلع بها الدين سابقاً" . وجد الشاب هيجل إذن أن مرد هذا التشظي الاجتماعي واغتراب الروح الحديثة يعود إلى تقهقر الدين الذي "قاد إلى انشقاق الإيمان عن المعرفة وهو الأمر الذي يعجز عصر التنوير عن تجاوزه بإمكانياته الخاصة. ولهذا السبب يظهر عصر الأنوار في فينوميولوجيا الروح بوصفه عالماً للروح وقد غدا غريباً عن نفسه" . هكذا وصف هيجل "الوعي الشقيّ" لحداثة كان عليها إما أن تعيش ممزقة أبداً أو أن تتصالح مع الدين وتعيد إنتاجه في الحداثة، وهذا الحل الثاني هو ما عكف عليه هيجل الشاب قبل أن يتخلى عنه سريعاً، وهو نفس الحل الذي سيعود إليه هابرماس الكهل على نحو ما.
ومع أن هيجل الشاب كان مدركاً لمحدودية وقصور العقل عن الاضطلاع بمهمة توحيد ما تمزق في الحداثة إلا أنه كان يهيب به، أي بالفلسفة، القيام بهذه المهمة العملية. يفترض هابرماس أن هاجس هيجل في تأسيس فلسفة توحيدية كان نتيجة أزمات شخصية عاشها هيجل الشاب نفسه وهي مشحونة بروح أسطورية/شعرية تقاسمها مع هولدرلين وشلينغ، ولكنها مضمّخة أيضاً بالماضي المؤمثل للمسيحية الأولى.
على نحوٍ محافظ ، سيتخلى عنه هيجل سريعاً، وفي حمى انشغاله بإيجاد عقل توحيديّ أو فلسفة موحِّدة، سيعمل هيجل الشاب على الخروج من كلاسيكيات التعارض بين العلم والإيمان، أو بين المعرفة والإعتقاد، أو بين الفلسفة والدين الوضعيّ بثمن باهض فلسفياً منتصراً للدين على حساب العقل.
اعترض هيجل إذن على الدين الوضعي الذي صار مؤسسة خالية من الروح وغير قادرة على التأثير في روح وأخلاق الإنسان الحديث. لكن كان على الشاب هيجل الساعيّ لنفخ الروح في جذوة الدين قبل ذلك مواجهة معضلة كيفية إعادة الحياة للمشاعر الدينية في مجتمع حديث راحت تتراجع فيه المشاعر الدينية مع ازدياد هيمنة العقلانية الوضعية؟ سيجد هيجل الشاب، الذي كانت تتنازعه الفلسفة واللاهوت حينها، ضالته في فكرة الدين العقلي الذي سيهيب به إعادة الحمية الدينية من خلال الأعياد والطقوس، والأساطير ومخاطبة المشاعر والروح وإثارة المخيلة لإعادة رتق ما تمزق اجتماعياً. بربط الدين بالفن والأسطورة والمخيلة سيحاول هيجل الشاب بث الروح في جسد المسيحية المحتضرة في مجتمعات الغرب الحديث. هكذا سار هيجل الشاب ضد تيار الحداثة الطاغي، بل حتى أنه ذهب إلى حد وصف سيرورة عصر التنوير بوصفها شكلاً من أشكال الدين الوضعي المُشيِّء، فبرأيه لا تقل عبادة العقل في عصر التنوير خطورةً وتحجراً وموتاً وابتعاداً عن الإنسان عما هو عليه واقع الدين الوضعي.
غير أن حماس هيجل الشاب للدين العقليّ أولاً ثم لدور الفن في تربية الإنسان الحديث سيخبو وسيكتب في عام 1801 نصه حول اختلاف الأنساق الفلسفية من فيخته إلى شلينغ ليعبر فيه عن مدى طوباوية فكرة الدين العقليّ أو دين الشعب مُعلناً كفه عن التعويل على دور الفن في تربية الشعب (وهي الفكرة التي سيطورها شلينغ في نظام المثالية المتعالية (1800)، والتي ستأخذ تبلورها الأكثر اكتمالاً مع شيلر في رسائل حول التربية الجمالية للإنسان (1795)).
كان لا يزال شاباً إذن حين ابتعد هيجل عن هذا الخط اللاهوتي الفنيّ في البحث عن فلسفة توحيد رآها أولاً في دين الشعب وفي أصولية مسيحية تعمل على استعادة أخلاق المسيحية وروحها الأولى وثانياً في فن مثاليّ شعبيّ. بعد هذه المرحلة المشبوبة لاهوتياً سيذهب هيجل في اتجاه أكثر موضوعية وواقعية حينها وذلك تحت تأثير اهتمامه المضطرد آنذاك بدراسات الاقتصاد السياسيّ، ومفهوم الدولة الحديثة، وجدلية تطور الحداثة ومنطقها معيداً بناء تفكيره في المطلق الذي سيطغى على الدين، بل وحتى على الإله.
لقد وجدتُ من المناسب هنا التعريج سريعاً على موقف هيجل الشاب من الدين بتأكيده في البداية على أهمية عودته وضرورة بعثه من جديد في الحداثة المكتَسِحة لكل مظاهر العالم اللاهوتي القديم، ثم عزوفه عن هذا الطريق والتخلي عنه سريعاً. أقول أني وجدت ذلك مفيداً لأن هذا المسار سيتكرر معنا وسنجد أن هابرماس سيقطع نفس هذا الطريق أيضاً، لكن في الاتجاه المعاكس، فهابرماس الأول المصر على إقامة قطيعة بين الحداثة والدين سيتراجع في كهولته ويستعير طريق هيجل الشاب محاولاً إعادة الدين إلى فضاءات الحداثة وإقحامه فيها.

2- "كيف نجيب على سؤال الأخلاق؟":
في نهاية عام 2000 سيُدعى هابرماس إلى باريس للمشاركة في مؤتمر تحت عنوان "يهوديات: أسئلة لجاك دريدا" حيث سيقدم فيه ورقة عنونها ﺑ "كيف نجيب على سؤال الأخلاق؟" والتي يعلن فيها منذ الافتتاحية عن رغبته في استكشاف "الخلفية اليهودية لفكر دريدا" . لا شك أن هذه العبارة تعيدنا إلى مقاله "الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي" وتؤكد قناعة هابرماس بذلك الأثر الإيجابي، بل الخلاق لليهودية على الفلسفة. لكن هذه المرة سينتقل التنقيب عن الأثر التلمودي في الفكر الفلسفي من المثالية الألمانية إلى فيلسوف يهودي فرنسيّ، كان هابرماس قد انتقده بشدة (دون قراءة حقيقية مباشرة لمؤلفاته) في كتابه الخطاب الفلسفي للحداثة وفي خطابه الشهير "الحداثة مشروع لم يكتمل".
مما لا شك فيه أن أثر اليهودية حاضر وبقوة عند دريدا، بل لا يمكن مقاربة فكر هذا الأخير جدياً دون البحث في تلك العلاقة التي جعلت تفكيكياته المترددة بين الإيمان والإلحاد تنتهي في مرحلته الأولى على الأخص إلى شكل من أشكال اللاهوت السلبيّ. في حديثه عن دريدا، يتجنب هابرماس هذه المرة أحكامه القطعية المتحاملة على فيلسوف التفكيك والتي تجلّت في أكثر من مناسبة معترفاً لأول مرة بحدود معرفته بإنتاج دريدا أولاً وباليهودية ثانياً بالقول: "على الرغم من علاقتي الطويلة مع جيرشوم شولم فإنني بعيد عن أن أكون تقنياً باليهودية، وبالنسبة للاختصاصيين المجتمعين هنا، فإنني بالتأكيد الأقل معرفة بأعمال دريدا."
لكن بدل استقصاء الأثر اليهودي في فكر دريدا الذي لا يأتي عليه سوى في عجالة وفي بضعة أسطر مقتضبة محصورة تقريباً في المقدمة، يستطرد هابرماس بعيداً عن موضوع المؤتمر بإعطاء محاضرة طويلة عن المسألة الأخلاقية عند كيركيجارد. ومع أن خطابه عني بكيركيجارد أكثر من دريدا، إلا أننا نقرأ فيه بخصوص أثر اليهودية على فكر دريدا هذه الإستنتاج الخطير الذي ينتهي إليه هابرماس:
إن سؤالي هو ببساطة إذن السؤال التالي: بماذا يفترق هيدجر ودريدا في فهمها القبْلي لما يقدمه كل منهما بوصفه "حدثاً" غير محدّد؟ [...] أظن أن الخط الفاصل بينهما يمر، من جهة، عبر خيانة وثنية جديدة لتراث الديانات التوحيدية و، من جهة أُخرى، عبر ولاء أخلاقي إزاء هذه الديانات التوحيدية نفسها.
وبمعنى أوضح يحيل هابرماس ارتباط هايدجر بالنازية إلى فلسفة هذا الأخير التي أنتجت نوعاً من الوثنية الجديدة تنكرت، بل و "خانت" بحسب مفردة هابرماس المبادئ الأخلاقية التي تحتزنها الديانات التوحيدية، في حين أنه يستثني دريدا (الذي كان قد شرَعَ بالتصالح معه بعد سجال فكري بينهما امتد لعقدين تقريباً) من هذا المنزلق الأخلاقي الخطير بربط تفكيكية هذا الأخير بالديانات التوحيدية عموماً واليهودية خصوصاً التي حمت وعصمت تفكيكيته. وبكلمات أخرى يمكن لنا، لو عمّمنا تحليل هابرماس هذا، القول أن الفلسفات الحديثة التي انحرفت عن الديانات الكونية قد ضلت السبيل الأخلاقي والإنساني بينما نجت من هذا المصير المنحرف والضلالي والسقوط الأخلاقي تلك التي ظلت على ولائها الأخلاقي والدلالي لهذه الديانات. يوضح هابرماس فكرة "الولاء" بالعودة إلى أحد مرجعيات التصوف اليهودي الكابالي وصديق هابرماس المقرب الألماني/الإسرائيلي الصهيوني المعروف جيرشوم شولم الذي هيمن شبحه وبقوة في مقالة هابرماس حول "المثالية الألمانية وأعلامها اليهود" قائلاً: "اسمحوا لي لشرح ما أقصده بعبارة ‘‘الولاء الأخلاقي للتقاليد‘‘ بالإحالة إلى جيرشوم شولم الذي يقول: ‘‘التقليد الأصيل يظل محتجباً‘‘" وهابرماس يضع يده هنا على إحدى تجليات اليهودية في فكر دريدا المهووس بفكرة السر الصوفية، والمحجوب، والتخفي، والغموض، الخ.
لكن هابرماس الذي يريد تبرئة دريدا من وزر الإرث السياسي الهايدجري الذي طالما اتُهم به دريدا، يورطه – في دفاعه عنه – بقضية أخرى بجعله فيلسوفاً لاهوتياً تجد تفكيكيته أصولها في اليهودية أكثر منها في تاريخ الفلسفة حين يؤكد في خاتمة خطابه على أن: "الطريقة التي واءَمَ فيها دريدا الفلسفةَ المتأخرة لهايدجر تقوم على خلفية لاهوتية أكثر منها ماقبل سقراطية، يهودية أكثر منها إغريقية." إنها اليهودية إذن وليست الفلسفة الإغريقية من جعلت من دريدا فيلسوفاً إنسانياً بنظر هابرماس، بينما العكس هو ما جعل هايدجر نازياً. أليس هذا تكراراً لما قاله عام 1961 والذي مر معنا من أن: "محاولة بعض المثقفين اليهود العودة إلى اليونان لم تخلُ أبداً من عجز. [في حين] وحدها تقاليدهم العريقة، تقاليد الكابال بدت في الواقع مصدراً للقوة."
لا شك أن هذه النتيجة لا ترضي دريدا، وهو منها براء. هكذا وبدل من الدفاع عنه بتبرئته من تبعيات الهايدجرية النازية، يسجن هابرماس فيلسوف التفكيك في قفص يهوديّ خانق طالما حاول دريدا الانعتاق منه.

أياً يكن فإننا نجد في هذا المقال أول دعوة يوجهها هابرماس للانفتاح على اللاهوت ويدعوا إلى فتح أبواب الحداثة أمامه بعد أن طُرد منها فها هو يعلن فجأة : "يمكن بالتأكيد الآن لفهمنا الأخلاقيّ لأنفسنا أن يتغذى على ماهية القصص الدينية وعلى الرؤى الميتافيزيقية للعالَم وعلى ‘‘التقاليد القويّة‘‘ عموماً." ولعل هذه العبارة العرضية لم تستوقف نقاد هابرماس يومها على ما يبدو، إلا أنها ستصبح توجهاً فكرياً سيؤكد عليه بقوة بعد سنة تقريباً من خطابه هذا.
أما لماذا يريد هابرماس فتح الباب الذي أغلقته الحداثة أمام اللاهوت ويدعو إلى فتح أبواب الفضاء العام السياسيّ أمامه؟ فإن هابرماس يحيل ذلك إلى قصور الفلسفة اليوم في الإجابة عن الكثير من الأسئلة الوجودية مؤكداً:
لكنه لم يعد منذ الآن للفلسفة الحديثة لا السُّلطة ولا الكفاءة لتتدخل في الصراعات التي تنتجها مذاهب الفهم، ولتحسم في إدعاءاتهم المتنافسة بأحكام غير متحيّزة. انسحبت الفلسفة إذن إلى مستوى ورائي métaniveau، يقتصر على البحث في الخواص الشكلية للنقاش الأخلاقي. وهي تُحجم بالنتيجة عن أخذ موقف من هذه المسائل التي ليست بالتأكيد أقل من المسائل الأكثر أهمية لحياتنا الشخصية والجمعية.
ألا نلاحظ هنا تشابه الطريق الذي يقطعه هابرماس هنا مع ذاك الذي قطعه هيجل الشاب في القرن التاسع عشر، أي بيان عجز العقل عن التوحيد والحسم المعرفي وعن الحلول مكان قوة الدينيّ فيتم الاستنجاد بالدين من الماضي لملء هذا الفراغ الذي نشئ بعده بين المعرفة والإيمان؟ لعل الفرق بين هيجل وهابرماس يتمثّل فقط في أن هيجل قد سار قليلاً في هذا الطريق وهو شاب قبل أن يعزف عنه بسرعة بعد أن أدرك انسداده وخطورته، في حين أن هابرماس سيلجأ إليه لأول مرة وهو كهل مقتنعاً بضرورته بعد أن كان قد ولّى وجهه عنه زمناً طويلاً وهو شاب.

قبل بضعة صفحات من خاتمة خطابه هذا يمر هابرماس سريعاً على موقف هوركهايمر من الدين ليناقش البدائل الممكنة أمام الفلسفة مابعد الميتافيزيقية العاجزة عن ملء الفراغ القائم بين المعرفة والإيمان بالقول:
بالنسبة لأي أحد مُقتنع، مثل هوركهايمر، بأن ‘‘الحقيقة الأبدية في طريقها للموت‘‘ على غرار الإله، فإنه سيضع الفلسفة في مواجهة بديل قاس: فهي إما عليها الاستسلام لنزعة شك يائسة، أو أن تُلائم في ذاتها الجوهر اللاهوتيّ للخطيئة والخلاص.
يضع هابرماس شرطاً لنجاح هذا الخيار الثاني أي لاستعارة الفلسفة لمفهومي الخطيئة والخلاص من اللاهوت وإدراجهما في خطابها، وهو يرى أنه دون تحقق هذا الشرط ستظل الفلسفة عاجزة عن تجاوز نزعة الحنين السوداوية كما هو الأمر عند هوركهايمر، وهذا الشرط يتمثّل في قيام الفلسفة: " بتقديم ترجمة معقولة ﻟ ‘‘الإله في الزمان‘‘ – وما أقصده هنا ﺑ "معقولة" هو ترجمة لإله موسى في مصطلحات تصور غير شخصيّ لمُطلق مُزمِن absolu temporalisé. وهنا يوجد المفتاح، كما يبدو لي، لأعمال أدورنو ودريدا، وكذلك هايدجر."
مرّة أخرى إله موسى وحده هو من ينقذ الفلسفة عند هابرماس من حيص بيصها وعجزها وانسداد آفاقها، لكن بعيداً عن هذا التمسك الهابرماسي بأثر اليهودية على الفلسفة، فإن مثل هذا الاختصار الذي تقدمه ورقته حول دريدا لا يعكس فقط عدم معرفة هابرماس بنصوص هذا الفيلسوف الفرنسيّ بشكل كافٍ، ومحاولة شده من شعره ليصبح مجرد صدى لنغمة يهودية موسوية كامنة في كلماته، وإنما أيضاً تأكيداً مستمراً على فكرة أن الفلسفات المعاصرة الملحدة ليست إلا صدى لتلمود أبديّ يُعاد إنتاجه ناقصاً في كل مرةّ وهو ما سيعود إلى الخوض به بعمق في نصوصه اللاحقة.


"الإيمان والمعرفة": الانفتاح الواضح على اللاهوت
بعد أقل من عام على خطابه في باريس، سيلقي هابرماس خطاباً آخر بمناسبة تسلمه "جائزة السلام للمكتبة الألمانية" في 14 أكتوبر 2001. مستوحياً عنوان أحد كتب هيجل حول الدين سيعنون هابرماس خطابه ﺑ "الإيمان والمعرفة" . إن أقل ما يمكن قوله عن هذا الخطاب الجديد (السلس والمباشر على خلاف معظم نصوص هابرماس) ، أنه اعتناق للدين أو، ما لا يجد مقابلاً بالعربية ربما (أو عربيتي أنا على الأقل)، creed بالإنجليزية أو profession de foi بالفرنسية. لا شك أن هناك إشارات سريعة في خطابه عن دريدا وشت بتحول ما، (بل بانقلاب) في فكر هابرماس، لكن وضوح هذا النص وحمولته وحمأته الدينية أمرٌ مفاجئ للبعض وصادم لآخرين. دعونا نتذكر في هذا المقام أن فيلسوف التواصل كان قد أقام قطيعة مع اللاهوت من مواقع التفكير مابعد الميتافيزيقي الذي أكتفى بأدواته المعرفية العقلانية والوضعية فأُغلق عليه. ولنتذكر أنه وعلى خطى ماكس فيبر كان هابرماس يرى أن الحداثة قد حققت من خلال العقلانية استقلالها الذاتيّ الكامل عن كل المرجعيات ما قبل الحداثية وأنه بفضل نظريته في التواصل تستطيع الحداثة تجديد نفسها ومواجهة ما يستجد عليها من إشكاليات ومشكلات من خلال النقاشات البينذاتية تحددها وتضمنها شروط التواصل المثالية وأفعال الكلام والنية بالتفاهم. لكن ارتداد هابرماس على موقفه السابق واضح جداً في خطاب "المعرفة والإيمان" بشكل لا يترك مساحة كبيرة للتأويل أو لإنقاذ ردته تلك بالتبريرات والحجج، فهو صريح في دعوته لاستعادة الديني والدفاع عن ضرورة إيجاد مكان له ليس فقط في التفكير مابعد الميتافيزيقي – من خلال ما يرجوه من استعادة دلالية لما يسميه اللغة الدينية التي لا تزال، من وجهة نظره، كامنة إلى يومنا هذا في الخطاب الأخلاقي بخاصة والفلسفي بعامة – وإنما في الفضاء العام السياسيّ أيضاً.
يُبرر هابرماس اختياره للحديث في الموضوع الديني في تلك المناسبة بكون الموضوع قد فرض نفسه على جدول أعمال الفكر. ولنتذكر هنا أن خطاب هابرماس هذا قد جاء بعد حوالي شهر واحد فقط من أحداث 11 سبتمبر 2001 التي يصفها بكونها "كما لو أنها قد ضربت على عصبٍ دينيّ في العمق الأكثر حميمية للمجتمع المُعلمَن." من هذه الكلمات الأخيرة لهابرماس، يمكن لنا تصور الكامن الديني المكبوت في مجتمعات الغرب الحديث والذي لا يزال يطفو على السطح على نحوٍ موارب في مجتمعات ظنت أنها قد قطعت نهائياً مع الديني.
لكن هابرماس ينزلق بعد هذه المقدمة في تعميمات فضفاضة ليس لها ما يبررها حقيقة في الواقع فهو يقول مثلاً: "في كل مكان في العالَم، امتلأت الكُنس والكنائس والجوامع." و بعدها بالقليل : "في الغرب كما في الشرق القريب أو في الشرق الأوسط، هناك أرثوذوكسية متصلبة بين المسيحيين واليهود كما هي بين المسلمين." لا شك أن موازاته هنا بين الدين المكبوت في الغرب العلماني مع الشرق الغارق في مستنقعات الدين المتصلب أمرٌ مبالغ في عموميته (وعل كلٍ هو أمرٌ لن يستدركه هابرماس كثيراً في حواره في الفلسفة في زمن الإرهاب). أياً يكن، فقد نجح هابرماس في وضع يده على المكبوت الدينيّ في الغرب الحديث وهو ما يؤكده بالقول: "حتى في أوروبا، حيث احتاج التاريخ عقوداً ليجد موقفاً عقلانياً إزاء حداثة بوجهين bifrons، فإننا نشعر دوماً، كما يظهر في الجدل حول التكنولوجيا الجينية، بمشاعر متناقضة تجاه "العلمنة" « sécularisation »."
ثم بعنوان فرعي حمل اسم "ترجمة المحتوى الدينيّ بالتشارك"، يعمل هابرماس على الإعلاء من شأن الحس السليم على المعرفة العلمية للعلوم الطبيعية التي لا تتوهم فحسب قدرتها على امتلاك الحقائق، أو أكملها على الأقل، وإنما تلك التي راحت تطمح للتدخل بعملية الخلق عبر التغيير الجيني. يسمي هابرماس هذه النزعة العلموية ﺑ "الإيمان العلموي" وينعتها بسخرية حادة ﺑ "الفلسفة السيئة مؤكداً: "إن الإيمان العلمويّ بعلمٍ – والذي قد لا يكتفي في المستقبل بمجرد إكمال الفهم الشخصيّ للذات عبر الوصف الذاتي المموضِع objectivant، وإنما الذي قد يعوّض الأول بالثاني أيضاً – هو ليس من العِلم في شيء. إنه ليس سوى فلسفة سيئة."
يرى هابرماس إذن أن العلم ولغته واكتشافاته يظل أقل من إشباع القدرة عن التعبير عن الحقيقة الإنسانية التي تذهب أبعد من مفردات العلم وتصوراته، وإن الحس السليم أو الحس المشترك Der commonsense هو أكمل من تصورات العلم فهو، بحسب هابرماس، "يؤكد في وجه العلوم بنيةً للتصور تستجيب لمنطقها الخاص." وهو إذ يضع الحس السليم فوق العلم من جهة فإنه يمايزه عن الدين من جهة أخرى. وإذ يتضمن كل دين من الأديان منظومة حقيقة مطلقة، تُخالف غيرها حد الاقتتال الدينيّ وهو ما أكده تاريخ صراع الأديان والآلهة، يسعى هابرماس من طرفه لإيجاد خلفية تعايش مشترك وحوار متبادل لأديان متعددة في فضاء عموميّ مفتوح دون إقصاء وعلى قاعدة من المساواة والاعتراف. لكن هذا الطموح تضمنه أصلاً الدولة العلمانية الحديثة فما الجديد الذي يريده هابرماس إذن؟ في الواقع إن مفكرنا مقتنع أن الدولة الأوروبية الحديثة قد قامت، في سيرورة الدمقرطة والعلمنة التي مرت بها، بإقصاء المتدينين أو هي تمارس شيء من التمييز بحقهم على الأقل في النقاشات العمومية المفتوحة وهو يريد أن يعيد لهم هذا الحق المُستلب المزعوم. يجد هابرماس أن المتدينين غير مرحب بهم في الفضاء السياسيّ العام وإنهم مضطرون لتبني خطاب غير ديني ليتم قبولهم فيه، وهو يريد أن يُرحب بهم لا كمواطنين متدينين فقط، وإنما بتصوراتهم الماورائية وبلغتهم الدينية وآراءهم ذات المرجعية الغيبية دون أن يضطروا للفصل بين معتقداتهم ورؤاهم ومواقفهم السياسية. فالفضاء العام السياسيّ يجب أن يكون مفتوحاً للجميع بحسب هابرماس الذي تستند مرافعته على الحجة الآتية: "ليس على الأكثرية المُعلمَنة [...] أن تستخلص أي نتيجة قبل أن تصيخ السمع بانتباه لاستنكار خصومها المتدينين الذين، سيشعرون بالجرح في قناعاتهم الدينية إن ظلت آذان العلمانيين صماء عنهم. وعلى هذه الأكثرية المُعلمنة اعتبار هذا الاستنكار فرصة تسمح لها أن بالتعلم من المتدينين. ثم ينطلق يعدها باسترسال وحمية، أشبه ما تكون بالحمية الدينية في الدفاع عن الدين (ما قبل الحداثي) ليس فقط مقابل العلموية والوضعانية المعرفية وإنما مقابل الفلسفة نفسها معتبراً أن هناك نقصاً تعانيه الفلسفة اليوم "فعندما أصبحت الخطيئة خطأً، وعندما أصبحت خيانة الوصايا الإلهية تجاوزاً للقوانين البشرية، فهذا يعني أن شيئاً ما قد فُقِدَ." ولكن كيف يمكن تعويض هذا الفقد الحاصل الذي لا تستطيع الفلسفة الحالية ولا العلوم المعاصرة ولا نظريات العدالة والأنساق الأخلاقية الحديثة ملأه أو تعويضه فإن جواب هابرماس هو الآتي: "في هذه اللحظات يبدو أبناء وبنات الحداثة غير المؤمنين مقتنعين أن عليهم دَيناً كبيراً أحدهم إزاء الآخر، وأنهم هم أنفسهم في عوز كبير تعوزهم الإمكانيات لبلوغه ليستطيعوا ترجمة التقليد الديني – الذي يبدو وكأن محتواه الدلالي لم ينضب بعد." ولو تساءلنا ما هو هذا العوزالذي يعنيه هنا ويعاني منه بنات وأبناء الحداثة؟ فجواب هابرماس باختصار ووضوح هو الدين. هكذا وفي بحثه عن حل للخروج من مأزق روحي لحداثة أفقدت العالَم سحره بعد أن قتلت آلهته، يرجع هابرماس إلى البحث في ما ورثته الفلسفة من الدين في الماضي اللاهوتي قبل الحديث الذي ترجمت الفلسفة لغته الماورائية إلى لغة معيارية وضعية معقلنة. وعليه فإن الماضي مرة أخرى وأخرى هو من يحدد وجهة هابرماس لما قد يبدو للوهلة الأولى سعي منه لإنقاذ الحاضر لمجتمعات مابعد علمانية ولفلسفة ما بعد ميتافيزيقة. لكن، وككل مرة، بدل البحث في أفق جديد يفتحه المستقبل والتقدّم يسعى هابرماس لتوسل الحلول من الماضي. وهو هنا يعمل على استعادة ماضٍ غيبي، وظلامي غالباً كانت الحداثة الغربية قد ناضلت طويلاً ضد دوغمائيته وظلاميته لتتجاوزه، فتجاوزه كان شرط ولادتها.

Habermas, Textes et contextes, traduit de l allemand par Mark Hunyadi et Rainer Rochlitz, Cerf, 1994, p. 85.
لم يحفل مؤلف هابرماس الأساسيّ الضخم نظرية الفعل التواصليّ (1981) بمجلديه الكبيرين بالسؤال الديني إلا على هامش مناقشته ﻟ"نظرية الدين عند دوركهايم" التي ركّز فيها على الجانب الاجتماعي والإلزام الأخلاقي المرتبط بالمقدّس كمصدر، أكثر من اهتمامه، الذي لم يكن حاضراً حينها، بالدين والموقف الدينيّ. ولن تجد في سفره الآخر بين الحقائق والمعايير (1992) ما يمكن الوقوف عنده حول موقفه من دورالدين في الفضاء العام السياسيّ.

J. Habermas, La pensée post-métaphysique. Essais philosophiques, trad. Rainer Rochlitz, Armand Colin, Paris, 1993, p. 61.
فبالإضافة إلى المقال الطويل "المثالية الألمانية وأعلامها اليهود" (1961)، نجد مقالات وحوارات هنا وهناك تلامس مواضيع لاهوتية. من بين تلك النصوص نجد مثلاً: "في صعوبة قول لا" (1981)، و "التعالي من الداخل، التعالي في هذا العالَم" (1991)، و "إنه لجهدٌ ضائع البحث عن إنقاذ معنى غير مشروط من دون إله: تأملات في ملاحظة لماكس هوركهايمر" (1991) (وهو ما سنتوقف عنده لاحقاً)، و "الحرية التواصليّة واللاهوت السلبيّ: أسئلة لميكائيل ثيونيسن" (1997)، و "أسرائيل أم أثينا: إلى ماذا ينتمي العقل التذكريّ؟" (1997)، ثم " تتبع التاريخ النقيض في التاريخ: شبتاي تسفي لجيرشوم شولم" (1997) وأخيراً الحوار الذي أجراه بعنوان "حوار حول الله والعالم: مقابلة مع إدوارد منديتا". لقراءة هذه المقالات والحوارات ارجع إلى :
J. Habermas, Religion and Rationality: Essays on Reason, God and Modernity, edit. Eduardo Mendieta, Polity Presse, 2002.
انظر كتابه:
J. Habermas, L’avenir de la nature humaine – Vers un eugénisme libéral ?, trad. Christian Bouchindhomme, Gallimard, 2002, p147.
J. Habermas, « Foi et savoir » in L’avenir de la nature humaine – Vers un eugénisme libéral ?, op.cit., p147.
قام الدكتور نظير جاهل بترجمة هذا المقال مع مقال آخر أخذهما من كتاب هابرماس وجوه فلسفية وسياسية (1971) لينشرهما في كُتيب حمل عنوان: يورغن هابرماس، الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي، المركز الثقافي العربي، 1995. في تقديمه لهذا الكتاب يوضِّح الدكتور جاهل سبب اهتمامه بترجمة هذين المقالين تحديداً من مجمل الكتاب بالقول: " لإعادة التفكر والتدقيق بالهويات الفكرية" ص. 8 والهويات التي يقصدها جاهل هنا تتوضّح في سؤاله: "لماذا يدخل الفكر اليهودي الجامعة الغربية ويتسلل مرتاحاً إلى العلوم الاجتماعية فيما تنعت "بالأصولية" أية محاولة يقوم بها الفكر الإسلامي انطلاقاً من العرفان أو التصوف للإسهام في إشكاليات العصر الفكرية بوصفها انتهاكاً دينياً "لحرمات الحداثة؟" ص. 8. دون أن أشارك الدكتور جاهل هذا الرأي الذي لا يخرجنا من حرب الهويات: يهود، إسلام، مسيحية، أو غرب مقابل الشرق الخ، إلا أن قراءة هذا المقال لهابرماس تدعو فعلاً إلى التساؤل عن حماسه الغريب هذا، بل والمبالغ فيه لإعادة كتابة تاريخ المثالية الألمانية انطلاقاً من أسطورة فرادة وألمعية المفكرين اليهود دون غيرهم أو بفضل تسرُّب التصوف اليهودي إلى العلوم الاجتماعية والفكر المثالي الألماني. كان يمكن تفّهم موقف هابرماس في هذا المقال الشبابي المسترسل بوصفه عملية تعويض نفسية بالمعنى الفرويديّ عن ماضي ألمانيا النازي وعن طفولة يورغن هابرماس وانخراطه طفلاً في النازية، لولا أنه يعيد فيه تأكيد تلك الأسطورة الميتافيزيقية بتفوق اليهود على غيرهم من شعوب الأرض والتأكيد عليهم كهويات دينية فوق الجميع. هكذا يجد هابرماس المدافع عن العلمانية أن من السذاجة بمكان عدم الانتباه للأصل اليهودي لهؤلاء المفكرين ليس فقط لأسباب سياسية وإنما لأسباب إبداعية فكرية خالصة تخص من هم من أصل يهودي وحدهم حتى ولو لم يكونوا مؤمنين بهذا الدين. يكفي الأصل هنا. هكذا سيعيد هابرماس اكتشاف الكامن الإبداعي اليهودي في فينومنولجيا هوسرل وفي منطق ولسانيات فتجنشتاين، بل وفي نقد رأس المال عند ماركس، الخ. وبمعنى آخر يُصبح الإبداع الفلسفيّ للمثالية الألمانية ماركة يهودية مُسجّلة فهوركهايمر وأدورنو وفرويد وفتجنشتاين الخ هم يهود قبل أي شيء.
لستُ هنا لنقد اليهود فعلى العكس أنا متعاطف ومتأثر حقيقة وبقوة مع آلامهم وبخاصة تلك التي تعرضوا لها إبان الكارثة النازية، لكنني ضد تزوير وتضخيم ومبالغة وأسطرة الهولوكوست ولهذا سأجتهد هنا في نقد تطرف هابرماس وفضح حماسه غير الموضوعي ولا العلمي ولا العلماني في هذا النص المبكّر له والذي يستوجب القراءة والتأمل. وبالعودة للدكتور نظير جاهل الذي قدّم ترجمة لا بأٍس بها لهذا المقال (مع وجود بعض الأخطاء في التوثيق) إلا أنه يخطئ أيضاً بتأريخ كتابة المقال فهو يرى أن هابرماس كتبه بعد عام 1967 أي بعد هزيمة حزيران المذلة للعرب ليظهر اليهود كملائكة سلام بقوله: "الصمت أبلغ من الكلام والتفكّر بالعلم يُلغي الفلسفة الكلاسيكية، والتفكّر على إسهام اليهود في تشكيل الفلسفة يحجب تاريخ اليهود الحديث: يهود هابرماس هم أنبياء يدعون إلى السلام وقد تم القضاء عليهم، وهو يبكيهم في السبعينات وبعد سنوات على حرب حزيران 1967 ! إنها مفارقة عجيبة مفارقة الداخل الغربي الذي يسلط علينا عنفه نحن "الخارج" الملغى من خلال ضحايا ماضيه الذين يصادرون اليوم مستقبلنا." انظر:
يورغن هابرماس، الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي، ترجمة نظير جاهل، المركز الثقافي العربي، 1995، ص. 7. ومع أن هابرماس جندي مجهول في الدفاع عن دولة لليهود في فلسطين، بل وملكيّ أكثر من الملِك في هذا إلا أن هذا المقال وللأمانة العلمية قد نُشر لأول مرة بالألمانية عام 1961 وليس بعد عام 1967 كما يظن جاهل أي قبل أن يعاد نشره في كتاب مأخوذ من كتاب وجوه فلسفية وسياسية (1971) الذي ترجم الدكتور جاهل عن ترجمته الفرنسية هذا النص ويبدو أن المترجم خلط بين تاريخ نشر المقال وتاريخ نشر الكتاب.
الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي، المعطيات نفسها، ص. 50
المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
المرجع نفسه، ، ص. 51-52.
المرجع نفسه، ص، 83.
المرجع نفسه، ص، 56.
المرجع نفسه، ص، 62.
المرجع نفسه، ص، 73.
المرجع السابق، ص، 90.
المرجع نفسه، ص، 91.
المرجع نفسه، ص، 88.
Le discours Philosophique de la modernité, op.cit., p. 366.
التشديد في الاستشهاد من عندي خ.ن.
المرجع نفسه، ص، 24.
المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
المرجع نفسه، ص، 26.
يُشبِّه هيجل الشاب العقل بالأمم البربرية في حين أنه يُشبِّه الدين بالأمم المتحضّرة ليقول أن الأمم البربرية قد تُخضِع الأمم المتحضرة على مستوى القوة، لكنها تَخضَع لها على مستوى الروح، بل إنه يقدم نقداً مبكراً لعقل التنوير الذي أنتج اللاعقل (وهو نقد سيستعيده كل من هوركهايمر وأدورنو في كتابهما جدل التنوير وسوف ينتهي إلى نفس هذه النتيجة هابرماس نفسه كما سنرى). من جهةٍ أُخرى يرفض هيجل قصر الدين على الإيمان وهو يسير بهذا مساراً ليس فقط ما قبل حداثيّ وإنما أيضاً ما قبل لوثريّ (نسبة إلى مارتن لوثر). كيف يفهم مثل هذا التوجه المحافظ لهيجل الشاب الذي كان ثائراً ضمن حلقة توبينجن Tübingen ومناصراً للحرية، بل ومعارضاً للبروتستانتية المتشددة التي كانت طاغية حينها في لاهوت غوتيلب كريستيان ستور؟ يبدو أن الدراسات المسيحية قد أغرت كل من هيجل وشلينغ اليافعين فتجلت الحلول الأولى عندهما على صيغة تصالحية أصولية مستلهمة من شخصية المسيح نفسه. هكذا وجد هيجل الشاب نفسه على جبهتين في نفس الوقت: جبهة ضد عصر التنوير أولاً وجبهة ضد وضعية الدين التي كان عليها في ألمانيا القرن التاسع عشر ثانياً. لم يكن هيجل الشاب يفكر بدفن الدين الذي قتلته الحداثة وإنما بإعادة إحيائه على نحو ما. في قلب هذه الحمى الدينية الشبابية وتقاطعاً مع بحثه الدؤوب عن فلسفة توحّد ما مزقته الحداثة، وجد هيجل الشاب ضرورة إعادة الدين إلى المجتمع، وإلى روح الشعب، والدولة وممارسات الناس في المجتمع. لقد كان يعتقد أنه بذلك فقط يمكن للدين التصالح مع وظيفة العقل، الذي لم يكن قد أخذ بعد عنده مراحله التطورية الثلاث المعروفة: الذاتي، والموضوعي، والمطلق. هكذا تأرجح هيجل الشاب بين الفلسفة واللاهوت. ولنتذكر في هذا الصدد أنه وبعد دراسته للفلسفة في جامعة توبنجن سجَّل مباشرةً في كلية اللاهوت في تلك المدينة نفسها، لكن دراسته للعقائد المسيحية قد نفرته من اللاهوت فعزف عن أن يصبح قسيساً أو لاهوتياً وعاد إلى أحضان الفلسفة كما صرّح بذلك في كتاباته المتأخرة.
J. Habermas, « Comment répondre à la question éthique » in Judéités- Questions pour Jacques Derrida, Galilée, Paris, 2003, p. 181.
المرجع، نفسه، ص، 181.
المرجع نفسه، ص. 183.
المرجع نفسه.
المرجع نفسه، ص، 196. التشديد في الاستشهاد من قبلي خ.ن.
الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي، ص، 73.
« Comment répondre à la question éthique », op.cit., p. 185.
المرجع نفسه، ص، 185.
المرجع السابق، ص، 192.
المرجع السابق.
يستوحي هابرماس إذن عنوان نصه من كتاب هيجل الإيمان والمعرفة (1802) انظر:
G.W.F. Hegel, Foi et savoir, Kant, Jacobi, Fichte, trad. Claude Lecouteux et Alexis Philonenko, Vrin, 2000.
وهو عنوان كان جاك دريدا قد استوحاه قبلاً في كُتيب حمل العنوان نفسه وقد ظهر عام 1996. انظر:
Jacques Derrida, Foi et savoir suivi de Le siècle et le pardon, Seuil, 1996.
هابرماس كان قد اضطلع أيضاً على نص دريدا واستوحى منه بعض الأفكار وسيكون لنا معه وقفة لاحقاً.
يشغل مصطلح التفكير مابعد الميتافيزيقي عند هابرماس موقعاً مهماً إلى درجة عنونة أحد كتبه بهذا العنوان. وباختصار شديد، يقدّم هابرماس الفكر الميتافيزيقي بكونه "الفكر مابعد الكانطي" أو الفكر اللاحق على فلسفة كانط الذاتية وهو مجموعة الفلسفات الحديثة والمعاصرة اللاحقة على كانط والناقدة للميتافيزيقا الغربية قصد القطيعة مع تقاليدها. وهو يقدِّم هذا التغيير في بارديغم التفكير مابعد الميتافيزيقي على النحو التالي: "أربع ثيمات تميز القطيعة مع هذا التلقيد تحدّدها الكلمات المفتاحية التالية: التفكير مابعد الميتافيزيقي، التحوّل اللغويّ، العقل المتموضع، وقلب الأولوية في العلاقة بين النظرية والتطبيق، وبمعنى آخر تجاوز التمركز على العقل." انظر: التفكير مابعد الميتافيزيقي، المعطيات السابقة، ص، 12. ثم يجمل هذا التوجه في التفكير ما بعد الميتافيزيقي في أربعة تيارات كبرى طغت على المشهد الفلسفي في القرن العشرين وهي: الفينومينولوجيا، والفلسفة التحليلية، والماركسية الغربية، والبنيوية. وقد سعى هابرماس لإعطاء نظريته التواصلية مكاناً خاصاً في إطارالفكر ما بعد الميتافيزيقي مميزاً لها عن بقية التيارات الأربعة التي تتقاطع معها على أي. فهو يرى مثلاً أن اجتهاد هذه المدارس الفكرية في نقد الميتافيزيقا لم يكن كافياً للخروج منها فظلت عالقة بفلسفة الذاتية المؤسَّسة مع كانط في الحداثة الغربية وعلى بعض هذه التيارات انصب جهده النقدي في الخطاب الفلسفي للحداثة على سبيل المثال لا الحصر. بينما يُصرُّ على أن نظريته الخاصة في الفعل التواصلي هي وحدها القادرة، بفضل التواصل البينذاتي، على كسر الذاتية الميتافيزيقية الكانطية. لا شك أن هذا الكلام قد أثار جدلاً عنيفاً خاضه هابرماس مع نقاده مما دفعه في النهاية على ما يبدو إلى قبول تصنيف أعماله ضمن التفكير مابعد الميتافيزيقي دون كثير جدل.
« Foi et savoir », op.cit., p. 148.
المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
المرجع نفسه، ص، 149.
المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
المرجع نفسه، ص، 156-157.
المرجع نفسه، ص، 157.
المرجع نفسه، ص، 159.
المرجع نفسه، ص، 160.
المرجع نفسه، ص، 161. ما يقصد هابرماس هنا بترجمة التقليد الديني أي تحوله مع الحداثة من صيغة دينية إلى صيغ علمانية وضعية كأن تتحول الوصايا إلى قوانين، والشر والخير من قوى فوق طبيعية إلى معاني أخلاقية وقوانين مكتوبة لنظرية في العدالة الاجتماعية، الخ.