المقدمة غير الضروريّة


خلدون النبواني
الحوار المتمدن - العدد: 3543 - 2011 / 11 / 11 - 22:33
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

عادةً ما يبتدأ الكِتاب ﺑ "مقدمة" أو ﺑ "مدخل" بل أن بعض الكُتَّاب يفتتح مؤَّلفه ﺑ "كلمة لا بد منها"، حتى اعتدنا مع هكذا تقديم، وبشكلٍ لا واعٍ، على ترتيب النصّ في تسلسلٍ خطيِّ يسير من مقدمة ويمر بمتن وينتهي بخاتمة.
ولو تأملنا قليلاً هذه العبارات التي غالباً ما يُستهلُّ بها الكتاب من قبيل "مقدمة" أو "كلمة المؤلّف" أو "كلمة لا بد منها" أو "مدخل" أو "مدخل ضروري"، لوجدنا أنها تحوَّلت مع العادة وكثرة التكرار إلى تميمة لازمة أوليّة أو إلى بسملة تسبق التلاوة أو إلى فاتحة للكتاب. هكذا اقتنعنا بوعيٍّ أو بدون وعي بأن المقدمة هي أمرٌ واجبٌ لا بُدَّ منه وظننا أنها العتبة الضروريّة التي تفصل داخل النص عن خارجه أو النقطة الحدوديّة الوحيدة التي تفصل تخوم النص عما يخارجه أو أنها قنصليّةُ النص الوحيدة المخوَّلة بمنح تأشيرات الدخول إلى أراضيه.
ليس الأمر أقل تسلطاً مع عنواني "كلمة المؤلِّف" أو "كلمة لا بد منها"، فنحن هنا نواجه سلطة البواب أو الحارس الذي سيُحدِّد لنا ما يجب أن نزوره في الداخل الذي يسهر هو على حراسته وأمنه وعدم العبث بمحتوياته. هنا يظن الكاتب/البواب أنه الشرطيّ الذي ينظم السير على طُرقات النص وأنه من يعطي تعليمات المرور. مع "كلمة المؤلف" نواجه سلطة الكاتب الذي يظن نفسه واهماً، سيداً على نصه أو خالقاً له والذي يريد أن يخدعنا (بل قد يكون هو بالأصل مخدوعاً) بأنه الوحيد الذي يمتلك مفاتيح نصوصه وإننا لن نستطيع بدون هذه المفاتيح من فض مغاليق خطابه وأننا سوف نتوه في متاهات النص الكثيرة والمتداخلة إذا لم نتبع بدقة الخرائط التي يقوم هو بتزويدنا بها. إن "كلمة المؤلف" هي سلطة الكاتب في إبراز ما يريد إظهاره من نصه بالتركيز على بعض جوانبه وإخفاء بعضها الآخر وذلك بالصمت عنها. إن كلمة المؤلِّف التي تظهر في "بداية" الكتاب ما هي إلا نقطة تفتيش check point تحاول أن تُجرّدنا من كل أحكامنا التي قد لا تناسب سلطة المؤلف التي تسعى إلى إجبارنا على السير على الطرقات التي يحددها هو لنا.
أما مع عبارة "مدخل" أو "مدخل ضروري"، فإننا نشعر كما لو أن للنص باباً واحداً أو ممرَّاً إجبارياً باتجاه وحيد. كما لو أن من يضع هذا "المدخل" يريد أن يفهمنا بأنه يريد بنا خيراً فهو يعرف طبوغرافيا النص عن ظهر قلب وهو يريد بهذا أن يوفّر علينا الوقت والجهد. فهو بمعرفته بتفاصيل النص بزواياه وخباياه يريد أن يأخذنا من يدنا برفق ليرينا أجمل ما عنده عبر أيسر السبل وأسهلها.
الآن ماذا لو تمردنا على سُلطة المؤلِّف ورفضنا الإصغاء إلى نصائحه أو الدخول بشكلٍ رسميٍّ إلى نصه؟ ماذا لو تسللنا عبر الحدود وتركنا لأنفسنا اكتشاف تضاريس النص وخفاياه دون أن نكون مجبرين عندها على مراقبة الأشياء من خلال النظّارات الإجبارية التي تُمنح لنا وتلصقُ على أعيننا عند "المقدمة" أو "المدخل" او "كلمة المؤلّف"؟ ماذا لو ثرنا على الخطوط المستقيمة التي يُسطٍّر عليها الكاتب خطابه؟ وماذا لو ذهبنا عكس السير وعكس اتجاه القراءة؟ ماذا لو تجاوزنا خطوطه الحمراء وتحررنا من ثقل وصاياه التي حمَّلنا بها عند "المقدّمة"؟ ثم ماذا لو بدّلنا ترتيب فصول الكتاب؟ إن الشيء الوحيد الذي أضمنه في كل هذا هو الحصول على مفارقات مذهلة واكتشافات جديدة لم تكن لا على بالنا ولا حتى على بال كاتبها.
إنني إذ أقول هذا، فإنني لا أسعى إلى تهميش المركز ومركزة الهامش، بل إنني أحاول أن أفتح النص من جميع جوانبه بحيث تصبح كل كلمة فيه مركزاً أو مدخلاً ومقدمةً ونقطة عبور إلى النص. إنني أسعى بذلك إلى تجريد الكاتب من كل سلطاته وسرقة كل مفاتيحه لا لكي أوزعها على القراء بل لكي أرميها مانحاً القارئ بذلك مزيداً من الحريّة في التعامل مع النص ودافعاً إياه إلى سلوك الدرب الذي يريده.
أحرص شخصياً أن تكون أبواب نصوصي قابلة للفتح من كل الاتجاهات: نحو الداخل والخارج أو هي كالباب "القلاّب" الذي يفتح لأعلى ولأسفل لتسهل حرية الحركة، بل ربما قد تكون نصوصاً بدون أبواب ولا حدود. وليس على من يقرأني أن ينتظر منيّ أن أُقدِّم له مفاتيح نصوصي، فأنا لا أمتلكها، بل أترك له حرية اكتشاف ما يريد من حقائق، بل واختراع تلك التي يبحث عنها ولا يتفاجأن أحدٌ أبداً إذا ما رآني أبحث مجدداً بين "سطوري" عن مخرجٍ لبابٍ قمتُ بصناعته ونسيت أن أصنع له مفتاحاً.
ها أنذا إذن أترك للقارئ حرية التجول على وبين سطوري فأنا لا أُحب في الحقيقة تبرير نصٍ من نصوصي فهو فضيحتي التي لا أخجل منها ولا أزعم أبداً أنني أُسيطر عليه أكثر من القارئ. إن قراءتي من جديد لنصٍ من نصوصي تجعلني مثلي مثل أي قارئ آخر يطلع على النص لأول مرّة، فأتفاجأ به وأتعلَّم منه وأُعجب بما يقول أو أرفضه وأندم عليه حتى أنه يخطر لي أحياناً أن أرد على بعض ما جاء فيه. قراءة القارئ تضيء أشياء كانت مجهولةً حتى بالنسبة لكاتبها فهي تخترع فرضياتها الخاصة وتلصقها بالنص إلصاقاً أو تهمل منه جوانباً وتضيف عليه أشياء فتطيل النص وتمده أو تختزله وتعيد صياغته أو تكثيفه.
قد يظن البعض أن مثل هذه الدعوة إلى تجاوز "المقدمة" وتحريكها من مكانها، هي ضربٌ من العبث الصبيانيّ الفرح بتمرده المراهق على كل ما هو نسقيّ مضبوط وعقلانيّ، أو هي سعيٌ إلى تقويض النص وتفكيكه. أذكِّر هؤلاء أن كبار من خلخلوا الوعي البشري قد كشفوا بلا رحمة عن مفارقات ما كان بديهيّاً وواضحاً وقائماً بذاته ابتداءً من إبراهيم الذي حطّم الأصنام مروراً بداروين الذي جعل الإنسان سليل الحيوان وليس صورةً عن الله وصولاً إلى أينشتاين الذي كشف أن الزمان والمكان ليسا مطلقين كما تقول البداهة البسيطة أو فيزياء نيوتن.