من المعلم الدكتاتور إلى الأستاذ الديمقراطي


خلدون النبواني
الحوار المتمدن - العدد: 3966 - 2013 / 1 / 8 - 06:11
المحور: المجتمع المدني     


لعل شخصية الدكتاتور في مجتمعات الاستبداد تكاد تكون نمطية عند الجميع وبخاصة الذكور فتاريخياً ولد الاستبداد في المجتمعات البطريركية الأبوية التي يهمين فيها الأب الذكر.
شخصية الدكتاتور إذن عامة نمطية تأخذ شكلاً هرميّ من الدكتاتور الأب (بالمناسبة كل الدكتاتوريين يقدمون نفسهم بوصفهم آباء الشعب كان هذا حال حافظ الأسد ومبارك والقذافي وصدام حسين الخ الخ) نزولاً إلى التراتب الوظيفي الذي حتى ولو كان بصيغته المدنية فهو ترتيب عسكريّ بحقيقته في المجتمعات الاستبدادية وعليه لا يختلف مدير مؤسسة عن عميد قطعة عسكرية مثلاً. في مثل هذه المجتمعات يكون الذكر دكتاتوراً على من هو "أدنى" منه في الرتبة أو المكانة الوظيفية أو حتى في البنية النفسية والجسدية حيث يستمر هذا التسلسل الهرميّ الدكتاتوري نزولاً إلى أن نصل إلى المرأة التي تتقمص بدورها شخصية الرجل الدكتاتور فتصبح ضحية الدكتاتورية والحافظة لها بنفس الوقت (يتجلى هذا مثلاً في دفاع الكثيرات من النساء عندنا عن حق الرجل في سلطته ووراثته للمرأة وبأنه أرجح وأكفأ وقوّام عليها أو في دفاعهن عن حق أزواجهن في الزواج من غيرهن لأن الشرع ـ وهو ذكوري بامتياز بالمناسبة ـ يسمح له بالزواج من أكثر من امراة).
شخصية الأب بوصفه رب الأسرة والآمر الناهي فيها وواضع القوانين وحامي حمى "شرف" العائلة هو المُشكلة الأعقد والأصعب معالجة في مجتمعاتنا وهي الشخصية الدكتاتورية المؤسِّسة لبقية الدكتاتوريات وهي الأبلد على التغيير بخاصة أنها مدعومة بنصٍ ديني قروسطي وبتأويلات محصورة بتلك الحقبة. وللتخلص من الاستبداد فعلياً لا شكلياً لا بد من قطعه من جذوره أو معالجة الذهنية الذكورية الاستبدادية العائلية التي تمثل المُناخ والحاضنة للاستبداد السياسي. نحن نحتاج فعلاً القيام بثورة على عقلية الرجل الأب، والزوج الدكتاتور والأخ الإرهابيّ.
ولكن هذا الموضوع يحتاج بحثاً معمقاً وتشارك جهود عدّة في تقييمه وتقويمه والعمل الدؤوب وطويل النفس لتحقيق تغير مع الزمن فيه وبخاصة عن طريق سن قوانين تداولية تقوم على أساس المساواة بين الرجل والمرأة. إن ما أود التطرق إليه في هذه الورقة الصغيرة هو مستوى آخر من الشخصية الدكتاتورية التي تتجلى في "المُعلم" أو مؤسسة "التعليم". لوحدها كلمة "المُعلم" تُشير وبشكلٍ لا واعٍ إلى صاحب العلم والمعرفة المُلقن لها لمن هم لا يعلمون. إنه وبشكل ما يحتفظ بتلك الدلالة الدينيّة القديمة نوعاً ما لشيخ الكُتّاب الوصيّ على الدين الذي يُعلمه للطلاب بالضرب والتخويف والعقاب.
المُعلمُ عندنا هو النسخة "المُعاصرة" عن شيخ الكُتاب.
في المُجتمعات الاستبدادية هُناك خوف من حرية التفكير واستخدام العقل والشك في ما تعتبره البنية الاستبدادية "مُقدسات" سواء أكانت ذات مرجعية لاهوتية دينية أو سياسيّة لا تُناقش لأنها تمسُ بمصالح الحاكم وقد سبق وأشار إلى ذلك عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". البنية الأستبدادية لا تريد مفكرين ولا باحثين ولذلك هي لا تقوم بتمكينهم من أدوات البحث الحُر والتفكير النقدي لأنها وببساطة المعاول التي يمكن أن تهدم أية بنية سياسية فكما قال هيغل إن ثورة العبيد على أسيادهم لم تتحقق إلا عندما امتلك العبيد وعياً بكونهم مُستعبدين ومنتهكي الحقوق. الدولة الاستبدادية تُحارب الوعي والثقافة وذلك باحتكارها لمثل هذه المؤسسات التي يقتصر دورها على تلقين الحقيقة مُسبقة الصنع التي تخدم مصلحة الحاكم وتمنع من تسلل الوعي النقديّ وحراسة أي اختراق يمكن أن يفتح الباب مُستقبلاً أمام وعيّ رافض للاستلاب. وهذا ما يُفسر أيضاً عسكرة مؤسسات التعليم التي تعج بالمخبرين والوشاة والمراقبين وإخضاعها للبوط العسكريّ.
لا بد لي إذن في هذا الإطار أن أُميز بين واقع حال "مؤسسات التعليم" الشمولية البوليسية العسكرية المخابراتية في المجتمع الاستبدادي وبين مؤسسات ديمقراطية لا تقوم بعملية التلقين والتعليب والبسترة للعلم وطرق البحث وآفاقه وميادينه وبين مؤسسات التدريس التي يتوقف فيها العلم والوعي أن يكون مُحتكراً من قبل المؤسسات الأمنية للدولة.
لا بد إذن من أن نتخلص مما سأسميه "عُقدة المُعلم" الوصي على العلم والمعرفة الذي يقوم بالتعليم وتلقين الحقيقة فهو الذي يعرف وهو الذي لا يُخطئ وهو الذي يقول ويُعطي الدروس وهو من يقوم بالتصحيح وهو من يضع خطوطاً حمراء على الأفكار وملاحظاتٍ على الهوامش بقلم أحمر وهو من يُمثل المؤسسة ويحميها ويستند إلى سُلطتها المُطلقة وهو الذي يُمثل السُّلطة. إنه صاحب عصا المعاقبة ونظرات الوعيد والابتسامة الساخرة من جهل الآخرين. في المجتمعات الاستبدادية هناك من يُقرُ ويسنُ ويُشرّع الحقائق بوصفه السلطة العليا أي الدكتاتور أو المنظرين لسياساته ثم هناك من يقول بتلقين هذه الحقيقة ثم تقمصها فهو ممثل من يخلق الحقيقة وحاميها ووكيلها وهي مهمة المعلم الدكتاتور.
لا بُد إذن من تحطيم هذه الصورة النمطية للمعلم المُستبد والتوجه نحو صورة جديدة ديمقراطية منفتحة للأُستاذ الذي لا يقوم بالتلقين والمعاقبة فهي ليست مهنته في مجتمع ديمقراطي وإنما مساعدة أولية في التوجيه وفتح الأبواب أمام الأجيال وتحفيز إمكانياتهم ومواهبهم وتمكينهم من الأدوات الفكرية والمعرفية. ليس الأُستاذ هنا هو الشخصية الحاكمة والسُّلطة العُليا بقدر ما هو قاطع التذاكر ومسؤول الاستعلامات وعامل الصيانة والوقود في رحلة اكتشاف العالم والذات...
في مثل هكذا مؤسسات مأمولة سوف تنتهي قصة الكتاب الجامعي المرجع الذي يسود جامعاتنا والذي ليس بالنهاية سوى رمز لسُلطة النص المُقدّس أو الكتاب بأل التعريف. في مثل هكذا مؤسسات يمكن أن نتحلل من عُقدة الأستاذ أو لقب الدكتور (الذي يّذكرني دائماً بلقب الدكتاتور) الذي يسود جامعاتنا المُهترئة. دكتور الجامعة عندنا هو دكتاتور صغير ينتفخ كالبالون ويشعر ـ لأنه امتلك شيئاً من المعرفة التقنية بموضوع ما ـ أنه إله جديد يعلم ما لا يعلمون ولا يُسأل وهم يسألون. في مثل ذلك الأفق فقط ستنتهي صورة ذلك الدكتور الدكتاتور الذكريّ الفحل الذي يبدأ محاضراته عن الديمقراطية والحرية بعبارة: اعلمْ أن ...
.