ثلاثة أيام بصحبة هابرماس في باريس


خلدون النبواني
الحوار المتمدن - العدد: 4621 - 2014 / 11 / 1 - 14:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

من 29/10/2014 ولغاية 31/10/2014 عُقد في باريس مؤتمر دولي حول أعمال الفيلسوف الألماني يورغين هابرماس وبحضوره وقد كنتُ شخصياً مدعواً له لتقديم مداخلة. التقيتُ بهابرماس في اليوم الأول من المؤتمر في جامعة السوربون. كان منظمو المؤتمر قد حجزوا لنا المقاعد الأولى نحن المشاركون مع بعض المدعوين الخاصين. كنتُ أجلس في بداية القاعة مع بعض الزملاء المشاركين وكان هابرماس يبتسم ويصافح بحرارة. وصل إليّ وما أن قلتُ له اسمي حتى قال لي أنت من الأشخاص الذين أساؤوا فهمي وعلي أن أشرح لك شيئاً. أنا متأكد أن هابرماس لم يكن قد سمع بي قبل المؤتمر ولم يكن قد قرأ ما كتبتُ حوله في كتابي أو بعض ما نشرتُ بالانجليزية. كل ما في الأمر أنه طُلب منا إرسال ملخص قصير جداً عن المداخلة ليطلع عليه هابرماس. قال لي قرأتُ نصك وهو مهم ولكن، ثم دخل في سلسلة شروحات حول موقفه المتغير من الحداثة. كان نقاشنا باللغة الإنجليزية ولم يتجاوز العشر دقائق لكن شعوراً بالانقباض والتوتر ساد تلك الدقائق ولم ينتهِ مع نهاية المؤتمر. كان المشاركون الذين لم يتجاوزوا ال 15 عشر بما فيهم هابرماس من جامعات أوروبية وأمريكية وبعضهم ذو شهرة واسعة وباع طويل وكان البرنامج يجمعنا معاً سواء في الغداء أو العشاء أو المحاضرات وحتى في المواصلات المخصصة للمؤتمر وقد دارت الكثير من النقاشات وتعرفت على العديد من الأسماء التي كنتُ قد قرأت لها. اعترف أنني تجنبتُ هابرماس بعد ذلك طيلة ايام المؤتمر وقد فعل نفس الشيء. حتى ابتسامة المجاملة لم استطع عليها كثيراً. كنتُ أُذكّره على ما يبدو ـ من خلال النص الذي قرأه لي بأشباح هايدجر ودريدا ـ وهو ما حاول التخلص منه مراراً وهو ما ألمح لي به في الدقائق التي جمعتنا.
كانت مداخلتي في اليوم الثالث وهو نفس اليوم الذي قدّم فيه هابرماس محاضرته. في اليومين الأوليين كان هناك العديد من المداخلات المهمة. قلّة هم من اتفقوا مع هابرماس في كل شيء وكانت معظم المداخلات نقدية تؤكد بأن هابرماس يُمثّل مرحلة يتم تجاوزها اليوم وبخاصة لدى الجيل الشاب دون أن يقطعوا معه تماماً. الشيء الذي أكّد لي غربتي قليلاً عن الجو العام للمؤتمر هو تلك البحوث الدقيقة التي امتصت الفلسفة ولم تترك منها سوى جلدة رقيقة وكنتُ أرى في المداخلين بما فيهم هابرماس باحثين احترافيين اختصاصيين مع فارق أن هابرماس كان ثورة فعلية في مجال العلوم الإنسانية التي أعاد بناءها من موقع علوم الاجتماع أكثر من الفلسفة التأمليّة. محاضرة واحدة شدّت انتباهي وتقاطعت مع ما أريد أن أقول وهي لأستاذة فرنسية شابة في جامعة السوربون أعادت الاعتبار للجيل الأول من مدرسة فرانكفورت وبخاصة أدورنو على حاسب التوجه الهابرماسي الذي قطع إلى حد كبير مع أبناء الجيل الأول. وقد تفاعلت كثيراً مع محاضرتي واتفقنا في الرؤية العامة.
الملفت جدّاً في هابرماس خلال أيام اللقاء هو طاقته العالية وقد بلغ من العمر 85 سنة. كان هابرماس يُصغي إلى كل المداخلات بانتباه غريب وكان يُطالب بترجمة المداخلات والأحاديث حتى يكون التواصل جيداً ومفهوماً. اعترف أنني لم أستطع التركيز على كل المداخلات وأنا بعمري الذي لم يبلغ الأربعين بقدر حرص هابرماس واهتمامه واصغائه الدقيق. أتذكر غضبه (وقد فاجأني) عندما وجد أن المحاضرات التي قُدمت في اليوم الثاني باللغة الألمانية لم تكن مترجمة مباشرة. لم يترك هابرماس مداخلة واحدة لم يرد عليها وكان يأخذ المايكرفون متحدثاً وهو واقف لأكثر من نص ساعة مناقشاً وراداً على المداخلين.
محاضرتي كانت البارحة وفعلاً كانت خارج السرب إلى حدٍّ ما. فقد بدأتها بالحديث عن أن المداخلين الذين سبقوني قد حللوا وناقشوا بعناية مؤلفات هابرماس: ما قاله وما كتبه، بينما سأتحدث أنا عمّا لم يكتبه هابرماس وما لم يقله في مؤلفاته. قلتُ أن محاضرتي إذاً عن الغياب وعمّا حاول هابرماس تجنبه وتحاشيه في مؤلفاته الكثيرة وحياته الطويلة. طبعاً كنتُ أقصدُ بذلك أنني سأتناول نصوصه هو ولكنني لن اكتفي بما تعرض وتفصح عنه وإنما بما تحجبه وتقصيه وتخفيه. تناولت إذن ما اعتبرته موضوع غياب الاستطيقا في فكر هابرماس والتي كانت محوراً رئيسياً لدى الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت ومحركاً للتغير بطاقة الفن والأدب السلبية المتجاوزة للواقع لصالح خطاب واقعي جداً وعملاتي عند هابرماس. تتبعتُ مؤلفات هابرماس مُفككاً من سنوات الستينات ولغاية سنوات الثمانينات وقد تساءاتُ عن الغياب شبه الكامل للمسألة الجمالية في الفن والأدب في فلسفته قبل سنوات الثمانينات. ثم عودته إلى هذا الموضوع مع سنوات الثمانينات ولكن ليصفي حسابه مع الفن والأدب مع أن خطابه يقول عكس ذلك صراحة. توقفتُ طويلاً عند مقدمة هابرماس لكتابه "الخطاب الفلسفي للحداثة" التي يؤكّد فيها أن الخطاب الفني والأدبي يتقاطع مع الخطاب الفلسفي للحداثة، لكن عليه أن يحدد موضوعه وبالتالي فأن كتابه هذا، كما يقول حرفياً، لن يتناول الحداثة الجمالية والأدبية. قلتُ أنني أصدقه حرفياً وأثق بما يقول لكن قراءتي للكتاب تُثبت عكس ذلك وهو أنه كان يحارب أشباح الأدب والفن في كل صفحة تقريباً من الكتاب. ذكرتُ النظريات الجمالية التي انتقدها بحدة بأرقام الصفحات وكيف أنها شغلت معظم أجزاء الكتاب وإن ما حاول إقصاءه اضطر إلى استدعائه لا واعياً ليتصارع مع اشباحه.
لقد كانت قراءتي تفكيكية وأزعم أنها كانت دقيقة وموثّقة بعناية ومع أن هابرماس اعترض عليها بتشنج إلا أنه أقر بشكل ما أنه قد فعل ذلك دون أن يقصد. كنتُ أود في مداخلتي أن أقول أن النظرية التواصلية عند هابرماس تُقصي ما يسميه "آخَر العقل" تماماً مثلما يفعل العقل المتمركز على ذاته الذي لم يتواني هو شخصياً عن نقده منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
سعيد لأن مداخلتي غيّرت الجو والمناخ السائد وتركت صدى ونقاشات جانبية.
كان على هابرماس أن يذهب وكانوا يأخذون معه الصور. عرضتُ عليه أن نأخذ صورة معاَ فأبدى امتعاضاً واضحاً لذلك فاعتذرت منه وقلتُ له لا بأس لا أريد ازعاجك ومع هذا امسكني لحين أخذ الصورة وقال لي it s okay. عاد هابرماس إلى ألمانيا وأتمنى له من كل قلبي عمراً طويلاً ومزيداً من العطاء.
أتمنى أنني نجحتُ أن أقول له بشكل ما "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" وأن الإنسان ليس مجرد كائن اجتماعي واعٍ متكلم ساعٍ للتفاهم أو أنه مجرد مواطن دولة" هو كذلك لا شك، لكن الإنسان أكثر من ذلك وليس على المجتمع ولا النظريات أن تحوله إلى مجرّد فرد في مجموعة تنسيه وجوده الفرديّ وأسئلة انطولوجيا الذات والوجود...