الكتابة الإلكترونية والولوج في العوالم الأُخرى


خلدون النبواني
الحوار المتمدن - العدد: 4967 - 2015 / 10 / 26 - 23:40
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

لم يكتب الفيلسوف سقراط أفكاره، بل كان يقوم بها جدلاً وحواراً شفاهياً معتبراً الجدل بالصوت الحي مع الناس هو الوسيلة الأصيلة لتوليد الأفكار. أفلاطون هو من دوّن كتابةً أفكار سقراط، لكنه أصرّ في محاورة فيدر على أن الكتابة هي صورة مشوّهة عن الكلام المباشر فما هو مكتوب لا يستطيع، بحسب أفلاطون، أن يدافع عن نفسه أو يجيب عن الأسئلة التي توجّه له أو أن يختار من يريد التوجه إليه بالكلام على خلاف النقاش الحي وجهاً لوجه. أدان أفلاطون الكتابة إذن بوصفها محاولة تذّكُّر للخطاب المُقال فهي محاولة بديلة يلجأ التفكير إليها لحفظ الخطاب المُقال من النسيان.
ميلاد الكتابة إذن أخاف أفلاطون الذي تربى في جيلٍ يرى في الخطابة والبلاغة الصوتية المباشرة (سقراط والسفسطائيين) مصدر أصالة الفلسفة الذي لا يمكن الاستغناء عنه إلا بحزن. لكن ورغم إدانته للكتابة وتمجيده للخطاب الشفويّ إلا أن الكتابة انتشرت كالمطر في أرضٍ عطشى للماء دون أن تمنع بتجذُّرها في عالم الفكر والمعرفة الخطابَ والجدلَ المباشَرين من الاستمرار والتطوّر. بفضل الكتابة وصلت إلينا أفكار الفلاسفة بما فيهم أفلاطون نفسه وتعرّفنا من خلالها على تواريخ الأمم وعلوم الأولين، بل وتفوّق الجديد (الكتابة) على القديم (الحوار الشفاهيّ). هكذا حلّت الكتابة اليدوية وعمليات النسخ إذن محل القول الشفاهي فتم تدوين النصوص بنسخها باليد، بالريشة والحبر، بما فيها النصوص الدينية فنحن نعرف من خلال ما وصلنا من كُتب التأريخ الإسلامي أن النبي مُحمد قد طلب ممن يجيدون الكتابة (كتبةُ الوحيّ) أن يقوموا بنسخ الآيات على ورق البُرديّ بينما يتلوها هو على الناس شفاهةً حيث سيتم جمعها لاحقاً في مصحف واحد في عهد أبي بكر الصدّيق. لكن الكتابة اليدوية هي عملية بطيئة مُرهقة، نُظر إليها بوصفها كذلك بعد اختراع آلات الطباعة الميكانيكية التي فرضت نفسها فعلياً مع اختراع المطبعة على يد المخترع الألماني يوهان غوتنبرغ في القرن الخامس عشر مثوِّرةً بذلك من عملية نقل المعرفة ومُسرِّعة من سيرورة نشر الكتاب بمختلف مواضيعه العلمية والثقافية والدينية والفكرية الخ. لكن وكما يحدث دوماً مع ظهور الجديد يتمسك القديم بتلابيب الوجدان فيشعر الناس الذين اعتادوا على شيء ما بالأسف على لأفوله بل وربما يشعرون غالباً بكُرهٍ خفيّ غير معروف السبب تماماً للجديد الذي سيحل محل القديم. هكذا افتقد قُراء المخطوطات متعة الصنعة البشرية وتجليّ روح الناسخ في الحروف والزخارف التي كانت تشي بمن خطّها بيده بعد أن حلّت محلها الحروف المطبوعة المصبوبة في قوالب متشابهة لا نميز فيها خط هذا الكاتب أو الراقن عن غيره. لكن مع ذلك، ورغم نوستالجيا المخطوطات، نجحت الطباعة الآلية أن تحل وبسرعة مكان النسخ الحرفيّ اليدويّ وتأقلمت الأجيال الجديدة قروناً مع هذه الآلية التي اعتبرت ثورة في وقتها وصاروا ينظرون بعين الشفقة على أولئك النُّساخ الذين كانوا يُمضون اللياليّ بعد أن تكلَّ أيديهم وعيونهم في نسخ النصوص وتنضيدها يدوياَ. بعد اختراع المطبعة جاء ابتكار الآلة الكاتبة اليدوية لينقل حيِّز الكتابة من المطابع العامة إلى الحيز الفرديّ الشخصيّ فصار بإمكان الكاتب أن يرقن نصه بوضوح على آلة كاتبة يمتلكها دون الحاجة إلى نسخ نصه يدوياً على أوراق قبل إرسالها إلى المطبعة بعجرها وبجرها بما يتضمن البجر صعوبات فك خطوط بعض الكتاب السيئة جداً وغير المقروءة والإساءة للمعنى.
اليوم يوماً يشهد حقل الكتابة ثورة جديدة مع الكتابة الرقميّة التي ثورّت عالم الكتابة من جديد وسهلّت إمكانية التعامل مع النصوص بشكل مذهل لا يني يتطوّر يوميّاً. لا أظن أحداً في عالم الكتابة من أبسط أشكالها إلى أكثرها تعقيداً لا يلجأ اليوم إلى الكتابة الإلكترونية سواء من أبسط مواضيع التعامل اليوميّ كالكتابة على الفيسبوك أو كتابة الإميلات مروراً بالمواقع الثقافية الإلكترونية والمنتديات المنتشرة كالعناكب على الشبكات العنكبوتية وصولاً إلى كتابات الأطروحات الأكاديمية الأكثر تعقيداً بلغاتها ورموزها التي قد تبدو طلاسم لغير المختصين وكل ذلك بفضل تقنيات الكتابة الإلكترونية الرقمية.
لاشك أننا نحن الذين اعتدنا على الكتاب الورقيّ لعقود وألفنا احتضانه بين يدينا وتقليب صفحاته نشعر بقلق يشابه ذلك القلق الذي شعر به أفلاطون إزاء ولادة الكتابة التي راحت تحل يومها مكان الحوار الشفاهيّ أو بالإحساس بذلك الكره الخفي للكتابة الرقمية فنعيش من جديد، وإن بأسماء مختلفة، أزمة أسلافنا الذين شعروا بالتعلق الشديد بالمخطوطات اليدوية بعد أن داهمهم انفجار ثورة الطباعة الميكانيكية. لكن مرّة أخرى نحن أمام مجرى التاريخ الجارف وقوة التقنية التي أدرك هايدجر أنه يستحيل مقاومة سيلها الجارف وأثره على الحياة فيبدو لنا الجديد مرفوضاَ والقديم هو الأصيل فقط. شأنا أم أبينا إلا أننا نعيش انعطافاً جديداً في عصر الكتابة تتراجع فيه وبسرعة قياسيّة الكتابة المطبوعة على الورق ليحل مكانها الكتابة الرقمية الافتراضيّة، بل و"الكتابة" السمعية البصرية حيث يطغى اليوم تلقي المعرفة عن طريق الفيديو والكتاب المسموع والتعليم الافتراضيّ عن بعد على وسائل التعليم التي تدخل أرشيف الكلاسيك باطراد. لعل بعضنا يتذكر تلك اللوحة الكاريكاتورية التي قد تبدو مؤلمة، لكنها تُعبّر عن واقع يتغير والتي تصوِّر زيارة طفل لصديق له في بيته فيجد خزانةً فيها أشياء غريبة عليه لم يرها الطفلُ الزائر من قبل فيسأل مُستضيفه عنها فيجيب الطفلُ المُستضيف شارحاً كالخبير في متحف اللقى التاريخية: إنها شيء قديم كان يُسمى مكتبة على ما قيل لي كانت لجديّ وقد أراد والدي الاحتفاظ بها كذكرى. رغم ذلك الرفض والعناد والتردد المفهوم تجاه الكتابة الرقمية إلا أنها ستنجح وتحل ـ شئنا أم أبينا، أحببنا أم كرهنا ـ مكان الكتاب الورقيّ. فهذا النوع الجديد من الكتابة يختصر تفاصيل ومتاعب وإنفاقات الطباعة الورقية والإنفاق البشري والهدر لموارد الطبيعة. فمع الكتابة الالكترونية سيتم توفير استهلاك الحبر والأوراق أي، بالمحصلة، ستُخفّف من انتهاك البيئة التي تئنُّ بسبب حماقات الإنسان وذلك بالكف من قطع الأشجار لصناعة الورق؛ كما أن الكتابة الإلكترونيّة ستوفّر منأعباء صاحبت لقرون الطباعة الورقيّة مثل عمليات تخزين الكتب ومخاطُر تعرُّضها للتلف والرطوبة والتمزُّق وانفراط أوراق الكتاب أو احتراق المكتبات أو حرقها في هولوكوست للكتب وللمكتبات كما تشهد على ذلك بعض صفحات التاريخ السوداء. كما أن النشر الإلكترونيّ سيُخفّف من أعباء شحن الكُتب وتكاليف ذلك وحجز مكتبات لبيع الكتب الورقية وتسويقها الخ. مع الثورة الجديدة في عالم الكتابة يمكن لأي شخص أن يشتري كتاب إلكترونيّ وهو في بيته عبر عمليات الشراء الإلكترونيّ التي التسوّق الالكترونيّ وطاقات التخزين الهائلة التي تتيحها الأقراص المضغوطة ووحدات التخزين الالكترونية بحيث يمكن لشخص أن يُخزّن على قرص تخزين مضغوط مثلاً لا يتجاوز حجمه صفحة من كتاب ورقيّ مكتبة ضخمة توازي أكبر المكتبات الوطنيّة وهو لن يستطيع قراءتها في حياة واحدة ولو أمضى عمره في القراءة فقط موفّراً بذلك على نفسه مساحات هائلة كانت تشغلها الرفوف والمكتبات البيتية الكلاسيكيّة.
إن الثورة الجديدة في عالم الكتابة هي تخلّص من ثقل الماديّ نحو رهافة وخفّة الافتراضيّ والرقميّ الذي لا وزن له. هو انزلاق من عالم المادةّ والواقع "الموضوعيّ" الكثيف في عالم الافتراض "الغيبيّ" الواسع . وبكلمة أخرى هي الدخول في العوالم الأُخرى التي تقع في تداخل مستمر ومتقاطع بشكل متواتر مع ما يُدعي بالعالم الواقعي. هي لحظة الحقيقة لنصحى من الواقع ونستيقظ منه لندرك أن وراء هذا العالم عوالم أخرى قد تكون أكثر أصالة وأكثر حقيقة وأقل يقيناً من وهم الواقع...