لماذا تتعاطف قطاعات واسعة من اليسار التونسي مع نظام الأسد؟


خلدون النبواني
الحوار المتمدن - العدد: 3953 - 2012 / 12 / 26 - 02:00
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لا زلتُ مؤمناً بالربيع العربي وعن هذا سأتحدث بعد حوالي الأسبوعين في مؤتمر ثقافي في الكويت. معركة الدستور في مصر ولا أجمل قبلنا بها أم رفضنا أحببنا أم لم نُحب كنا مع مرسي أو مع معارضيه ولكن الشعب هو من يفتي ويستفتي. الربيع العربي أنزل السياسة من القصور والخلفاء المورثين في العائلات الحاكمة إلى الشارع والشعب فصار هو من يختار. الديمقراطية تقتضي أن الشعب صار ولأول مرة في الثقافة السياسية العربية صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فهو من يقرر دستوراً وهو من يلغيه، وهو من يعين حاكمه وهو من يسقطه. لا بأس أن نشهد خطوات متعثرة فأي طفل حديث الولادة لا بد من أن يحبو ثم يحاول المشي فيسقط ثم ينهض ثم يصلح من مشيته وهكذا. تحركت مياه السياسة العربية، والمياه الجارية ستقوم بتنيظّف أوساخ المستنقعات مع الزمن. إنه الشعب يا أصدقائي من صار يتكلم فانحلت عقدة لسانه وصرنا نلحظ نقاشات شعبية في كل مكان مما فتح المجال ولأول مرة لما نسميه بالفضاءات العامة التي ستصبح مع الزمن مطابخ السياسة ومؤسسة مشاريعها. نعم السياسة في الشارع وليس شيئاً مفاجئاً أن نعرف أن الشارع متدين بشكلٍ كبير في بلدان العرب التي لم يبق فيها سوى الله سنداً ووكيلاً للناس المفقّرة المتدينة أثناء عمليات التفقير والقمع السياسي المنظم الذي عرفته بلدانا عبر العصور. في مصر الأمور بألف خير رغم كل ما يمكن أن يقال. وكذلك الوضع في ليبيا التي تقوم بإنشاء مؤسسات من عدم والتي دخلها اختراع جديد وهو عملية الانتخابات. رغم كل ما يمكن أن يقال أيضاً عما حصل ويحصل في ليبيا إلا أن المؤشرات تشير بما لا يقبل الشك لمن يعرف سيرورة التاريخ الطويلة أن ليبيا الجديدة ولدت منذ أقل من سنة وهي بصحة جيدة.
ليس الوضع كذلك بالنسبة لليمن التي لا زال يسكنها شبح النظام القديم وهي ستستغرق زمناً أطول لتحقق نهضتها بعد أن حاولت السعودية أن تُجهض ثورتها فولدت اليمن الجديدة في غرفة العناية الفائقة وتحت إشراف السحرة.

الوضع الأكثر تراجيدية اليوم يتمثّل في الثورة التونسية التي ما أن قضت على الطاغية وصعد الإسلاميون فيها إلى الحُكم حتى شعر يسارها بأن الدكتاتورية العلمانية كانت هي حاميته في وجه القوى الدينية اليمينية. في تونس هناك صراع واضح بين ما أسميه الإسلام المتطرف (نتيجة القمع المنظم منذ عهد بورقيبة ثم عهد بن علي) وصولاً إلى ما أسميه اليسار العلماني المتطرف (المتفرنس بشكل لا يقبل الشك والذي نشأ بشكل غير رسمي في عهد الدكتاتورية العلمانية). الإسلام في تونس اليوم هو الإسلام الذي تحرر من عهود القمع الطويلة ومحاولة التحديث الكبيرة التي بدأها بورقيبة فنشأ إسلاماً ينحو نحو التشدد والتعويض عن كل ما فاته برفض كل ما هو حداثوي. في تونس هناك صوتان مرتفعان متنافسان: الإسلام الجهادي والتيار العلماني (الجهادي أيضاً). كلاهما متطرفان. لن أتوقف عند نقد التيار الديني التونسي فهو تيار مأزوم تعويضي ضد الحداثة، ولكنني سأتحدث عن التيار العلماني التونسي المتطرف الذي يذكرني بالجهاديين أيضاً (التطرف متشابه حتى ولو بدى لنا أنه متناقض في البداية ولكن الحقيقة هي أن كل طرف يقترب من الطرف الآخر حتى يتماهى معه وفيه).
مع صعود التيار الديني ممثلاً بالنهضة رسمياً وبمن هم أكثر جذرية من النهضة، وجد اليسار التونسي نفسه في مأزق وبعد أن كان صاحب كلمة محمية قانونياً ودستورياً وبخاصة بوليسياً في نقد المسائل الدينية وتحديث الدولة (فرنستها). هكذا راح يترحم بشكل لا واعٍ في البداية ثم بشكل علني معلن على عهد الدكتاتورية العلمانية التي ضمنت لهم حيزاً من الحرية في نقد الدين وفي الحديث عن مدنية (وإن كانت شكلية غير ديمقراطية) لتوجهات الدولة التونسية. ولأن الترحم على بن علي صعب لعدة أسباب منها أن اليسار التونسي قد ثار ضده عند اندلاع ثورة الياسمين وهتف ضد استبداده وقمعه وحجبه للحريات الخ ومنها لأن التوجه المحلي والعربي بل والعالمي متعاطف بشكل أو بآخر مع الربيع العربي وبخاصة مع ثورة تونس التي فتحت الباب أمام ثورات الربيع العربي. ولكن إذا كان الترحم على أيام بن علي صعباً فإنه يمكن الترحم على أيام مؤسس الدولة العلمانية، ولكن البوليسية في تونس: الحبيب بورقيبة. إذن في مواجهة تمكن الإسلاميين من الوصول إلى السلطة لجأ العلمانيون الجهاديون إلى الحنين إلى أيام بورقيبة وراحوا سراً أو علناً بوعي أو بدون وعي يفضّلون الدكتاتورية العلمانية على الثورة الشعبية ذات القاعدة الدينية وهذا ما يفسّر برأيي تعاطف قطاعات واسعة من التونسيين العلمانيين مع نظام الأسد الذي يشبه في تكوينته نظام بورقيبة وبن علي ضد الثورة الشعبية في سوريا. لم يتوقف الأمر عند حد التعاطف بل بدأنا نشهد تكوين جبهات للدفاع عن الأسد ونظامه على طريقة الشبيحة في سوريا ولا شك أن مثل هذه التوجهات ستكون مدعومة بشكلٍ أو بآخر من نظام الأسد الذي يشكل الأمن كل بنيته من ألفها إلى يائها بما تعنيه كلمة الأمن من المخابرات القذرة المافيوية...
في تونس أيضاً سيعدّل التاريخ من حدة هذا التوتر، ولكنه سيأخذ زمناً ليس بالقصير فحتى ولو كانت أول الثورات هي ثورة تونس إلا أنها على ما يبدو ستكون آخر الثورات التي تحقق توازناً في مسيرتها...