أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - لقائي الأخير بالعصفور سلطان














المزيد.....

لقائي الأخير بالعصفور سلطان


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 4429 - 2014 / 4 / 19 - 16:01
المحور: الادب والفن
    


"هذا الحائطُ الصلبُ/ الذي يفصلُ الآن بيني وبينك/ ما كان ينبغي له أن يكون حائطًا/ وصلبًا/ مادام كان بوسعه أن يكون زهرةً في حديقة/ أو قطرةً/ في شلال عطر/ وهذا الحجرُ القاسي تحت رأسِك/ ما كان له أن يكون حجرًا/وقاسيًا/ طالما كان ممكنًا أن يكون ريشةً من جناحك المكسور/ أيها العصفور الذي صمتَ/ ثم طار.”

***

لم أكن أعلم أنه اللقاءُ الأخير بأيقونة الإعلام المصري المحترم، في أواخر الزمن المحترم. ظننتُ أن اللقاءَ ستتبعه لقاءاتٌ، أنهلُ فيه من علمه وحلاوة صوته وسلامة مخارج الحرف، وحُسن الصوغ، وجمال التبيان، عطفًا على التهذّب والتواضع والخلق الرفيع.
كان ذلك قبل شهور. موعدٌ أجلتُه طويلاً مع صحفية فرنسية تودُّ أن تُجري حوارًا معي، وكنتُ أرجئ اللقاء حتى أجد الوقتَ بين عمرنا المسروق في المظاهرات والمقالات والوقفات وحمل جثامين الشهداء والتنديد بالإرهاب والطائفية والويل الذي يجتاح مصر كل يوم، حتى يشاءَ الُله أن يرفع عن مصرَ الغُمّة.
عثرتْ بي الصحفيةُ مصادفةً في إحدى مسيرات تأبين شهداء. فأصرّت على إتمام اللقاء بعد المسيرة في مطعم عريق جوار ماسبيرو. وكان هذا من حسن حظي، إذ سألتقي، مصادفةً، بالعظيم الذي أدين له بالكثير. كان جالسًا في هدوء في ركن معتم لا تضيئه إلا شمعةٌ نحيلة. مثل ملكٍ اختارَ الوحدةَ والصمت، بعدما لم يعد في الحياة ما يُغري بالحديث والصخب. جميلا مهيبَ السَّمت يجلس كما عهدناه في نشرة التاسعة ببذلته الأنيقة في مصرَ الفاتنة قبل زمن الابتذال. ركضتُ إليه كما تركضُ طفلةٌ نحو عصفور يتقن لغة السماء. انتظرتُ ترحيبه بي بذاك الصوت النموذج الذي يتعلّم منه الإعلاميون والشعراء مخارج الحروف وفنون الصوتيات. لكن هالني أن جاء الصوتُ واهنًا خفيضًا، وإن ظلّت حلاوةُ النبرة وعمقُها كما أعرفها! ماذا ألَمَّ بالحنجرة التي علّمتنا أن الموسيقى تطفر من حُسن البيان، وضبط النحو والصرف وعدم اللحن في اللغة؟
في طفولتي، كنتُ أترقّبُ تلك المقدمة الموسيقية الفاتنة لبرنامج "عالم الحيوان"، التى تمزجُ ضرباتِ الجهير في البيانو، مع نهيم الفِيَلة، مع حفيف الشجر، مع زعاق النسور، وصرخات الطاووس، وتجاور هزيمَ الرعد وزئير الضوارى بشدو العصافير. فأدخلُ مع صوته مملكة الحيوان الأسطورية، ليكشف لي أسرارها. وفي التاسعة مساءً، أنتظر نشرة الأخبار لأُنصتَ "بعينيَّ" إلى تلك الابتسامة الوادعة المثقفة، وأرى "بأُذنيَّ" كيف يُشكّل الحرفَ وينطق الكلمة بأناقةٍ. بعد انصرافه من المطعم، سألتُ النادلَ النوبيّ الجميل: "هل تعرفُ أيَّ عظيم هذا الذي يرتاد مقهاك؟" قال: "نعم، نعرف قامتَه، وقيمتَه."
تلك الحنجرة الآسرة، أحدُ كنور مصرَ العزيزة، كانت تمرُّ وقتها بوعكة صحية عنيفة. دعوتُ اللهَ في سري أن يمد يده بالشفاء العاجل. فالله طيبٌ وجميلٌ يعلم أن كنوزنا الحضارية الغالية تتسرّب من بين أصابعنا في غفلة منّا، بينما نحن مطحونون بهموم فقرنا وجهلنا ومرضنا ومستقبل أبنائنا. لكن الكنور إن ذهبت عن مجتمع، لا تعود. ويصبح ذاك المجتمعُ مُخترقًا بالغزو الذي يفتُّ عظامه. لأن كنوزنا الثقافية والفكرية والفنية، هي حائطُ الصدِّ الأخير الذي يحمينا من الانمحاء من خارطة الحضارة.
حنجرة محمود سلطان، الإعلاميّ الكبير، تلك التي علّمتنا وأبهجتنا، كان على مصرَ، بكل ما فيها من قوة، وكل من بها من مصريين، أن تكافح من أجل استعادتها. مصرُ المثقفة الواعية، كان عليها أن تعرف كيف تضمُّ جناحيها على هدايا السماء التي خصّنا اللهُ بها عن بلاد العالم. لكن محمود سلطان، أستاذي الجميل، الذي همستُ في أذنه أنني سوف أهاتفه قريبًا، لأسمع صوتَك قويًّا وشجيًّا وصادحًا، كما أعرفه، آثر الطيران خفيفًا قبل أن يُثقله المرض وترهقه الوحدة.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طريق الفرح
- هدفٌ في مرمى الحضارة
- الرئيس وأسئلة ديكارت
- عروسة لطفلة السماء
- لن أعزّيك يا صديقي ..
- شهيدتا الحق والحب
- النبلاء ينقذون رعايانا في ليبيا
- الصورة الحقيقية لمصر
- صانع العرائس قاتل ماري
- اسمك إيه يا أم محمد؟
- الباليه... فوق كفّ مصر
- ابحثوا عن قاتل -ماري- الحقيقي.
- معندناش كتب خيالية
- مليون إنسان في بيتي
- رسالة إلى حابي
- الشاعرة اللبنانية زينب عساف تكتب عن ديوان الشاعرة المصرية فا ...
- وجدى الحكيم أيام زمان
- 13 مارس 1950
- أغلى سيارة في العالم
- أمي، و-أحمد رشدي-


المزيد.....




- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...
- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...
- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - لقائي الأخير بالعصفور سلطان