السلفيون وتحديات النقد العقلي


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6627 - 2020 / 7 / 25 - 22:37
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

لضرورة مراجعة الفهم ألتسليمي للكثير من الأفكار والمفاهيم والعقائد التي وصلتنا جاهزة من سلف الأمة (مؤرخين ورواة ومفسرين وواضعين ومدلسين وكذابين) أهمية كبرى لإعادة رسم واقعنا الفكري والديني كما يجب أن يكون لا كما يجب أن يبقى , وهذه المسالة الحساسة والمثيرة في ذات الوقت تتطلب منا شجاعة في الاعتراف أن إرثنا المتراكم يزكم الأنوف برائحة العفن الفكري , كما يتطلب منا شجاعة بقبول نتائج قد لا ترضي أنتمائاتنا الحالية ولا تتوافق مع مسلماتنا والثوابت التي نؤمن بها ونحافظ عليها وكأنها أمانة الرب ,النقد العلمي وفق منهجية منطقية تتبع الفكرة أو الحادثة أو القول ومطابقتها بالمصادر الأصلية ستوصلنا للكثير من المفاجآت سواء في التخريجات أو في آلية التوصيل التي أستخدمها البعض لكي يصب أفكارنا بقوالب مجهزة ومقننة كي تؤدي أغراضا بعيدة عن أصل الحدث أو الرواية أو حتى الفكرة الدينية كما أرادها الناص الناقل أو الناص الشارع .
من الأفكار التي وصلت لنا ونعتبرها اليوم جزء من تعبداتنا قضية الوحي والإيحاء وما يرتبط بالقضيتين في تأصيل لفكرة إلوهية النص أو إنسانيته وما يجرنا أيضا للتفريق بين ما أوحي إلى وما أوحينا له, الإيحاء فعل ذهني بين مؤثر ومستأثر قد لا يشترط التواصل المادي أو المباشرة فيه ,فقد أوحى ربك للنحل ,فهو أودع ملكة في أو رأس جيل مخلوق تسير عليه كل الأجيال والسلالات حتى تحول هذا الإيحاء إلى نمط سلوكي متأصل مرتبط بالوجود ولا ينفك رغم تبدل الأحوال والأزمان والمكان, وهذا لا يعني مطلقا أن الله قد أرسل لكل نحلة وحي يعلمها ما تفعل أو ما يريد ,كما أوحى مثلا لأم موسى في نص أخر هنا كان الوحي انفراديا ذاتيا لمعالجة حالة منفردة لا تتكرر ولكن ليس بموجب وحي مادي وإنما تفتق ذهني تهيأت له أسباب تتصل بالقرب من العقل في لحظة صفاء .
بينما نأت لنص أخر أكثر مباشرة وأقرب للواقعية في نقل المراد الرباني حينما يقول (وما ينطق عن الهوى) هذا التأكيد على المصدرية ينفي أيضا علاقة الذات الناقلة بالنص من حيث التكوين الإصالي والمراد الأساسي (إن هو إلا وحي يوحى) حسم النص أن ما يتلقاه المتلقي ليس من عنديات الناطق المجاهر بل من خلال طريق وحي من مؤثر ومريد وأمر وقادر ,ولكن حتى في هذا النص لا نجد طريقا مباشرا ونحن كمؤمنين بحقيقة أن المرادات الكبرى والطبائع الأساسية للوجود كله مرسومه في التكوين وهي جزء مما أوحي إلينا سواء بالفطرة أو من خلال دلالات وملكات العقل المطبوع أو المصنوع , أو من خلال قوى النفس الثالثة والرابعة المتصلة بقلب المؤمن وخياراته الواقعية .
{مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} هذا النص خاص بمن هم في محل التواصل بين إرادة السماء عبر أدواتها المختلفة وبين المتلقي الذي يجب أن يؤمن أولا أن ما وصله هو عين ما أراد الله ولا نقاش في إنسانية النص أو تعديله أو تبديله ,ولو افتراضا نجد أن إمكانية التبديل موجودة ولكن تحتاج لوحي أو إيحاء حسب النص الجلي الواضح {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } فحسب دلالات النص أن التغيير والتبديل مرتبط بنفس منظومة وآلية الإيحاء الأول وبالتالي الحكم يعود لما سيثبت لنا من قضية الوحي والإيحاء , لكن يشير بدلالة واضحة أن هناك مجال ممكن أن يتدخل الموحى له أن يعيد ترتيب الفكرة ولكن عليه أن يستجيب لشرطها الأول , وأيضا تكشف من حيث البعد المعنوي أن الفكرة التي يراد تعديلها فيها شيء من إنسانية ولو بالتعبير اللفظي أو النقل المتناسب بين حالة الوحي وحالة المتلقي النهائي.
كل النصوص التي بين أيدينا تشير إلى حقيقة أن ما يوحى للأنبياء هي أوامر سريعة يتلقاها بشكل خارج عن الإطار الناموسي الذي يتلقاه عادة الإنسان ,فهي أما رؤية مناميه وهنا لا يمكن أن يكون النص الذي ينقله النائم هو نص مطابق لكلام الوحي أو لفظه ,أو إلهام وإشعار فوقي خارج الحواس وينطبق عليه القول السابق وتخريجه أو حتى من خلال ما نقل عن رؤية الملك أو الإحساس المادي به {و قال العلامة الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي في مسألة نزول القرآن على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله) القرآن النازل عليه، وأنّ الذي كان يتلقاه من الروح هي نفسه الكريمة من غير مشاركة الحواسّ الظاهرة التي هي أدوات لإدراكات جزئيّة خارجيّة.. فكان (صلى الله عليه وآله) يرى شخص الملَك ويسمع صوت الوحي، ولكن لا بهذه يسمع أو يبصر هو دون غيره، فكان يأخذه برحاء الوحي ,وهو بين الناس فيوحي إليه ولا يشعر الآخرون الحاضرون..}.
لم يفرق الدارسون لمفهوم الوعي بين مصطلحين مهمين وردا في كتاب الله الأول الوحي والإيحاء وهو أمر مرادي يتم إيصاله للمتلقي من خلال نظام استشعاري متعدد الأنماط يتلخص بتحديد المقصد والشكل المرادي وكيفية تطبيقه ويتولى الرسول مخلصا بما منح من معصومية في نقل الوحي وترجمته ثم تبليغه للناس كنص يعبر بصدق وكلية عن أمر الله وهذا لا إشكال فيه إلا أنه في جزء منه جزء النظام البنائي اللفظي هو اجتهاد أما الروح والمعنى والمقصد بالتأكيد هو من الله شكلا وروحا , أما المفهوم الثاني وهو الإلقاء والذي ورد في مواضع كثيرة يفسر كيفية نزول أمر مكتمل ومحفوظ وجاهز ومتكامل لمحدد هو القلب, وهو طريق أخر غير الوحي وإلا لم يفرق الله أصلا بين الوحي والإلقاء ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ و﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾ .