العدل والعدالة والشروط السيكولوجية في تحقيقهما.


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5837 - 2018 / 4 / 6 - 16:38
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

العدل والعدالة والشروط السيكولوجية في تحقيقهما.


من المتعارف عليه أن العدل والعدالة مفهومين مختلفين في الدلالة والمعنى البعيد وفي الماهية الجوهرية التي تتحقق من كليهما، فالعدل ببساطة المفهوم أن تضع الأمور في محلها الطبيعي دون زيادة أو نقصان في المطابقة، أما العدالة في أسلوب عملي لتطبيق العدل في الواقع، الأول نظرية يراد منها أن تطبيق الطبيعي المنطقي على حركة الأشياء لتسير وفقا لقانون الوجود، والثاني هي قراءتنا نحن خارجا عن مفهوم العدل قد ننجح فيه أو قد نضل أما في تحديد المحل أو المحمول على أنهما في حدودهما التامة، فمن يرى الأفق ضيقا لا يتسع لأكثر من رؤيته الخاصة يجد في العدل ضيقا في إنصاف ما يراه صالحا له، ومن يرى أن الكون متسع فوق الحد سيرى أن العدل ممكن في أي صورة طالما أن المحل قادرا على إشغال المحمول له مكانا وزمانا وحال.
من هنا يرى البعض أن مفاهيم العدل وصوره نسبية في كل الأحوال بناء على حدود الموضوع المحمول وفي حدود الواقع الذي يراد أن يكون معيارا قياسيا له، النسبية هنا ذاتية وموضوعية وليست ذات جوهر مطلق كما تريد هذه المدرسة أن تتبنى مفاهيم العدل والعدالة، فما يكون عدلا في واقع ما قد لا يكون كذلك في موقع أخر، النظرية بحد ذاتها تخلط بين الواقع كما هو واقع وبين الطبيعية الموضوعية في الأمور كمعيار واحد، الظلم مثلا في هذه المدرسة نسبي والحق نسبي والمثل القيمية نسبية بالقياس والحقيقة، بينما نجد أن الطبيعة الوجودية من غير تدخل الأنا واحدة عامة ومطلقة وقوانينها واحدة أيضا خارج مدى الزمان والمكان، فكل شيء خارج حدودها ظلم وأي تقصير في فهمها هو دون الحق ومثله العامة والكلية، الواقع لا يمنح الحق والعدل صفة الوجود بل العدل بمعناه الذي قدمنا ومعه الحق هو من يمنح الواقع صفة العدالة والحقانية كموجود فعلي.
إذن النسبية تأتي هنا لا محالة قطعا من تدخل العوامل السيكولوجية البشرية في فهم وتحديد المعاني والأطر ومن خلال قدرة الإنسان أولا في إدراك القانون الوجودي الطبيعي، فليس المهم عند الإنسان ككائن تتصارع فيه الرغبات والميول النفسية مع شروط العقل وأجتهاداته في النظر لموضوع الحق والعدل من الزاوية الذاتية له فقط، لذا فهو في الأخر ينتج من خلاصة ذاتية ومنفردة لهما تتنوع وتتعدد وتختلف بأختلاف نتائج الصراع ذاك، وثانيا ما يرسمه الواقع أيضا بالتراكم والتوالي من مفاهيم وإحداثيات لحدود الفهم الكلي لهما، وهذا عامل مهم في صيرورة مفهوم العدل والعدالة نفسيا عند الإنسان فهو ابن الواقع وربيب البيئة، هذه العوامل الذاتية والموضوعية التي تحرك الإنسان هي من تصنع المفاهيم وتعطيها المعاني الواقعية بالنسبة له، لا أصل الموضوع وماهيته الطبيعية بالنسبة للنظام العام، لذا فالنسبية هنا أيضا نسبية ويبقى النظام العام الشمولي النموذجي مطلقا في حدود عجز الإنسان من الوصول إليه أو إدراكه بالكلية.
في الفهم الديني وخاصة ما نؤمن به كمسلمين نجد أن العدل والحق مطلق بدون تحديد أطر خاصة له أو تأشير زوايا نظر محددة، فالله تعالى عندما يأمر بالعدل والقسط وإحقاق الحق بشكل عام ومطلق إنما يعني أن هذه المفاهيم وأمثالها مطلقة بالعنوان لأنها مطلقة بالحقيقية، لأن خلافها بأي شكل هو ظلم وتعدي على مبدأ الوجود ذاته بما فيه من قوانين عامة كلية تامة مطلقة، فهو مثلا يفرق بين الظالم الذي يرتكب مخالفة ما في ظرف ما في حال ما، أما عن جهل أو تقصير في بلوغ الحق أو كلاهما، سمي ظالما لأنه في نظر النسبي قد لا يرتكب الظلم لو كان هناك ما يمنعه من ذلك أو يردعه أو حتى هو لا يفعلها، مقابل ذلك كان التراجع عن الظلم هو العودة للحق بمعناه التام، لكن حين يصر على أن يرتكب الظلم في كل مرة تتوفر فيه الظروف وتسمح له المناسبات سماه (ظلوم) أي أعتاد على فعل الظلم ومارسه بإرادة، السبب هنا ليس في كون الظلم مطلوب أو مفروض وإنما لأن الظلوم جهول بالنتائج والمترتبات على ذلك.
العدل في الدين كما هو في الفلسفة علاج نفسي لحالات مرضية قد تصيب الإنسان ولا بد من منح الإنسان الفرصة أن يراجع ويتراجع من خلال الدوافع والحوافز والتنبيهات، فلا يمكن أن تطبق العدل في مجتمع دون أن تضع أسس للعودة عنه تتمثل في فتح باب الإصلاح النفسي أولا ومنها باب الإصلاح الأجتماعي، وقد سلك الدين في هذا الطريق مبدأ العفو والأستغفار من خلال جملة وسائل تبدأ من الإقرار بالخطأ والذنب وتنتهي بإبدال السيئات حسنات، الهدف كان من كل ذلك بناء شخصية الإنسان الإيجابية وتحويل الفعل المخالف للعدل والحق إلى نقطة توقف ثم محاسبة ذاتية ثم قرار شجاع وأخيرا حصاد مشجع له ولغيره، هذا العلاج النفسي في طريقة عمله في الواقع أشد تأثيرا وأكبر في أحداث التحول من الوسائل التي يستخدمها البشر من خلال تطبيق مفهوم العدالة النسبية، الناس تحاول أن تشبع متطلبات الأنا المتضخمة لديها حينما تتولى تطبيق عدلها وعدالتها، والدين يريد إصلاح طرفي معادلة العدل ليكون النفع والمحصلة هي نتاج عقلي بعيد المدى يحصن المجتمع من الإنزلاق بالأثار النفسية والضياع مرة أخرى.
بين نسبية العدل والعدالة ومفهوم الحق في المدرسة المادية وبين المطلق التام فيهما عند المدرسة الدينية والمثالية تترواح الأفكار الإنسانية في المعالجة والتطبيق بين مادية قهرية غاضبة، وبين معالجات نفسية وظرفية تهتم بالنتائج البعيدة وبناء الأسس الأجتماعية السليمة لمجتمع المطلوب منه أن يستمر وينمو ويحصن نفسه من أسباب الخروج عن القانون والشرائع المنظمة، وتبقى الحلول النفسية والأجتماعية التي تستند إلى منهج منفتح على الإصلاح وطرائق مبتكرة لتحقيقه هي الأهم في المعالجة الفردية والجمعية، فالفعل الجرمي مهما كانت أشكاله ومسبباته فهو نتاج تفاعل عوامل نفسية في الدرجة الأولى لتحول الإنسان السوي إلى شخص مخالف للقانون ولقيم المجتمع، وما لم نستخدم نفس الأسلوب ولكن بأتجاه معاكس أي عكس إرتدادات العامل النفسي المهيء للجريمة والمخالفة نحو الإصلاح وتنمية الشعور بمخالفة الحق والعدل والقرار بالعودة عنه، لا يمكن أن نأت بالإصلاح من خلال تطبيق العدل والعدالة بشكلهما المادي الأعمى الذي يرى في القضية معادلة حسابية جامدة تطبق بتجرد تام عن الظروف والمعطيات والأسباب والعلل.