ثنائية الحب والجنون (رزاق وعالم مخبول) ح9


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5745 - 2018 / 1 / 2 - 12:33
المحور: الادب والفن     

أستقر الشيخ بعد الأخبار والواردة إليه من المدينة على أن قراره سيكون الترشح عن محافظة (ال....) بما فيها من ثقل عشائري وطاعة للمرجعية الدينية، هكذا عزم على أن يركز كل الجهد القادم على إدامة الصلة مع الأهالي وطبعا أخبار المكتب أولا عن نية الترشح، تقريبا لم يكن هناك ما يمنع من أن يكون مرشح الجماعة عن تلك المحافظة خاصة وأن حمة التنافس قد تفرز حالات أستثنائية تزيد من رصيد الكتل والأحزاب دون أن يخسر أحد شيء، هذا ما أراد وسعى له وأعلن عن فتح باب الترشح لمجلس النواب الأول وبدأ السباق على أشده.
ذهب الشيخ إلى محافظته ليسجل أسمه وكيانه السياسي الذي ينتمي له وبمباركة من مكتب النجف وتوصية شديدة إلى مكتب المحافظة بالمؤازرة والدعم، كل شيء بدا وكأنه يقول للشيخ عناد أمامك أبواب القدر مفتحة وما عليك إلا أن تنقل رجلك للخطوة التالية، الدعم السياسي حاضرا والدعم الديني على أشده والمدينة أمتلأت بالملصقات والصور التي تدعوا الناخين لمناصرة ممثلي المرجعية كونهم خيار الله ورسوله وأئمته من خلال شعار نصرة الدين والمذهب، هب الجميع كل من دائرة تأثيره للترويج وبدأت الحملات الدعائية والأعلامية يشتد وطيسها، وكان لزاما على شيخ عناد أن يذهب لمدينته ويعزز من دور أنسبائه ومروجي حملته.
مر اليوم الأول بسلام حيث أحتشد العشرات من أهالي مدينته للسلام عليه وتأييده ومباركة خطوة الترشح، كان مضيف جبار الذي تحول إلى مكتب خدمات ودعاية متوفرا على كل ما يمكن أن يجعل من البعض ملازما له، الوجبات الثلاث مستمرة ومختلف المشروبات الساخنة والباردة حاضرة، وسماحة الشيخ يلقي بالوعظ والدروس الأخلاقية عن أهمية نصرة المذهب وتوصيات المرجعية وفتاويها في خصوص أنتخاب القائمة التي ينتمي لها.
تكاثر الناس على مضيف جبار وأصبح وجهة الكثير من أهل المدينة لكن الغريب في الوضع أن أشقائه وأبناء عمومته لم يحضر أحدا منهم ولا حتى الشيوخ الذين يقودون العشيرة، وكأنه ليس منهم، هو يعرف تماما أن أهله نبذوه وأعلنوا أمام العشائر عندما فعل فعلته وهرب إلى إيران أنهم كسروا عصاه وتبرؤا منه وهذا القرار محترم وموثق عند العشائر، حاول أن يبعث أحد وجهاء المنطقة لتسوية الأمر مع عشيرته خاصة وأنه قد أصلح الأمر مع أهل الفتاة وفصلهم كما تتتطلب العادات والسنن العشائرية.
عاد الوسيط ليخبر الشيخ عناد أمورا كثيره منها ما جعله يغادر بسرعة المدينة تاركا أمر تسوية الأمور إلى صهره جبار والوسيط وخولهم بدفع وترتيب الأمور بما لا ينتكس مسعاه في خوض الأنتخابات، تحركت سيارة الشيخ ومرافقيه عصرا وهو على قلق حقيقي من ما سمع وطلب أن يكون العذر في مغادرته أنه أستدعي للنجف على عجل من قبل السيد لوجود أمور مهمة تستدعي تواجده في المكتب حتما، كما أمر جبار وأخوته أن لا ينقطعوا عن دعوة الناس بمناسبة أو بدون مناسبة لأحياء المجلس الحسيني والصرف عليه وتحت شعار أن سماحة الحجة طلب أن لا ينقطع ذلك أبدا.
لم يحسب أبدا لحساب ما أخبره الوسيط الذي بعثه لعشيرته فالحكاية مر عليها سنين ولا أحد يعلم بها إلا القليل، كان (محمد الداكوك) كما يطلق عليه زميله الذي يشاركه في أحياء الأماسي والحفلات أيام ما كان عناد مطرب المدينة، محمد الداكوك أعدم بعد أن تم الوشاية به على أنه هارب من الجيش لكن لا أحد يعرف من أوشى به، أحداث ما بعد السقوط وما تم من خلال مطالبات الناس بحقوق المغدورين والمعدومين وما جرت من مسائلات وتحري ودعاوى على بعض الرفاق ورجال الأمن، أعترف أحدهم أن عناد هو من أوشى به وهو من أحضرهم للمكان الذي كان فيه، كان هناك خلاف مستمر بينهم على مسائل مالية ودبون له في ذمة عناد، ومنها أيضا قضية تقية حيث كان محمد يتودد إليها ويتقرب في الوقت الذي كانت فيه تعشق عناد ويعشقها.
هذا الأمر ليس فقط مثار عشائريا فقد طالب ذوي محمد بحقهم من خلال القانون وهناك أوراق تحقيقية وأمر قبض صادر من قاضي التحقيق في هذا الشأن وقد أصبح الآن بين فكي كماشة قد تطيح بكل ما خطط له وعمل من أجله، كان لا بد أن تحسم هذه القضية بأي حال وبأي تكلفة ولا بد من غلق التحقيق وأبطال مفعول مذكرة أمر القبض ضده، شعر الوسيط الذي أختاره أنه أمام فرصة قد لا تعوض منها يستفيد ماليا من خلال أبتزاز الشيخ ومحاولة سلب كل ما يمكنه أن يفعله من أموال وأنه سوف يجعل من الشيخ أداة له لمنافع كثيرة ليس أقلها الحصول على بعض الوظائف والتعينيات له والباقي يتصرف بها كما هو جاري في كل العراق.
ذهب الوسيط إلى ذوي محمد الداكوك وأخبرهم برغبة الشيخ أن يجلس معهم ويصفي الأمر بينهم وأن ما نقل عن الرفاق البعثيين لم يكن إلا محاولة لتشويه سمعة المرجعية ورجال الدين، وأن سماحة الشيخ عناد يمكن أن يثبت لهم براءته من التهمة ولكن أيضا يريد لهم الخير لأن المرحوم كان صديقه المخلص وبينهم الزاد والملح، كان رد ذوي محمد غير متعصب وقال والده نحن فقط نطلب منه اليمين ببراءته ونحن مستعدون غدا للتنازل عنه إكراما للمرجعية وللعمامة التي يرتديها.
هذا الكلام لم يعجب الوسيط ولم ينقله للشيخ كما حدث بل أخبره أنه بالرغم من جلوسه طويلا مع شيخ عشيرة محمد لم يسمح له بالكلام في الموضوع قبل أن يسلم الشيخ نفسه للشرطة، بالرغم من أن والد محمد كان متساهلا ولكن الشيوخ كانوا هم أصحاب الرأي والكلام الأخير وما عليك الآن إلا أن تختار بين مواصلة الضغط عليهم أو تسليم نفسك للشرطة، هذا الكلام زاد من رعب شيخ عناد وفقدانه للتوازن الذي فتح الباب واسعا أمام طلبات الوسيط التي كان أولها أن يضع له سيارة تصحبه في تنقلاته بين شيوخ المنطقة وحشدهم للضغط على الجماعة، لم يكن الأمر صعبا فقد خوله شراء سياره له وهو يتكفل بدفع ثمنها واليوم قبل الغد.
عاد الوسيط ومعه مبلغ من المال إلى ذوي محمد وهو واده وشقيقه وأبن عم لهم وهو عائلة فقيرة ومعدمة وسلمهم المبلغ وقال لهم أن الشيخ مستعد لأداء اليمين في أي مكان يختارونه، لا علم له ولا خبر ولا يد في حادثة أعدام ولدهم، وأنه سوف يساعدهم أيضا بترتيب موضوع جعله شهيد وأخراج كافة الحقوق له من الدولة، كان هذا الكلام مريحا ومشجعا لأهل محمد ولم يعد الأمر متوترا كما كان سابقا، كما أخبرهم أنه سيتوسط شخصيا لتعيين أخيه حارسا في المدرسة المجاورة وهذا تصرف شخصي منه لا علاقة له بالشيخ حتى يكون ردا للجميل الذي قابلوه به.
ذهب الوسيط بعد عدة أيام حاملا معه أوليات وطلب تعيين لشقيق محمد حارسا للمدرسة، وقال للشيخ أنه تبرع أن يكون هذا التعيين عربون بينه وبين أبو محمد حتى يحاول التأثير على قراره تجاه شيوخه وتجاه العشيرة، كان رد الشيخ سريعا فأتصل بمكتب المحافظة وطلب الأمر شخصيا من مدير المكتب أن يجري التعيين فورا ولا سيما أن مدير التربية من جماعتهم، وإذا حاول المماطلة أو التأخير فسيكون له كلام مع السيد مباشرة، لم تمض ثمان وأربعون ساعة حتى كان (أحميد) موظفا على الملاك الدائم حارسا وعليه المباشرة فورا بالوظيفة.
لقد سجل الوسيط هدف مزدوج في شباكي الشيخ عناد وفي شباك أهل محمد الداكوك، وطلب من والد محمد بعد أن أحضر القرآن ليقسم عليه أمامه أنه لا يتصرف بأي شيء لا مع شيوخ عشيرته ولا مع شيوخ عشيرة الشيخ عناد بأي أمر إلا عن طريقه ومشورته وقراره هو، أقسم الرجل على ذلك وجعل العباس كفيلا له أمامه، خرج الوسيط أبو غانم من الدار وهو يعلم تماما أن مصير الشيخ عناد سيكون بين يديه من الآن، كما طلب قبل أن يخرج من بيت الرجل أن يسلمه مذكرة القبض التي عنده فسلمها له ومضى قاصدا النجف.
الأيام تجري بسرعة والمرشحون يخوضون جولاتهم التعريفية بين الناس فيما يجلس الشيخ عناد منتظرا أخبار أبو غانم أو صهره جبار، لم يشأ أن يدخل جبار في قضية محمد الداكوك لأنه فيها أسرار وفضائح تلحق بهم، والسبب المشكلة كلها شقيقته تقية، لذا فكان التركيز على الوسيط لوحده وحصر أمر التفاوض بيده خوفا من تعميم الفضيحة في هذا الوقت وخوفا ممن يخبر الشرطة أن الشيخ صادر بحقه أمر قبض من محكمة التحقيق، لذا فكل ثقته وأمله محصورا في أبي غانم الذي لم يهدأ منذ أن كلفه بالمهمة، فقد تحول بيته إلى مكتب تشغيل وخدمات وتغيرت أحواله مع السيارة الجديدة التي كسبها من الشيخ.
صار أبو غانم يتكلم باسم السيد أيضا في مجالسه الخاصة وأنه على علاقة مهمة ومثمرة مع مكاتبه في أي مكان وأنه مستعد لأي مهمة طالما فيها (توريق)، حتى حكومة المحافظة بيده ولا يرد له أحد طلبا، أبو غانم كان أيضا شخصية وصلية حتى في أيام النظام السابق فهو على علاقة مع كل من بيده أمر، لم يبالي بما يلاقيه من ردود أحيانا تكون غير لائقة من بعض المسؤولين ويبتلعها لأجل تمرير أهدافه، كان الرجل طويلا وكشاخا لأبعد الحدود فتجده يرتدي الثياب الأنيقة والحذاء اللماه ويدخن أفضل أنواع السجائر وهو مفلس لا يحمل دينارا في جيبه أحيانا، وحتى ما يشتريه يكون دائما بالدين لحين قنصه فرصة يعوض فيها، فهو بالمجمل عاطل عن العمل يتدخل في كل شيء ويتوسط في كل شيء حتى لو مقابل وجبة طعام.
دخل على الشيخ عناد وهو مهموم الوجه ويستغفر الله كثيرا وينقل مسبحته من اليمين إلى الشمال وكأنه أمام كارثة حقيقية، فزع الشيخ لمنظر أبو غانم مستفسرا عما جرى، أخبره أن ضابط المركز كان يبحث عنه وحاول أن يأت بقوة من الشرطة إلى هنا للنجف للقبض عليك لولا أنه أقنعه (بكم ورقة)، وأخذ منه عهدا أن لا يفعلها أبدا وهذه هي نسخه مصورة من أمر القبض، كاد الشيخ أن ينهار وهو يتصور أن الشرطة تأت هنا عليه للمكتب لتقبض عليه أمام أنظار الجميع خاصة خصومه ومناوئيه، لم يهدأ الرجل من الرجيف الذي أخذه وشكر الوسيط على ما فعل، كان الوقت قد قارب على نهايته في عمل المكتب فطلب منه أن يرافقه إلى مطعم لتناول العشاء والكلام بعيدا عن أعين الناس، حاول أبو غانم الأعتذار بحجة أن ضابط الشرطة ينتظره لأكمال المبلغ المتفق عليه لكنه وافق وذهبا معا وأكمل المهمة التي جاء من أجلها وقبض المتبقي مما ذكره وهدية مماثله له.
لم يعد بإمكان الشيخ عناد التراجع عن مشروعه خاصة بعد ما بذل الكثير من المال والمصاريف التي جمع أغلبها من خلال ما كان يقدم من خدمات للبعض أو التوسط في التعينيات أو حتى التأثير على المسؤولين لتمرير قضايا خاصة، كان أمله أن يكون عضوا بالبرلمان وممثلا عن جماعته التي يتوقع لها أن تكتسح الساحة خاصة وأن ما يتردد في الشارع العراقي أن المرجع وكل الحوزات الدينية ورجا العلم والفقهاء يدعون سرا وعلنا إلى التصويت لها، كل تلك المصاريف الباهضة يمكن تعويضها بسهوله ويسر، فقط ما يحتاجه الأن أن تمر فترة الأنتخابات على سلام وبعدها لكل حادث حديث.