فلسطين بين مظفر النواب وأميركا اللاتينية


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 4534 - 2014 / 8 / 5 - 13:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

" لكنها تدور"

فلسطين بين مظفر النواب وأميركا اللاتينية

د.خالد سالم
لئن أرهبونا من الاقتراب من الدين لتقصي أسباب خنوعنا وقبول التخلف كأنه لازمة من لوازم حضارتنا، متعللين بقدسية النص الديني، فحري بنا أن نبحث عنها في مكوناتنا وبنانا الثقافية والنفسية والفكرية، بعد أن تجلى أمام العالم هواننا ووهننا أمام حرب الإبادة التي يتعرض شعب غزة الذين يقاسموننا الدين والهوية منذ شهر، وقلنا الذل والعيش وسط المستنقعات. هذا بينما حمل المشهد الفلسطيني شعوب وحكام دول كثيرة على الحراك لوقف أنهار الدم في غزة بينما نحن العرب، باستثناء المغرب، اكتفينا بممارسات واجراءات ذرًا للرماد في العيون. وكان على رأس الذين سجلوا مواقف تاريخية كانت شعوب وبعض حكومات ومسؤولو أميركا اللاتينية.
المشهد الدامي يجلعنا نعود بالذاكرة إلى موقف الشاعر مظفر النواب عندما ألقى قصيدته الشهيرة "القدس عروس عروبتكم"، معلنًا أنه لا يستثني أحدًا من الحكام العرب ولا حتى حافظ الأسد الذي حضر الأمسية وصفق له كثيرًا على أمل أن يستثنيه من السباب الذي أمطر به الحكام العرب كافة، بعد أن سبهم في شرف أمهاتهن من منظور عربي.
مر شهر، كان معظمه من شهر الصيام لدى المسلمين، على بدء الحرب الإسرائيلية على غزة بينما تابعنا في العالم العربي كله ما يحدث وكأنه فرجة في بلد لا يمت بصلة للعرب ولا للمسلمين. كل له أسبابه الواهية في تبرير موقفه، لكن المثبت أن المقاومة الفلسطينية أثبتت، منذ حرب صيف 2006 بين حزب الله وإسرئيل، أن بعضنا يستطيع أن يحارب ويكبد العدو خسائر لم تكن لتخطر على باله ولا في كابوس ليلي، وبذلك كسر هذا البعض القاعدة التي اشتهرنا بها في العالم كله بأننا ننتمي إلى ثقافة خطابية، ثقافية حنجرية، ليس لنا في الدفاع عن الذات، بل نقبل الهزيمة ونبررها ثم نتضرع إلى الله كي يثأر لشهدائنا، ولا نجرؤ على حمل السلاح كالرجال.
في هذا السياق يحضرني تصريح لقائد المجلس العسكري في الأرجنتين في مطلع الثمانينات ورئيس البلاد سنتئذ ليوبولدو غالتيري إذ أمر باجتياح مستعمرة جزر الفوكلاند البريطانية، من أجل استردادها، بحثًا عن بطولات عسكرية وهمية وهربًا من أزمة اقتصادية طاحنة جراء تخبط الحكم العسكري المستبد الذي استولى على السلطة سنة 1976. وقع الاجتياح الأرجنتيني لجزر الفوكلاند–مالبيناس في الأرجنتين-، في أبريل من عام 1982. وعندما أمرت ماغريت ثاتشر بتحرك بوارج وسفن بريطانيا الحربية، وكان على متن إحداها ابن ملكة إنجلترا، وقف المسخ العسكري الأرجنتيني يقول "سنحارب، فلسنا عربًا". بالطبع قامت الحرب بين مايو ويونيو من عام 1982، وهزمت الأرجنتين شهر هزيمة وأقصي العسكر عن حكم البلاد، وبدأ المسار الديمقراطي مع وصول راؤول ألفونصين، الرئيس المنتخب، إلى سدة الحكم.
يومها استوقفني التصريح العنتري لهذا القائد العسكري الذي كلف بلاده خسائر فادحة في الأرواح جراء مغامرة غير محسوبة لاسترداد أرض هي حق للأرجنتين أكثر مما هي لبريطانيا. شعرت باهانة، رغم مساندتي للأرجنتين في استراد مستعمرتها البريطانية. بعدها بقليل ألقى هذا التصريح في وجهي أحد أساتذتي في جامعة مدريد أوتونوما، وكان مناصرًا لإسرائيل رغم اشرافه على أطروحتي زميلين كبيرين، ودار بيننا حوار في المحاضرة لم أوفر جهدًا للردع، متعللاً، بمساندة الزملاء، بأن تعليقه جاء خارج السياق.
تصريح ذلك المستبد الأرجنتيني جعلني أتوقف أمام مهانة العرب في أميركا اللاتينية التي سجلها أحد شعراء المهجر في مطلع القرن العشرين وهو رشيد سليم الخوري، الشاعر القروي، إذ صور صراحة العنت الذي كان يتعرض له المهجريون جراء نعتهم بالأتراك في قوله: " كن بينهم رجل الزمان تظل (توركو) محتقر/حتى العبيد السود قد سخروا بنا مع من سخر". سياق الشاعر القروي مختلف عن سياق ذلك غالتيري، إذ كان العرب يُطلق عليهم تسمية "توركو" أي تركي نظرًا لأن المهاجرين العرب كانوا يتبعون الإمبراطورية العثمانية سنتئذ، وكان للكنيسة دور في ذلك.
تبدلت الأوضاع في القارة اللاتينية لأسباب عديدة، وأصبحت هذه القارة تتقرب من العالم العربي الغارق بسبب حكامه في أحلام وكوابيس تجعله مطية للولايات المتحدة الأمريكية التي تأمره كالجمل أن يسير حينما تريد واشنطن ويبرك أينما شاءت. والمتابع لقمة الدول العربية وأميركا الجنوبية "أسبا" يعرف تطور الأحداث منذ أول اجتماع في عام 2005.
هُزم ليبولدو غالتيري ومنيت الأرجنتين بهزيمة مهينة، إلا أنني لم أجد رد فعل، ولا حتى على مذكرة احتجاج دبلوماسية، من أي حاكم عربي على ذلك التصريح المهين، وكأنهم جميعًا حاربوا وردعوا العدو الصهيوني وانتصروا، ولهذا فالأمرلا يعنيهم.
لم تكن فلسطين وحدها التي صال وجال فيها جيش الاحتلال الصهيوني، بل امتد إلى بيروت مسجلاً أبشع مذبحة في الربع الأخير من القرن العشرين، مذبحة صابرا وشاتيلا، وضرب المفاعل النووي العراقي واغتيال كل من أبي جهاد على الأراضي التونسية ومحمود المبحوح في دبي، ودك سورية في أكثر من مناسبة بحجة أن الهدف كان معملاً لتصنيع أسلحة دمار شامل، وضرب الحدود السعودية بقنابل.
المسلسل طويل ومعروف. إلا أن أحدهم لم يأمر قواته بالانتقام من إسرائيل رغم مليارات الدولارات التي تُنفق سنويًا على تسليح الجيوش العربية لتظل الأسلحة حبيسة المخازن إلى أن تصدأ أو ينهبها المواطنون في لحظات الانهيار والانفلات الأمني. يد إسرائيل طالت غالبية الدول والنظم العربية من المحيط إلى الخليج، ولم تقتصر عربدتها على دول الطوق فقط.
اليوم كانت القارة الناطقة بالإسبانية والبرتغالية أكثر نقاط العالم انتصارًا للشعب العربي في غزة من خلال مظاهرات واجراءات، من بينها مواقف في مجلس الأمن وقيام رئيس بوليفيا باعتبار إسرائيل دولة إرهابية والتراجع عن اتفاقية تقضي بالسماح للإسرائيليين بدخول بوليفيا دون تأشيرة زيارة، وكان هذا البلد نفسه قد قطع علاقاته الدبلوماسية بإسرائيل في لفتة مساندة لفلسطين. معلوم أن حوالي خمسة عشر ألف إسرائيلي يزورون بوليفا كل عام.
أرقام حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة مفزعة لم يملك قلبًا بشريًا وعقلاً عربيًا. يكفي أن نذكر أن ما قتلته المقاومة الباسلة في غزة من جنود الاحتلال خلال هذا الشهر يعادل عدد شهداء غزة في يوم واحد!! وهذا الرقم يعني أيضًا أن إسرائيل قتلت فلسطينيًا من بين كل ألف من سكان غزة بينما كان العرب يواظبون على تناول أشهى الأطعمة على مواد الإفطار الرمضانية يم احتفلوا بعيد الفطر. اللوم إبان هذه الجريمة التي ارتكبت بحق الإنسانية لا يقع على قصور الحكم العربية وحدها بل تطال الشعوب العربية كلها.
جلي أن فلسطينيي غزة تأكدوا من صدق شطر البيت الشهير لمواطنهم الأكثر شهرة الإمام الشافعي المثل الأصيل " ما حَكَّ جِلدَكَ مِثلُ ظُفرِكَ/ فَتَوَلَّ أَنتَ جَميعَ أَمرِكَ " بعد أن تحملوا أربعة أسابيع طويلة من عربدة إسرائيل لم يفرق فيها العرب، حكامًا وشعوبًا، بين ما الآني، التكتيك والإستراتيجية. تخلينا فيها عن إنسانيتنا، واستمرأنا، في أحسن الأحوال، الجلوس أمام المرناة نحتسب شهداء غزة عند الله، وفي بعضها الآخر ألقينا باللائمة على المقاومة الفلسطينية وكأنها هي التي بدأت دك حيفا أو عكا أو تل أبيب يوم 8 يوليو المنصرم.
إذا اكتفى الفلسطينيون بهدنة وعودة إلى ما قبل يوم 8 يوليو2014، مع اعمار ما دمرته الآلة الحربية الإسرائيلية، دون الحصول على مكتسبات سياسية تؤدي إلى قيام دولة فلسطين مستقلة ضمن حدود ما قبل 1967، فسيكون خطأ تاريخيًا في حق أنفسهم. ما حدث يجب أن يكون لحظة فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني –ولا أقول العربي- الإسرائيلي. أعتقد أنهم تعلموا الدرس جيدًا هذه المرة بعد مراوغة العالم كله ومساندته لابنته السفاحة المدللة، إسرائيل وربما يكونوا قد أردكوا أن الأمر بيدهم وليس بيد عمرو، أعني الانتصار في هذه المرة وليس الانتحار.
تاريخ المقاومة الفلسطينية الحديث، منذ خروج ياسر عرفات من بيروت إلى تونس، يثبت أن الحل بيدها وليس بأيدي آخرين، وأن ثورية فلسطين هي التي ستنقذ المنطقة من حالة السبات التي استمرت قرونًا، وستضع حدًا لضحك الغرب وسخريته منا فقد أضاع علينا القرن العشرين كله في ترهات ومخاتلة لم تشهدها منطقة أخرى في العالم، وهي نفسها التي ستنير الطريق أمام ثورات الربيع العربي الحائرة والمتوجسة والكامنة التي يحاول الغرب نفسه وأذرعه المحلية أن تقنع الدهماء بأننا نعيش خريفًا عربيًا.