الإعلام المصري وزوج الأم في زمن الفرجة


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 4431 - 2014 / 4 / 22 - 11:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"ولكنها تدور"
للكاتب البيروفي العولمي ماريو بارغاس يوسا كتاب سلسل، من شأنه أن يأسر القارئ الممسك به لأول مرة، انتقى عنوانه بحرفية، مسايرًا لروح العصر، "حضارة الفرجة"، أي حضارة الإعلام القادر على لوي عنق الحقائق، والقائل: "كن فيكون"، عند تسويق أي فكرة أو شخص ليصعد به إلى السماء السابعة أو يلقي به إلى أسفل السافلين لتستقر الفكرة في ذهن الآخرين. إنها حالة الإعلام في أرض الكنانة، الإعلام الذي تحالف وصار على قلب رجل واحد ليسيّر البلاد ويخدع العباد في بلد يئن فقرًا ويتيه استجداءً بينما التعتيم يخيم على السابحين في دنيا الوفرة إلى حد التخمة (1).
يولج المؤلف إلى سبر أغوار ثقافة العصر مشيرًا إلى التحول العميق في صناعة الكلمة بحيث أن تاريخ البشرية لم يشهد الكم الهائل من الكتب والمقالات والنظريات والتحليلات حول الثقافة مثلما يحدث في أيامنا. ورغم هذا فإن الثقافة بمعناها التقليدي أوشكت على الاختفاء، إن لم تكن قد اختفت بالفعل أو فُرّغت من محتواها ليحل محله محتوى، معنى، آخر، يفسده. ويؤكد أنه فقط يريد أن يشدد على عملية التحول- metamorfosis- والغش الذي تعرض لها لفظ الثقافة.
هذا الإعلام وليد مجتمع أفرز مثلاً شعبيًا يقول "الزن على الآذان أمَرّ من السحر" لهذا فإنه يتقن اللعبة ليسير بالأمور والبلاد نحو المرفأ الذي رُسم له على أيدي أصحاب المال الجدد، وهم من إفرازات سياسة الإنفتاح فصاعدًا، أي القائمين على سياسة "اهبش واجري" التي رسمها بطل تلك اللحظة وسار على دربه سلفه، فأصبحت إحدى خواص شريحة عريضة من الشعب الذي كان مضرب الأمثال في الشهامة والاستقامة وطيبة القلب.
من المؤكد أن ماريا بارغاس يوسا إذا قبِل زيارة أرض الكنانة مجددًا في نوفمبر القادم، كما هو مخطط له للاشتراك في فعالية كبيرة، والاطلاع على ما يحدث سيصيح "وجدتها – يورويكا-" مستذكرًا صيحة أرشميديس الشهيرة، بل قد يقول للمحيطين به" لقد تيقنت أن أفكاري في ذلك الكتاب تتحقق في بلدكم أكثر مما توقعت في أي بقعة من العالم". لن يعجز في فهم ما يحدث في فضائياتنا عندما يسمح له برنامجه الخاص بمشاهدتها، فالبصاصون كثيرون لينقلوا إليه ما يحدث بالإنجليزية أو الإسبانية.
إننا أمام وسائل إعلام تعمل بموجب المثل الشعبي، الموجود في كل البلاد العربية، وصيغته المصرية المعروفة هي"إللي يتجوز أمي أقوله يا عمي". فالاعلاميون يتلونون حسب مصالحهم، وكم منهم من غير خطابه منذ الثورة إلى اليوم حسب هوية من في سدة السلطة. فعندما سقط مبارك ركب الثورة كثيرون ونسوا النظام البائد، وعندما لاح في الأفق تصدر الإخوان المسلمين للمسرح السياسي على إثر الاستفتاء على تعديلات الدستور في 19 مارس 2011 تحول الكثيرون إلى التسبيح باسم الإسلام السياسي وحرق البخور للقائمين عليه، ومع ولوج الجيش في العمل السياسي، ايذانًا بانتهاء فترة الإخوان العام الماضي، تحولت القنوات الفضائية، الخاصة قبل العامة، إلى الترويج إلى بطل جديد، وزير الدفاع السابق المشير عبد الفتاح السيسي. ومما لا شك فيه أنه إذا لم تأت الرياح بما تشتهي السفن فإنهم سيتحولون عن السيسي ليحرقوا البخور للتالي. هنا يجب أن يكون للمجتمع، لصفوته، وقفة رجل واحد، كي يمنعوا وسائل الإعلام من مواصلة التضليل والسير وراء زوج الأم.
لقد أبدعت ثقافات العامة في الوطن العربي في تطويع وتطوير هذا المثل لتبرير ما يحدث من تلون، ما يجعل البعض يطرح أسئلة حول الشخصية التي أفرزتها هذه الثقافة. وهنا أسوق ما تفضلت به قرائح بعض الشعوب العربية في هذا الصدد لينعم القارئ الكريم النظر فيها:
الجزيرة العربية: «من اخذ امي فهو عمي »
العراق: «كل من ياخذ امي اسميه عمي»
فلسطين: «اللي بيجوز امي بصير عمي»
لبنان: «الي بياخذ امي بصير عمي»
سورية: «الذي يأخذ امي يصير عمي»
تونس: «اللي خذاته امنا، يتسمى بابانا»
الجزائر: «الي خذاته يمانا يتسمى بابانا» (2)
يدرك المراقب المتجرد من النزوات والانحياز الجاهز، المسلح بشيء من الحياد والنزاهة، أن ما يحدث في مصر في السنوات الأخيرة يعكس ما حققته ثورة الاتصال من قفزات واسعة إذ أحكمت سيطرتها على الإدراك الجماعي، ما جعله يتشكل على ضوء ما يتلقاه السمع والبصر، بعيدًا عما يقتضيه العقل والمنطق. إنه سوء استخدام قوة حضارة الفرجة، إذ تتولى القنوات الفضائية تسويق ما يريده أصحاب المصالح في الصراع المتأجج على السلطة في أرض الكنانة.
وما لاشك فيه أن ثقافة وسائل الإعلام الحديثة، المبتذلة، هذه ولدت مع سيطرة الصورة والصوت على الكلمة، أي مع الشاشة، بعد خروج الثقافة من أيدي الصفوة في مجتمعات الوفرة التي تنعم بالحرية والديمقراطية، بعد سنوات الحرمان التي تلت الحرب العالمية الثانية. بيد أن مجتمعاتنا المتخلفة سخرتها لتحقيق مآرب سريعة تزداد منها تخمة بينما تحقق هدف صاحب المصلحة، السياسي وشركائه. إننا نعيش ثقافة التسطيح والبهرج، ثقافة اللهو والاستعراض، وهي لا تقدم حلولاً للمشكلات المزمنة التي يعانيها المجتمع، بل تحيد بالمتلقي المسطح، الجاهز لامتصاص مثل هذه الانحرافات والايمان بها، وتحمله إلى مرافئ ليست في مصلحة البلد على المدى الطويل.
لقد اختفت المناظرات الجادة من شاشات المرناة في الأشهر الأخيرة، ولم يعد يظهر سوى شريحة معينة تسير في اتجاه مرسوم، من شأنه في نهاية المطاف أن يؤدي إلى ابتذال للفكر والقيم، وتزيد مساحة الأمية الثقافية لتجعل من الشعب أداة طيعة في أيدي من بيدهم الأمر اعلاميًا وسياسيًا. اختفى تمامًا الحديث عن شهداء الثورة وعن الصناديق الخاصة والحسابات المعلاة والحد الأعلى للرواتب، وكلها أموال إذا أحسن استخدامها ستحل العجز القائم في موازنة الدولة حسب الاخصائيين.
ربما لا يدري الإعلاميون أنهم بسياستهم وقصر نظهرهم هذا سوف يحدثون شرخًا اجتماعيًا قد يستحيل رتقه عندما يتنبه المجتمع لعمقه. ولعل ما حدث لحمدين صباحي عندما قابله بعض الحضور، وهم من صفوة الأقباط، بهتاف مؤيد للسيسي، وهو أمر جد خطير تتحمل وسائل الإعلام، إلى جانب آخرين، مسؤولية الزج بالأقباط في أتون محرقة يزداد لهيبها منذ تفسيخ جبهة المشاركين في ثورة 25 يناير 2011.
يتحمل الإعلام مسؤولية كبيرة في ظروف التحول السياسي والاجتماعي، وهذا ما شهدته دول أخرى عاشت لحظات مشابههة لما تمر به مصر ودول الربيع العربي كي تضع الرأي العام على الصراط المستقيم، الصراط الذي يؤدي إلى العدالة الحريات والديمقراطية ومعهما العدالة الإجتماعية، محور هذه الثورات. قد يتسببون في تأجيل تحقيق أهداف الثورات ولكنهم لن يتمكنوا من خداع الشعب إلى الابد ولا إغلاق الأبواب في وجه العدالة الإجتماعية وأخواتها.
هوامش:
(1) العنوان باللغة الإسبانية هو:
Mario Vargas Llosa, La civilizacion del especataculo, Alfagura, Madrid, 2012.
(2) من كتاب الأمثال الكويتية المقارنة لأحمد البشر الرومي