هدى زوين
كاتبة
(Huda Zwayen)
الحوار المتمدن-العدد: 8573 - 2025 / 12 / 31 - 00:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إنّ في نظام الوقت سرًّا يتجاوز كونه أداةً للقياس أو ترتيبًا للأحداث، ليغدو رفيقًا خفيًّا يلازم الإنسان منذ لحظة الوعي الأولى وحتى ما بعد آخر نفس. فالوقت، في بعده النفسي، ليس رقمًا يُعلَّق على الجدران، بل حضورٌ دائم، صامت، يتشكّل بحسب حالتنا الداخلية، ويتلوّن بمشاعرنا وخبراتنا.
سيكولوجيًا، لا يمرّ الوقت علينا جميعًا بالطريقة ذاتها. فالإنسان لا يعيش الزمن، بل يُؤوِّله. في لحظات الألم، يصبح الوقت ثقيلًا كأنه يختبر صبرنا، وفي لحظات المعنى يختصر نفسه، كأنه يخشى أن يفضح جمال اللحظة بطولها. هنا، لا يعود الوقت حياديًا، بل يتحوّل إلى كائنٍ مرافق، يشهد نضجنا، انكساراتنا، وتحوّلاتنا الصامتة.
ومن هذا المنطلق، يبرز سؤال وجودي عميق:
هل نعتبر الوقت كائنًا يرافقنا في حياتنا، لا مجرد إطار نتحرك داخله؟
كأن الوقت ليس طريقًا نسير عليه، بل رفيق سفر، يسبقنا أحيانًا، ويتأخر عنا أحيانًا أخرى، لكنه لا يتركنا أبدًا.
في البعد الكوني، يبدو الوقت أكثر تجريدًا وأقل حميمية. هو قانون شامل، لا يعرف العاطفة ولا التحيّز. الزمن الكوني لا يقيس أعمار البشر، بل أعمار النجوم، ولا يتوقف عند لحظة فراق، ولا يحتفي بولادة. ومع ذلك، فإن هذا الزمن ذاته هو الذي يحتضن وجودنا العابر، ويمنحه مكانًا في نسيج الكون الواسع. نحن لحظة صغيرة في عمر الكون، لكننا اللحظة الوحيدة التي تعي الزمن.
وهنا تتقاطع النفس مع الكون. فالإنسان، على محدودية عمره، يحمل في داخله فكرة الامتداد. ومن هذا الامتداد يولد الإيمان بأن الوقت لا ينتهي بالموت، بل يتحوّل. فربما لا يكون الموت نهاية الزمن، بل نهاية شكله الأرضي. وربما نصل بعد الحياة إلى مرحلة أخرى، لا يُقاس فيها الوقت بالساعات، بل بالخلود، لنبدأ مسيرتنا الخالدة بحلّة جديدة، خارج قيود العدّ، وداخل معنى أبدي لا يعرف الاستعجال.
في هذه الرؤية، يصبح الوقت أشبه بكائنٍ تربويّ: يعلّمنا الفقد، ليقودنا إلى الوعي، ويُدرّبنا على الزوال، ليُمهّد لفكرة البقاء. فلا نخرج من الحياة بلا أثر، بل ننتقل من زمنٍ محدود إلى زمنٍ لا يُقاس.
إن أخطر ما في علاقتنا بالوقت ليس قصره، بل جهلنا بحقيقته. وحين نتصالح معه، لا كعدو يسرق أعمارنا، بل كرفيقٍ يصقل أرواحنا، ندرك أن الحياة ليست سباقًا ضد الزمن، بل حوارًا معه. حوارٌ يبدأ بالساعة… ولا ينتهي عند القبر.
وهكذا، بين سيكولوجية الوقت وبعده الكوني، يبقى الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يكتفي بأن يمرّ عليه الزمن، بل يسأله:
إلى أين تأخذني بعد الحياة؟
#هدى_زوين (هاشتاغ)
Huda_Zwayen#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟