هدى زوين
كاتبة
(Huda Zwayen)
الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 18:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
عندما تعزف الموسيقى في أذني، أجد خيالي يرحل بعيدًا نحو ألوان الفصول. أرى خضرة الربيع تنبض بالحياة، ودفء الصيف يحمل طاقته المشرقة، وخريفًا يخلع عن الأشجار أوراقها لتتناثر كصفحات مطوية من الذاكرة، وشتاءً يهبط فيه المطر، حاملاً معه رائحة التراب العذبة التي توقظ فينا حنين الطفولة.
بين فصلٍ وآخر، هناك دورة أبدية للحياة: أوراق تتساقط لتفسح المجال لأخرى جديدة، أزهار تذبل لتنهض من جديد، وروح الطبيعة التي تعلّمنا أن كل نهاية ما هي إلا بداية أخرى، أكثر نضجًا وعمقًا. فالفصول، على اختلافها، تظل وفية في حضورها المتكرر، تحمل إلينا الجمال ذاته، وإن بألوان مختلفة.
كنت جالسة أمام شرفتي، فنجان القهوة بين يدي، وعيناي تتابعان المشهد كما لو كان لوحة مرسومة. تأملتُ كيف أن الأماكن والملامح الطبيعية لا تخون عهدها، تبقى ثابتة، تعود دائمًا كما عرفناها. لا الشجر يتوقف عن النمو، ولا المطر يتخلى عن عهده، ولا التراب يكفّ عن بثّ رائحته المميزة مع أولى قطرات الشتاء.
لكن البشر… هم وحدهم من يغيّرون وجوههم وقلوبهم. تراهم يتقلبون من حال إلى حال، ومن صفة إلى أخرى، كأنهم لا يشبهون ما كانوا عليه قبل سنوات. قد تظل ملامحهم كما هي، لكن أرواحهم تتبدّل؛ تصقلها التجارب حينًا، وتشوّهها الأهواء حينًا آخر. فنكتشف أن من كانوا يومًا مرآة لصدقهم صاروا غرباء، وأن من ظنناهم أوفياء للزمن تبدلوا كأوراق الخريف، لكن دون أن يحملوا بشائر ربيع جديد.
هنا، يظهر التناقض الكبير بين ثبات الطبيعة وتقلب البشر. الأشياء تظل على عهدها، بينما الناس يتغيرون وكأن لا ذاكرة لهم. وربما في هذا درسٌ بليغ: أن جمال الحياة لا يكمن في محاولة الإمساك بما يتغير، بل في قدرتنا على التكيف، وعلى تقبّل أن ما حولنا يتبدل، سواء أحببنا ذلك أم لا.
الفصول تمنحنا رسالة خفية: أن التغيّر ضرورة للنمو، وأن الانتهاء ليس فناءً، بل تمهيد لولادة جديدة. أما البشر، فإن تغيّرهم امتحان لنا نحن، هل نملك الحكمة لنفهمهم، أم الشجاعة لنتجاوزهم، أم الصبر لننتظر منهم ربيعًا يعيد وجوههم كما كانت؟
ستظل الموسيقى توقظ فينا خيال الفصول، وستبقى الطبيعة وفية لعهدها معنا، لكن السؤال الأعمق سيبقى معلقًا في أرواحنا: هل يستطيع البشر أن يعودوا إلى أنفسهم كما يعود الربيع بعد قسوة الشتاء؟
#هدى_زوين (هاشتاغ)
Huda_Zwayen#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟