أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - عماد حسب الرسول الطيب - 13: ما بعد الدولة الميليشياوية – نحو دستور شعبي يُكتب من المخيمات والمصانع















المزيد.....

13: ما بعد الدولة الميليشياوية – نحو دستور شعبي يُكتب من المخيمات والمصانع


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8570 - 2025 / 12 / 28 - 18:15
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
    


يبرز سؤال "ما بعد الدولة الميليشياوية" في السودان بوصفه ضرورة مادية تفرضها بنية الصراع نفسها، لا كخيار نظري مؤجل أو تمرين دستوري معزول. فالدولة القائمة لم تتشكل تاريخياً إلا كأداة قسرية بيد الطبقة المسيطرة، قبل أن تعريها الحرب وتحوّلها إلى جهاز نهب مباشر يتخفى خلف مفردات السيادة. لا تمثل الدولة الميليشياوية خللاً عرضياً في مسار الدولة الحديثة، بل تعبيراً مكثفاً عن تطور الرأسمالية الطفيلية في سياق شبه مستعمر، حيث يصبح العنف شكلاً من أشكال التراكم. عند هذه النقطة، تتوقف الدولة عن لعب دور الوسيط في الصراع الطبقي، وتتحول إلى غنيمة مفتوحة تتقاسمها شبكات السلاح والمال، بينما يُفرغ المجال العام من أي مضمون اجتماعي منظم. لذلك يغدو الحديث عن إصلاح هذه الدولة أو ترميمها ضرباً من الوهم، لأنها لم تعد منفصلة عن اقتصاد الحرب، بل صارت لغته السياسية الصريحة.

في هذا المشهد المتداعي، ينبثق الدستور الشعبي من شروط العيش القاسية في مخيمات النزوح التي تديرها النساء بشكل جماعي، ومن محاولات إعادة الحياة إلى المصانع المعطلة عبر تعاونيات إنتاجية نسوية، ومن التنظيم القاعدي في الأحياء المحاصرة حيث تشكلت لجان المقاومة النسائية. يتكون هذا الدستور من الممارسة قبل النص، ويتراكم عبر أشكال التنظيم الذاتي التي فرضتها الضرورة لا الرغبة. ففي المخيمات حيث تدير النساء توزيع الغذاء جماعياً، وفي التعاونيات النسوية حيث تُعاد صياغة علاقات الإنتاج بعيداً عن منطق الربح، وفي الأحياء التي تُنتخب فيها اللجان النسائية وتُحاسب بلا وسائط، يتجسد الدستور كواقع معاش. هنا يصبح الدستور خلاصة لما انتزعته النساء والجماهير فعلياً داخل الصراع.

إن الدولة الميليشياوية تسعى لتكريس هيمنتها عبر احتكار مزدوج للعنف والموارد، فتربط الحق في الحياة بالولاء، وتعيد تعريف المواطنة كامتياز مؤقت. في المقابل، تنتج النساء في المخيمات وأماكن العمل المنهوبة أشكالاً أولية من السيادة الشعبية، لا عبر الشعارات، بل عبر تنظيم تفاصيل الحياة اليومية. غير أن هذه الفضاءات النسوية لا تنفصل عن تناقضات المجتمع، إذ تتسلل إليها علاقات جندر غير متكافئة حتى داخل أشكال التنظيم الجديدة نفسها. لا ينتقص هذا الواقع من قيمة الدستور الشعبي، بل يكشف طابعه الصراعي، لأن المعركة النسوية لا تتوقف عند إسقاط سلطة الميليشيا، بل تمتد إلى تفكيك آليات إعادة إنتاج الهيمنة داخل البنى الجديدة نفسها.

هنا، تتحدد السياسة بوصفها إدارة جماعية للصراع الاجتماعي لا تمثيلاً شكلياً له. فعندما تنظم لجان المقاومة النسائية توزيع الغذاء، وتدير التعاونيات النسوية الإنتاج، وتتخذ القرارات بشكل جماعي، يجري تفكيك عملي لاحتكار الدولة لوظائفها الأساسية. غير أن هذا التفكيك يفتح بدوره صراعات داخلية حول من يقرر وكيف ولمصلحة من. هذه الجدلية هي ما يمنح التجربة النسوية معناها التاريخي، كما في كومونة باريس التي كانت ميدان صراع حي لا نموذجاً مثالياً، وكما في السوفييتات التي رآها لينين شكلاً جنينياً لسلطة شعبية محفوفة بالتناقضات.

إن انهيار الدولة المركزية، رغم فداحته الإنسانية، أزاح مؤقتاً الغطاء عن المجتمع، كاشفاً قدرة النساء خاصة على ابتكار أشكال تنظيم جديدة. ففي غياب الشرطة والمحاكم، طورت المجتمعات النسائية آلياتها الخاصة لحل النزاعات وحماية الوجود، وهي آليات لا تخلو بدورها من صراعات المصالح. تؤكد هذه التجربة أن الدولة ليست كياناً محايداً مفروضاً من الخارج، بل تجسيد لعلاقات قوة محددة، وأن تغييرها يفترض تغيير هذه العلاقات من جذورها لا الاكتفاء بإعادة ترتيب شكلها.

تتجلى ملامح هذا الدستور الجديد في ممارسات نسوية ملموسة: في الملكية الجماعية للنساء داخل التعاونيات، وفي المحاسبة المباشرة داخل المجالس النسائية، وفي توزيع الموارد وفق الحاجة لا السوق. غير أن هذه المكاسب تظل مهددة بارتداد الميليشيات التي تدرك أن الخطر الحقيقي لا يكمن في الخصم العسكري، بل في البديل الشعبي النسوي الذي يفضح طبيعتها الطبقية والجندرية. لذلك تواجه النساء، إلى جانب العنف المسلح، محاولات الاحتواء وإعادة المركزية تحت شعارات توافقية تخفي جوهرها الطبقي والذكوري.

لقد كشفت الحرب أن الدساتير المفصولة عن الصراع الطبقي والنسوي تتحول إلى أوراق بلا مضمون. فالنصوص السابقة سقطت لأنها لم تمس البنية الاقتصادية والجندرية التي أنجبت العنف. من هنا، لا يمكن لدستور ما بعد الحرب أن يتجاوز مسألة تفكيك اقتصاد الحرب ومصادرة أدواته، وإخضاع العنف المنظم لرقابة شعبية نسوية مباشرة. أي انتقال لا ينزع السلطة الاقتصادية من أيدي الميليشيات ولا يعيد توزيعها لصالح النساء لا يعدو كونه إعادة إنتاج للأزمة بوجوه جديدة.

ينطلق الدستور الشعبي النسوي من حق العودة للمشردات، ومن حق النساء العاملات في إدارة المصانع، ومن حق النساء في الملكية الجماعية للأرض، بوصفها أسساً لعلاقات إنتاج وجندر جديدة لا مطالب إصلاحية معزولة. إن السيادة يُعاد تعريفها هنا كقدرة النساء والمجتمع على تنظيم إنتاجه وحياته دون وصاية ذكورية أو طبقية. تنتقل السيادة إلى الأسفل عندما تتحكم المنتجات في شروط بقائهن، ويتطلب ذلك قلب الهرم الدستوري بحيث تبدأ الحقوق من حقوق النساء في الغذاء والسكن والعمل الآمن، ويجري فصل الدولة عن رأس المال وعن البطريركية. عند هذا الحد يتضح الفرق بين دستور يحمي امتيازات الذكورة والطبقة ودستور يحمي حياة النساء والعاملات.

ختاماً، يطرح تراكم هذه التجارب النسوية مسألة ربط النوى الشعبية النسائية أفقياً، وهو ما يعيد سؤال القيادة الطبقية والنسوية إلى الواجهة. لا تُقاس القيادة النسوية بالخطاب، بل بالارتباط بالممارسة الإنتاجية النسوية وبآليات المحاسبة الصارمة داخل التنظيمات النسائية. تُستمد الشرعية هنا من قدرة النساء الفعلية على حماية الحياة وتنظيمها في ظروف الحرب، لا من الاعتراف الخارجي. وكما كتبت ألكسندرا كولونتاي عن ضرورة تحطيم قيود الأسرة البطريركية، فإن تحرر النساء الكادحات لا يكون إلا من صنع الكادحات أنفسهن.

النضال مستمر،،



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 12. تعاونيات الإنتاج الذاتي – بناء اقتصاد موازٍ خارج سيطرة ا ...
- 11. الإضراب النسوي: الهجوم الطبقي على عصب اقتصاد الحرب الخفي
- 10. لجان المقاومة النسوية – إعادة بناء السياسة من داخل المعس ...
- 9. شبكات المقاومة اليومية – من المطابخ الجماعية إلى المجالس ...
- 8. الإعلام الدولي والصور النمطية – تحويل المعاناة إلى سلعة إ ...
- 7. الدين كأفيون جديد – توظيف الخطاب الديني لتبرير اقتصاد الح ...
- 6. النسوية البرجوازية – تمثيل الزائفات ونسيان الطبقة في خطاب ...
- 5. ايديولوجيا النيوليبرالية والجسد: تبرير القمع البنيوي في س ...
- 4. فائض القيمة القذر – اقتصاد الجسد ومعسكرات العمل في منظومة ...
- 3. النسيان كإعادة إنتاج: الأسرة بوصفها موقع استغلال طبقي وال ...
- 2. المخيمات كآلة طبقية: إعادة تشكيل البروليتاريا المقهورة في ...
- خرائط القهر: العنف البنيوي ضد المرأة في الاقتصاد السياسي للح ...
- 10. الآفاق الطبقية ومعنى الانتصار — من الإصلاح إلى التغيير ا ...
- 9. دينامية الشارع كرافعة تاريخية — صناعة الزمن الثوري
- ٨. معارك السياسات الملموسة: اختبار الصراع الطبقي في ال ...
- 7. التناقض داخل التحالف التقدمي: بين إدارة النظام وتفكيكه
- 6. الشارع العمالي مقابل برجوازية العقار - معركة الحيازة والو ...
- ٥. السلطة المحلية كجهاز طبقي – تشريح دولة البلدية
- 4. الزمن السياسي: ساعة الرمل الانتخابية
- 3. حدود الانتصار الرمزي: فوز ممداني بين احتواء الدولة وإمكان ...


المزيد.....




- مقبرة للحب أم ضامن للحقوق.. خبراء ينقسمون حول مفهوم الزواج
- من هي المرأة التي اعتُبرت -سلاح تشرشل السري- في الحرب ضد الن ...
- اعتماد دواء جديد لعلاج انخفاض الرغبة الجنسية لدى النساء بعد ...
- غزة: ارتفاع حالات الإجهاض وتراجع الولادات بنسبة 40%
- إدارة الغذاء والدواء توسع نطاق الموافقة على دواء لتعزيز الرغ ...
- التحديث الأممي السنوي بشأن العدالة بين الجنسين في القوانين: ...
- في العطل العائلية.. ما هي العلامات الصامتة التي تدلّ على معا ...
- مصادر فلسطينية محلية: استشهاد امرأة إثر سقوط جدار منزل متضرر ...
- صحافية ألمانية تكشف تعرضها للاغتصاب في سجون الاحتلال
- لهذا السبب زرع -مشعوذ- باكستاني مسماراً في رأس امرأة حامل!


المزيد.....

- الحقو ق و المساواة و تمكين النساء و الفتيات في العرا ق / نادية محمود
- المرأة والفلسفة.. هل منعت المجتمعات الذكورية عبر تاريخها الن ... / رسلان جادالله عامر
- كتاب تطور المرأة السودانية وخصوصيتها / تاج السر عثمان
- كراهية النساء من الجذور إلى المواجهة: استكشاف شامل للسياقات، ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- الطابع الطبقي لمسألة المرأة وتطورها. مسؤولية الاحزاب الشيوعي ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات / ريتا فرج
- واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء / ابراهيم محمد جبريل
- الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات / بربارة أيرينريش
- المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي / ابراهيم محمد جبريل
- بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية / حنان سالم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - عماد حسب الرسول الطيب - 13: ما بعد الدولة الميليشياوية – نحو دستور شعبي يُكتب من المخيمات والمصانع