|
|
الصفحة البيضاء
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8570 - 2025 / 12 / 28 - 14:54
المحور:
الادب والفن
ثقوب المرايا الثقب السابع - الصفحة الغائبة
حين اجتاز نون آخر باب في الرواق الطويل، شعر كأنه يعبر غشاءً رقيقًا من الضباب يفصل بين عالمين، بين كينونتين جامدتين ومغلقتين، ذات استنشقها وكون تفاصيلها في حياته السابقة، وأخرى ما زالت مشروعا تحت الدراسة وربما قيد التنفيذ. الجدران ما تزال مؤقتة وتتبدّل وتتحرك من مكانها دون توقف، لكن تبدّلها لم يعد لعبة بصرية، فقد تبدل التبدل وأصبح له خشوعٌ خافت، كأن الممر يمشي بدوره في ممر آخر أكبر منه. أودراديك كان يتحرّك ببطء خلف نون. لم يعد كتلةً من خيوط عبثية، ولا ظلًا يسعى إلى معنى؛ بل صار شيئًا أقرب إلى كتاب صغير يتحرك وحده في الفراغ، كتابٌ ذو صفحات بيضاء لا كلمات فيها، لكن نون كان يسمع صفحاته ترتجف بصوتٍ يشبه تنفس الأشجار. وبينما تقدّم، ظهر «الرجل» مرة أخرى. لكن هذه المرة لم يكن رجلا بلا عنوان، ولا موظفًا بلا مكتب… لم يكن رجلا من العالم الآخر أو بقايا كائن معدوم الملامح؛ بل رجلاً ماديا، يقف على قدميه بطمأنينة من يعرف مصيره مسبقًا. ثم قال بصوتٍ يشبه أثرًا قديمًا على صخرة: - وصلتَ إذن…
نفس السؤال القديم، رد نون وهو يلتفت إلى أودرادِك. أليس هناك سؤال آخر، نعم لقد وصلت كما ترى، ولكن إلى أين؟.
إلى ما بين الهنا والهناك. إلى المكان الذي لا يُحسَم فيه شيء إلا عند النداء على الرقم المناسب. أي في الوقت المناسب. نون ارتجف، ربما من الغضب. لم يسأل، لم يكن يحتاج إلى أن يسأل. كان يعرف - من دون أن يتذكّر كيف - أن هذا هو مكان المراجعة الأخيرة. مكان تُفتّش فيه الذاكرة قبل أن يُسمح لها بالمرور. أودراديك اقترب من الرجل، استل خيطًا من بكرته، وأخرج ما يشبه كراسة صغيرةً. - هذا هو ملفه؟ سأل الرجل. أومأ أودراديك بلا صوت. ثم أمسك الكراسة بقلقٍ خافتٍ لا يليق بعالمٍ الكلمات، وقلب صفحاتها الواحدة بعد الأخرى، ثم رماها على المكتب ببطء وهو يقول: - لا يوجد شيء في هذه الكراسة .. إنها فارغة كالصحراء. وقال أودرادِك وهو يربت على الكراسة الصغيرة بخيوطه :
لا تنخدع بالمظاهر، الصحراء تحوي في جوفها على ما لا يخطر على البال من كنوز. وأضاف نون وهو يشير بدوره إلى الكراسة التعيسة بصوتٍ كمن يعترف: - ليس هناك ما يقال أو ما يمكن كتابته، كل شيء واضح ولا يحتاج للكلمات. كل شيء واضح وضوح الشمس. الرجل رفع رأسه نحوه وقال: - كل صفحة تُترك بيضاء تُقرأ كحلم لن تتحكم في نهايته، هل تعرف ذلك؟ كل ما لم تصوغه في كلمات واضحة يمكن أن يقودك إلى الهاوية.
- لكنني لم أرتكـ .. لم أكتـ ..
لم تكتب، قاطعه الرجل، وهذا أسوأ ما في الأمر، كان عليك أن تقرر، هذا أو ذاك، تخرج أو تبقى، تدخل أو لا تدخل، النفي أم الإثبات، نعم أو لا .. نون أحسّ بثقلٍ ينزل على كتفيه، ليس ثقل تقاعسه عن الكتابة…بل ثقل مكان غير مكتمل في داخله، فراغ بحجم سجل ضخم، ثقل من يعرف أنه لم يملأ حياته بما يكفي من ذاته. وأحس بنور قوي يجتاح المكان. لم يكن نورًا عاديًا، كان نورًا ساخنا كرياح الصيف، يحفر في الروح جراحا خفيفة. والمكان انفتح كزهرة، غابت الحيطان وأبتعدت عن بعضها البعض وتحول المكان إلى قاعة عظيمة، ممتدة بلا سقف، ومعلقة بين نهارين، وفي الوسط، مكتب واحد ضخم، يبدو صامدا كنصب تذكاري منذ قرون: المكتب. جلس خلفه موظف لم تظهر ملامحه، يصعب القول إن كان ملاكًا أم كائنًا مكلفًا أم ظلًا كبيرًا. أشار الموظف إلى نون: - تفضل، إجلس. نون ظل وقفا. أودراديك تمدّد خيوطه كأنه يربطه كي لا يسقط. قال الموظف: - سيد نون… لقد وصلنا إلى لحظة مهمة من فصول القصة، لا شك بأنك منهك وتحتاج لبعض الراحة؟ نون لم يتكلم. لم يعد يملك كلمات. الكلمات جميعها تجمّدت في حلقه. - هل لديك ما تقدّمه؟ سأل الموظف. نون نظر إلى أودراديك. ذلك الكائن الذي كان، بطريقة ما، وعيه المتشعّب. ظله. كراسته. سره. أودراديك تحرّك ببطء، واقترب من المكتب،
ثم قال بصوت مرتجف يكاد لا يفهم: ـ إن هذا الرجل… كان يبحث .. .
ـ عن ماذا؟ سأل الموظف.
ـ عن صورته. عن من يشهد له أنه حاول، ولو لم يتعرف على نفسه.
ـ وهل وجدها هذه الصورة؟
ـ نعم، قال أودراديك.
ووقف الرجل خلفه، كإجماع لا صوت له. كان الصمت يشبه الزمن حين يتوقف ليرى نفسه، ثم قال: ـ هذا خبر جديد، العادة أننا نبحث ونادرا ما نجد..إن الرؤية تُعطى لمن امتلأ بأشعة الشمس وبمواشير الضوء .
ـ والضباب يعطى لمن امتلأ بالرطوبة .
ـ أما نون، هذا السيد نون… فقد جاء فارغًا. لا نورًا… ولا ظلامًا. لا أشعة ولا ضباب. لا أفعالاً… ولا سيئات. جاء كما تُولد صفحةٌ نُسيت في دفتر الحياة تنضح مللا ورتابة. نون شعر بقطرات سائلة على وجهه لا يعرف من أين جاءت. دموع ليست اعترافًا…بل خوفًا من ألا يُحسب ضمن الأحياء ولا ضمن الموتى. رفع الرجل رأسه: ـ وبما أنه لم يملأ ذاته…فإنّ الحلم لن يتوقف. نون سقط جالسًا على المقعد الذي أمام المكتب. أودراديك التفّ حوله مثل جملة تحاول أن تحمي كاتبها.
الرجل وضع يده على كتفه وقال:
- وبما أنّك يا نون لم تستطع حتى ملء استمارة الطلب… فإنك ستعاد.
- إلى أين؟ سأل نون بقلق مشوب بنوع من الأمل
ـ إلى حجرتك .. في الطابق الثاني. وبدا الإرتياح على وجه السيد نون ، كمن يستيقظ من كابوس مروع، وقال وهو يكاد يبتسم:
ـ بأي شكل؟
ـ بصفحة واحدة فقط…
صفحة جديدة…لعلّك تستطيع أن تستلقي عليها عاريا، وأن تزيح كل الكلمات التي كانت تحاصرك، تغطي جسدك وتحجب عنك الشمس. خفت الضوء فجأة. تبعثر كل شيء. اختفت الحجرة والساحة والمكان برمته أصبح مجرد سرير حديدي يطفو في فراغ ساخن. تلاشى الرجل والمرأة والموظف والمكتب والكرسي. وبقي نون… في فراغ يشبه أوّل لحظة من البق باق، وأودراديك، وراءه يلمس كتفه بخيط أحمر، ويقول له هامسا في أذنه: — هذه المرة…
لا تجعل الصفحة تبتلعك. يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار مع سعود سالم
-
الثقب السادس
-
الثقب الخامس.. اليقظة
-
الثقب الرابع
-
عاصمة القياصرة
-
عن « غباء- الذكاء الصناعي
-
الذكاء الاصطناعي
-
-لماذا يوجد شيء بدلًا من لاشيء؟-
-
الحجرة رقم 22
-
بيروقراطية المعاطف
-
أودرادِك
-
ثقوب المرايا
-
من عبودية الإقطاع إلى عبودية الرأسمالية
-
روسيا بلاد النبلاء والعبيد
-
مرايا الزمن
-
بلاد الثلج والقياصرة والفودكا
-
معرض -تكوين- التشكيلي
-
أفول العقل المطلق
-
فويرباخ والإستلاب
-
نهاية هيجل
المزيد.....
-
-ناشئة الشوق- للشاعر فتح الله.. كلاسيكية الإيقاع وحداثة التع
...
-
وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو عن 91 عاما
-
وفاة أيقونة السينما الفرنسية.. بريجيت باردو
-
من جنيف إلى الرياض: السعودية ومؤسسة سيغ تطلقان مشروعًا فنيًا
...
-
وفاة بريجيت باردو أيقونة السينما الفرنسية عن 91 عاما
-
تضارب الروايات بشأن الضربات الأميركية في نيجيريا
-
مصر: وفاة المخرج داوود عبدالسيد.. إليكم أبرز أعماله
-
الموت يغيّب -فيلسوف السينما المصرية- مخرج -الكيت كات-
-
مصر تودع فيلسوف السينما وأحد أبرز مبدعيها المخرج داود عبد ال
...
-
-الكوميديا تهمة تحريض-.. الاحتلال يفرج عن الفنان عامر زاهر ب
...
المزيد.....
-
دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس
/ السيد حافظ
-
مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
المزيد.....
|