أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الأسطل - رواية أولد فورست.. بيير-إيف توزو














المزيد.....

رواية أولد فورست.. بيير-إيف توزو


وليد الأسطل

الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 15:45
المحور: الادب والفن
    


هناك غابات لا تكتفي بأن تكون امتدادا جغرافيا للطبيعة، غابات تمارس نوعا من الحراسة الوجودية على الكائن الحي، كأنها ذاكرة كونية موكلة بحفظ ما تبقى من الإنسان حين يفقد حقه في الكلام. ليست "أولد فورست" OLDFOREST لبيير-إيف توزو مجرد مساحة شاسعة عند سفوح الروكي الكندية، ضمن محمية طبيعية تتجاوز مساحتها آلاف الكيلومترات، هي كيان مغلق على ذاته، منظومة صمت كثيف، بيت قديم يعرف متى يغلق أبوابه، ويعرف أيضا كيف يطرد من لم يعد مرحّبًا به. في الشتاء، تنكمش الحياة، تتراجع إلى طبقاتها العميقة، ويتحوّل الصقيع إلى سلطة عليا تعيد ترتيب العلاقات بين الإنسان والمكان، بين الذاكرة والنسيان.

في هذا الفراغ الأبيض يعود بطل الرواية أنتون ريد بعد عقد كامل من فاجعة حطمت تماسكه الداخلي. لا تشبه عودته رحلة اختيارية، هي أشبه باستدعاء قسري صادر عن الماضي ذاته. يقف أمام شجرة تختزل ما تبقى له من صور وارتباطات، فيما يرتجف الجسد تحت درجات حرارة قاسية، والعقل يرفض السكون. يبدو كل شيء نائما، غير أن الذاكرة تظل يقظة، تنهش، وتعيد إنتاج الألم بصرامة لا تعرف الشفقة. هناك ذئب أبيض يراقبه، قد يكون حقيقيا، وقد يكون إسقاطا نفسيا، رمزا متحركا للمراقبة، للذنب، أو للغريزة الأولى التي ترفض الترويض. لا يتعلّق السؤال بوجود الذئب، ولكن بما يمثله، وبما يعرفه عن أنتون أكثر مما يعرف أنتون عن نفسه.

على أطراف هذا العالم المغلق تقف "هيل تاون"، مدينة صغيرة تحمل اسمها كوصمة دلالية. هي الحدّ الأخير بين الحضارة المزعومة والبرية المطلقة. في الشتاء، تنسحب منها مظاهر الترحيب، تُطفأ الواجهات، ويتحوّل الدفء الموسمي إلى ريبة جماعية. في مطعمها الوحيد المفتوح، يرى أنتون طيف ديبورا كونيلي، حبيبته التي ماتت قبل عشر سنوات، ومات معها جزء أساسي من قدرته على الاستمرار. هل ما رآه شبح أم خدعة بصرية؟ لا يمنح النص إجابة سهلة، لأنه يدرك أن الفقد حين يترسّب عميقا يفقد الحدود بين الواقع والتخييل. يتواطأ المجتمع المحلي بالصمت، الموتيل الوحيد مكتظ، والرسالة واضحة دون أن تُقال: لا مكان ل "أنتون" هنا، لا حق له في إعادة فتح ما أُغلق قسرا.

يُقدَّم هذا العالم بلغة تقترب من الكتابة الطبيعية Nature writing، متقشفة، محسوبة، تتحرك بخطى ثابتة تشبه إيقاع أفلام التشويق البطيء. لا استعراض لغوي، ولا بحث عن ذروات مفتعلة، إنما بناء دؤوب لأجواء خانقة تتسلل تدريجيا إلى القارئ. الثلج هنا عنصر جمالي ومصدر تهديد في آن واحد، يغري بعزلته، ويرعب بقدرته على محو كل أثر. ينجح الكاتب في جعل العناصر الطبيعية ثقلا حقيقيا، لا خلفية ديكورية. ليس البرد حالة طقس، هو قوة تفكير، يعطّل القرار، يشل الأطراف، ويعيد الإنسان إلى هشاشته الأولى. طريق مستقيم، شجرة واحدة، موتيل، درج، عدّاد… عناصر قليلة تُفتح منها شبكة كثيفة من الأسئلة. الحوارات مقتصدة، تقول الحد الأدنى، فيما يتكفّل المكان بفضح كل ما يُخفى.

ليست رحلة أنتون في "أولد فورست" بحثا عن حقيقة جنائية فحسب، هي محاولة لاستعادة سرديته الشخصية وسط منظومة تعمل بوعي جمعي على منعه. تمارس المدينة الإقصاء، لا تَمنحُ الطبيعةُ امتيازات، وكل خطوة إلى الأمام تستدعي مقاومة مضاعفة. يفتح لقاؤه ب "ألاسكا"، المصوّرة الرسمية للمحمية، كوة في هذا الانسداد. هي تعرف الغابة بوصفها نظاما حيا تحكمه قواعد غير مكتوبة، وتدرك عداء المجتمع المحلي دون أن تنجر إليه. يتجاوز دورها المساندة السردية؛ يعيد منظورها ترتيب العلاقة بين الإنسان والمحيط. هنا يتضاءل الإنسان، مهما علا صوته أو تضخمت تهديداته، أمام الامتداد الأبيض. تتحرك ألاسكا بحذر الذئاب، خطوات محسوبة، قراءة دقيقة للإشارات، فهذه هي الطريقة الوحيدة للبقاء في "هيل تاون".

الموت هو المحور العميق للنص، أو بالأحرى الحداد بوصفه عملية زمنية غير مكتملة. لم تلتئم جراح أنتون، تغيّر موضعها فقط، تحوّلت من صدمة حادة إلى ألم مقيم. يتواطؤ الزمن والمكان للانتقام؛ كل باب يُفتح يُغلق سريعا، تماما كلوحة الموتيل التي تتأرجح بين الإتاحة والامتلاء. يتصرف المجتمع بأكمله كحارس للذاكرة الرسمية، يفرض سردية واحدة: ما مضى يجب أن يبقى كذلك، وأي محاولة للنبش تُعد تهديدا للنظام.

تعتمد رواية "أولد فورست" آلية الإخفاء الذكي، تترك زوايا معتمة، وتستثمر في تأجيل الكشف، كما تفعل أعمال التشويق المحكمة. في الوقت ذاته، تتغذى من حس طبيعي واضح، حيث تتقاطع الأصوات، تُراجع الوقائع، وتعيد بناء الحدث من زوايا متعددة. يشبه النص نظاما بيئيا سرديا، تتوازن فيه العناصر دون طغيان. يظهر الشتاء كعالم موازٍ، والمجتمع كنظام مغلق يتطلب مهارات تكيّف لا تقل قسوة. يتغذى حداد أنتون من الاثنين معًا، ويصطدم بهما في كل محاولة للفهم.

يضيف حضور الذئب بعدا رمزيا بالغ الدقة. ليست واقعيته شرطا لقيمته الدلالية. هو مرآة نفسية، إشارة إلى المراقبة، إلى الغريزة، إلى الوحدة النبيلة. وضعه الكاتب "بيير-إيف توزو" دون ضجيج، تاركا للقارئ مهمة تقرير أهميته. يعكس هذا الاختيار ثقة في ذكاء المتلقي، ووعيا بأن الرمز حين يُشرح يفقد طاقته.

يؤسس العمل بوضوح لثلاثية، واضعا قواعد المكان، ومشيرا إلى أن قسوته ليست ادعاءً جماليا. هي قسوة اجتماعية، إدارية، ومناخية، شبكة متداخلة من أشكال المنع. "أولد فورست" فضاء يحتاج إلى قراءة بطيئة، إلى إنصات طويل. هي أرض يمكن أن تمنح الشفاء لمن يقترب دون استعجال، دون رغبة في السيطرة. تشبه مسار توجيه وسط إشارات مضللة، حيث تتجاور الفوائد الروحية مع المخاطر الوجودية. يتكلم الثلج هنا حين تُغلق أفواه البشر.

العودة إلى الغابة هي عودة إلى أصل الكائن الحي، إلى الرحم الطبيعي الذي يحتضن ويحبس في الوقت نفسه. هي ملاذ وسجن وفق نية الداخل إليها. تَجْمَعُ الأحياءَ والموتى، الجراحَ وإمكانات التعافي، وتطرح سؤالا أخيرا لا يخص الرواية وحدها، بل القارئ ذاته: هل نحن مستعدون للإصغاء إلى أصدائها؟



#وليد_الأسطل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية السيدة دالاوي.. فرجينيا وولف
- أوروبا بين وهم الطمأنينة وتحوّلات الصراع العالمي
- رواية العالَم متعَب.. جوزيف إنكاردونا
- رواية ضوء السعادة.. إريك إيمانويل شميت
- رواية الراية الدامية مرفوعة.. بنيامين ديرشتاين
- رواية إل كامينو دي لا مويرتي.. قويدر ميموني
- كيمياء القراءة.. لماذا نعشق نصوصا وننفر من أخرى؟
- الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والحاجة إلى الانتقال من اللاهوت ...
- رواية رسائل إلى تافيت.. قويدر ميموني
- رواية ما لا يخفيه الظلام.. قويدر ميموني
- رواية البيت الفارغ.. لوران موفينييه
- مسلسل أحياء
- رواية مُحبَطات.. ماري فاراي
- رواية آخر جريمة قتل في نهاية العالم.. ستيوارت تورتون
- رواية شفق الأرملة البيضاء.. سيريل كارير
- رواية الصديق لويس.. سيلفي لو بيهان
- الذكاء الاصطناعي وهلاك الإنسان
- رواية لدغات الصمت.. جوهانا غوستاوسون
- أوروبا والمحور الأيديولوجي دوغين-يارفين
- عن الاستماع إلى الموسيقى وقت الكتابة


المزيد.....




- فنان هندي يصنع تمثالًا لبابا نويل باستخدام 1.5 طنًا من التفا ...
- مكتبة الحكمة في بغداد.. جوهرة ثقافية في قبو بشارع المتنبي
- وفاة الممثل الفلسطيني المعروف محمد بكري عن عمر يناهز 72 عاما ...
- قرار ترامب باستدعاء سفراء واشنطن يفاقم أزمة التمثيل الدبلوما ...
- عرض فيلم وثائقي يكشف تفاصيل 11 يوما من معركة تحرير سوريا
- وفاة الممثل والمخرج الفلسطيني محمد بكري عن عمر يناهز 72 عاما ...
- رحيل محمد بكري.. سينمائي حمل فلسطين إلى الشاشة وواجه الملاحق ...
- اللغة البرتغالية.. أداة لتنظيم الأداء الكروي في كأس أمم أفري ...
- بعد توقف قلبه أكثر من مرة.. وفاة الفنان المصري طارق الأمير ع ...
- نجوم يدعمون الممثل الأميركي تايلور تشيس بعد انتشار مقاطع فيد ...


المزيد.....

- دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس / السيد حافظ
- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الأسطل - رواية أولد فورست.. بيير-إيف توزو