وليد الأسطل
الحوار المتمدن-العدد: 8536 - 2025 / 11 / 24 - 16:26
المحور:
الادب والفن
يخوض مسلسل "أحياء" Des vivants في منطقة حساسة للغاية: هجمات 13 نوفمبر 2015 على مسرح باتاكلان (باريس)، حيث كانت فرقة إيجلز أوف ديث ميتال تُحيي حفلا موسيقيا. "أحياء" مسلسل مستوحى من أحداث حقيقية وأشخاص حقيقيين، يُحوّل الواقع إلى ما يمكنني أن أشبهه بسردية حميمة.
يبدأ المسلسل في مساحة ضيقة للغاية: ممر مغلق خانق في الطابق العلوي من مسرح باتاكلان، حيث تُحتجز مجموعة من رواد الحفل كرهائن لأكثر من ساعتين. من بينهم سبعة أشخاص، بمجرد فرارهم، يجدون أنفسهم عاجزين عن الانفصال عن بعضهم. يُطلقون على أنفسهم اسم "بوتاج"، وهو اختصار أخرق لكلمتي "رفاق" و"رهائن"، وهو لقب يُعبّر بدقة عن الحاجة الماسة لتحويل الرعب إلى تواصل، والفكاهة إلى حصن منيع ضد الجنون.
هذه الشخصيات السبع مستوحاة من شهادات ناجين حقيقيين. ماري، أرنو، كارولين، غريغوري، سيباستيان، ستيفان، ودافيد، لا يتشاركون نفس القصة، ولا نفس العمر، ولا نفس العلاقة بالمأساة، لكنهم يتشاركون هذا الممر والحاجة الحيوية للبقاء على قيد الحياة. يُبدع المخرج جان كزافييه دو ليستراد في مسلسل "أحياء" حيث تجد كل شخصية مكانها، وصوتها، ونقاط قوتها، وتناقضاتها، ومسارها الخاص نحو الشفاء.
بسرعة كبيرة، يتجاوز "أحياء" مرحلة إعادة التمثيل ليكشف عن أحداثه على مدى فترة أطول: الأيام التي تلت، والأسابيع التي تلت، والأشهر التي تلت، والسنة التي تلت. وهكذا، يهتم جان كزافييه دو ليستراد بالعواقب، تلك الصباحات حيث لا تزال الشخصيات غير مستوعبة لما حدث لها، والأسابيع التي تحاول فيها العودة إلى العمل، والأشهر التي يرفض فيها الجسم بعض الضوضاء أو الروائح، والسنوات التي تدرك فيها أن الهجوم لم يترك ندوبا فحسب، بل شقًّا يعيد تشكيل الوجود بأكمله.
يبني المخرج مسلسله كجوقة. لا توجد شخصية رئيسية، بل مجموعة، بنقاط قوتها، وعيوبها، واختلافاتها. لكل فرد منها قصته الخاصة، جراحه، أحباؤه، وعلاقته بالعنف الذي تعرّض له. بعض الشخصيات آباء، والبعض الآخر ليسوا كذلك. بعضها يرغب في مواجهة كل شيء وجها لوجه، بينما تحاول أخرى في المقام الأول البقاء على قيد الحياة دون أن تُبتَلع.
اللقاءات الدورية ل"بوتاج" هي القلب النابض لمسلسل"أحياء". يتحدثون معا عن نمو الأطفال، وانفصال الأزواج، والأدوية، والجنس، واستحالة التظاهر بأن كل شيء طبيعي. تبقى الكاميرا دائما على مستوى العين، قريبة من الوجوه، منتبهة للحظات الصمت وزلات اللسان. أحيانا يكون هناك ضحك صادق، لأن الفكاهة هي أفضل سلاح ضد الانهيار. ولكن هناك أيضا أوقات يتجادلون فيها، ويؤذون بعضهم بعضا، وينفصلون. المجموعة أشبه بشريط مطاطي يتمدد ويسترخي، لكنها تبقى العمود الفقري لمسلسل"أحياء".
لا بد من القول إن هذه الشخصيات لا تقتصر على دور الضحايا: أزواج، آباء، عشاق، موظفون، وأصدقاء منهكون. تباين ردود أفعال الشخصيات تجاه الصدمة يمنح الرواية عمقا هائلا.
يُظهر مسلسل "أحياء" كيف أن الصدمة لا تتجلى بنفس الطريقة، حتى عندما يتشارك الناس نفس الممر، نفس الخوف، نفس الليلة. يستكشف المسلسل طيفا واسعا من ردود الفعل المحتملة: من يندفع لاستعادة السيطرة، ومن ينسحب، على العكس، غير قادر على تحمل الحشود أو الضوضاء، ومن يختار الفكاهة، ومن يعتقد أنه بخير حتى ينهار جسده... لا توجد طريقة صحيحة أو خاطئة للصمود؛ كل شخص يفعل ما بوسعه. نفهم سريعا أن كلمة "صدمة" تشمل عددا لا حصر له من طرق الاستمرار في الحياة.
من وجهة نظري، إن التحدي في مسلسل "أحياء" هو تجنب التلصص والإثارة والدراما المبالغ فيها. بعد مشاهدة عديد المقابلات مع المخرج، لمست حذره وتحفظه، مدعومَين بسنوات من العمل الوثائقي. وأتت النتيجة على قدر التوقعات!
صُممت مشاهد الرعب والعنف بطريقة لا تُحوّل القتلة إلى شخصيات جذابة. يُركز المسلسل على أجساد مرتجفة متجمدة، بدلا من التركيز على صور ظلية مسلحة. علاوة على ذلك، فإن أكثر اللحظات رعبا ليست دائما ما نتوقعه: ضجيج يُذكرنا بإطلاق النار، باب يُغلق بقوة، رحلة مترو تتحول إلى فخ، محادثة بسيطة مع زميل "لا يَفهَم". يُركز مسلسل "أحياء" على محفزات خفية تُعيد الخوف إلى السطح عندما يُظَنّ أنه قد تمت السيطرة عليه.
إن تناول المسلسل للزمن جوهري (ولافت للنظر). فالصدمة كيانٌ مائع، يُعيد تشكيل نفسه باستمرار مع مرور السنين. تتنقل الحلقات بين ممر باتاكلان، والأيام التي تلته، والمحاكمة التي تُعيد، بعد سنوات، فتح جراح قديمة. يعكس مونتاج الحلقات تماما كيف يُعايش الناجون تداعيات الحدث.
يُشكك جان كزافييه دو ليستراد ضمنيا في كيفية دعم الدولة والمجتمع للضحايا (أو عدم دعمهما لهم). تكشف مشاهد الإجراءات القانونية والإدارية والاجتماعات مع الخبراء والمحامين عن الإرهاق العميق الذي تُعاني منه هذه الأرواح، التي تُكافح على جميع الجبهات: العلاج الطبي، العمل، رعاية الأطفال... وفوق كل ذلك، تواجه آليات نظام العدالة المُرهِقة.
من بين المشاهد المؤثرة في مسلسل "أحياء" اللقاء غير المتوقع بين "بوتاج" وأعضاء فرقة البحث والتدخل (BRI) الذين أخرجوهم من باتاكلان. هذا النهج غير مألوف تمامًا، إذ عادةً ما تقتصر قوات التدخل على التكتم والغموض. هنا، يجد "الطرفان" نفسيهما وجهًا لوجه، لا يملكان سوى ذكرياتهما واضطرابات الذاكرة.
بالنسبة للناجين، إنها فرصة لملء ثغرات ذكرياتهم، وللتعبير عن الامتنان، ولقول كلمات تعبر عن الشكر.
بالنسبة لرجال فرقة البحث والتدخل، يلتقون أخيرًا بالأرواح التي ساعدوا في إنقاذها؛ ويكتشفون الوجوه الكامنة وراء مفهوم "المدنيين" المجرد. ويدركون تمامًا مدى تأثير تدخلهم.
تفتح هذه اللقاءات المؤثرة مساحة نادرة للحوار. فخلف مصطلحات "المهمة" و"النظام" و"الإجراء"، تبرز إنسانيةٌ عميقة. تُنقل العديد من المشاعر من خلال النظرات، فكل شخص يحمل على عاتقه جزءا من تلك الليلة المروعة.
في الحلقات الأخيرة، تلعب محاكمة منفذي الهجمات دورا هاما. إنها محنةٌ ومصدر دعمٍ في آنٍ واحد، فهي مساحة بينية يُبنى فيها الاعتراف العام والممر السابق حيث يعاد عيش كل شيء. يُجسد المسلسل هذا التناقض بوضوح. يحتاج البعض إلى حضور المحاكمة لفهم العنف الذي تعرضوا له. ويخشى آخرون أن تكون كل جلسة محاكمة بمثابة ضربة أخرى لحياتهم الهشة أصلا.
في نهاية المطاف، يطرح مسلسل "أحياء" سؤالا يتجاوز بكثير باتاكلان: ما معنى أن "تهتم" دولة ديمقراطية بمن عجزت عن حمايتهم؟ المحاكمة، وآليات التعويض، والدعم النفسي، وطريقة تغطية وسائل الإعلام للقصة... كل هذا يثير التأمل.
لقد تأثرتُ بشدة بهذا المسلسل... أولا، أجد اختيار الممثلين رائعا. بنيامين لافيرني، وأليكس بواسون، وأنطوان رينارتز، وفيليكس مواتي، وزملاؤهم في البطولة، هم ثروات كبيرة للمسلسل. لقد نجحوا في جعل الشخصيات الحقيقية التي ألهمتهم "شخصياتهم الخاصة". إنهم ينقلون طاقتهم، وطريقة عيشهم في العالم تُضفي عليهم أصالةً كبيرة. مشاهدة الزوجين بنيامين لافيرني وأليكس بواسون آسرةٌ لتفاعلهما المتناقض تماما. وتجاه كلٍّ منهما، يشعر المشاهد بتعاطف كامل.
ثم، أحببتُ كيف دعاني المسلسل إلى هذا الفضاء من التعاطف العميق. شعرت بتعاطف جسدي مع الأجساد المنهكة التي تحاول الصمود، مع الأزواج الذين ينهارون، مع الصداقات التي أصبحت شريان حياة. كان من الممكن أن يكون ال "بوتاج" نحن، أصدقاءنا، إخواننا، جيراننا، وهذا القرب يسهل الشعور به لأنه مُعبَّر عنه ببراعة.
هناك غضبٌ أيضا، ضد كل ما يُلحق الضرر بمن عانوا الكثير بالفعل... غضبٌ يبقى مدفونا في أعماقهم، رافضا الموت. وخوفٌ... يتجلى بوضوح خلال الأحداث، يزداد خبثا في الأسابيع التي تلي التجربة الرهيبة التي عاشتها الشخصيات... ضجيجٌ عال جدا، رحلة مترو، حضور حفل موسيقي مرة أخرى. تحبس أنفاسك، مُترقبا اللحظات التي قد يتغير فيها كل شيء.
لكن وسط كل هذا، ثمة ومضات غير متوقعة من النور تُشعِرنا براحة لا تُوصف: نوبة ضحك، حنان غير متوقع، ورابطة تنشأ على حافة الهاوية. نجد أنفسنا نبتسم، ثم نشعر بالذنب لابتسامنا، قبل أن ندرك أن هذا هو بالضبط معنى أن نكون على قيد الحياة: أن نستمر في الضحك على أي حال. مع انتهاء المسلسل، شعرت بقليل من الإرهاق والذهول. ليست الشخصيات سليمة، لكنها لست مُحطَّمة أيضا.
في رأيي، يُبرر مسلسل "أحياء" وجوده تماما لأنه يُغير التركيز. لا يحاول المسلسل إعادة تمثيل الرعب أو "تحليل" الإرهابيين نفسيا. إنه يُركز على هؤلاء الأشخاص السبعة الذين لم يطلبوا أكثر من حفل موسيقي، والذين سيتعين عليهم تعلم التعايش مع ما فعلته تلك الليلة بأجسادهم وعلاقاتهم ومكانتهم في المجتمع. لقد استمتعتُ بتلك الساعات التي قضيتها مع أشخاص يُكافحون، يسقطون، ثم ينهضون، أحيانا بصعوبة، وأحيانا أخرى برشاقة، وغالبا بمساعدة الآخرين. والرابط المشترك هنا هو: الاستمرار في العيش معا.
يُخاطب مسلسل "أحياء" إنسانيتنا بكل تعقيداتها وتناقضاتها. فخلف ما يحدث، تتكشف لنا حياةٌ جديدة، مخاوف، رغبات، صداقات، وحتى ضحكات. يُعيد المسلسل لمن نُطلق عليهم "الناجين" تلك المكانة البسيطة والرائعة: "أحياء".
#وليد_الأسطل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟