وليد الأسطل
الحوار المتمدن-العدد: 8467 - 2025 / 9 / 16 - 20:18
المحور:
الادب والفن
في روايتها الجديدة "الساعات الهشة" Les heures fragiles، تُقدّم فيرجيني غريمالدي روايةً حميمةً تتناول حبّ الأم، علاقة الأم بابنتها، والمراهقة، وتناقل الصدمات بين الأجيال.
في عالم يتحرك فيه كل شيء بسرعة كبيرة، حيث يتعين علينا أن نكون فعالين ومتوازنين، وأن نخفي هشاشتنا، من الضروري أن يحل الأدب محل الصمت. لذا، تُجسّد رواية "الساعات الهشة" هذه الحاجة.
رواية الاضطراب الداخلي وفوضى المشاعر، تُخاطب أولئك الذين يُعانون ألما خفيا.
إنها كذلك روايةٌ عن نهاية البراءة، والانتقال إلى مرحلة أخرى أكثر وعيًا. يخاطب هذا النص الشخص الذي كنا عليه أيام المراهقة، بل وحتى المراهق الذي قد يكون ما يزال كامنا فينا.
تُسائل ما يبقى مدفونًا، ما لا نكشفه للآخرين ولا لأنفسنا.
وتطرح - إن صح التعبير - أيضا سؤال النظرة: ماذا نرى من الآخر؟ ماذا نخفي عنه؟
في نسجها لهذه القصة، تستكشف فيرجيني غريمالدي تقلبات الصحة النفسية للمراهقين بحساسية عالية وبدقة كبيرة. تتحدث عن السقوط، ولكن قبل كل شيء، عن سبل النهوض. في هذه الفترة المحورية (المراهقة)، يصعب علينا إيجاد مكاننا عندما نشعر بكل شيء بقوة وبسرعة أكبر. إلى جانب صورة الابنة المراهقة لو، هناك أيضا صورة أمها ديان، قلقة، عاجزة، وضعيفة في مواجهة حالة ابنتها.
لم تتخيل ديان قط أن زوجها قد يشكك في توازن علاقتهما وقوة حبهما لبعضهما. وهي تشعر بالصدمة والألم، لم تر أيضا أن ابنتها لو، البالغة من العمر ستة عشر عاما، تمر بعاصفة داخلية أخرى، هي فترة "الساعات الهشة": المراهقة وتقلباتها الرهيبة.
نفهم أن لو، كثيرا ما تشعر بفراغ هائل، وأنها لا ترغب بفعل أي شيء. عند زيارتها لوالدها، أحست بأنها خافت من نفسها: عندما نظرت من النافذة، وتمنت أن تقفز. تمنت ذلك بشدة.
لكن الخبر الجميل هو أنه على الرغم من أن لو وديان تختبران هذه النقطة الفاصلة، هذا التحول، إلا أنهما ستجدان طريقهما للعودة إلى النور.
كيف يُمكن للمرء أن يتخيّل أن ابنته في حالة سيئة إلى هذه الدرجة؟ تروي "الساعات الهشة" قصة صدمة أمٍّ لم تر شيئا. تدرك ديان لو وهي على شفا اليأس، دون أن تعرف حقا ما الذي يجب فعله لمساعدتها. هذه المراهقة التي تشعر بكل شيء بقوة أكبر، كأنها هوائيّ ضخم، تُجسّد بوضوح واقعا مجتمعيا: الصحة النفسية للشباب. تطرح لو أسئلة حول الموت والظلم والضغط الاجتماعي، وحتى العنف الجنسي. حتى جسدها يُصبح ساحة صراع، إذ يُشعرها البلوغ المُبكر بالعزلة.
هذا الانتقال من الطفولة إلى البلوغ، تلك اللحظة التي تصبح فيها الفتاة الصغيرة موضع رغبة و/أو سخرية، أمرٌ بالغ الصعوبة. كل شيء يصبح هشا: الدراسة، العلاقات مع الآخرين، الحب الأول.
بالمناسبة، يُعدّ تجاوز ديان سن الأربعين تجربةً مُرهِقةً بقدر ما هي مُقلقة. على ديان أن تُواجه الإرهاق الذي تُعاني منه علاقتها بزوجها.
نلمس أنها تتمنى أن تعود علاقتها بزوجها إلى ما كانت عليه في الماضي: شغف البدايات، والميل الجسدي الجارف. ولكن هذا لا يصمد أمام الحياة اليومية: يتآكل، بل وقد يندثر. تشعر بالحنين إلى الشغف البكر، إنها تحن إلى عهد الهوس المذهل، إلى الشعور الذي توقده ابتسامات الحب المتبادلة الأولى، والشوق الذي لا ينطفئ. ولكن الوقت يغير كل شيء ويطيح به. ينتهي الأمر بديان إلى أن تجعل من ابنتها أهم شيء في حياتها، وكل ما عداها تافه، لا يُذكر.
تأثرتُ بديان بقدر تأثري بلو. ديان، لأننا في نفس المرحلة العمرية. لو، لأنني مررت بنفس العواصف في مراهقتي. كنتُ أتمنى لو قرأتُ هذه الرواية في وقتٍ كنتُ بأمسّ الحاجة فيه لرؤية الأمور بوضوح. ربما كانت ستسمح لي بأن أكون أكثر انتباها. في "الساعات الهشة"، تتجلّى الصدمات العابرة للأجيال بهدوء. يحاكي توهان لو تجربة ديان عندما كانت في نفس المرحلة العمرية. من دون كلمات، وفي ظلّ مناخ عاطفي خانق، وأمورٍ لم تُقل، ونقائص، نقلت ديان بعض الجروح إلى ابنتها. يجب أن نتذكر أن ما لا يُحلّ يتكرر، وأن مشاكل جيلٍ قد تُصبح عبئا صامتا على الجيل التالي.
اختارت فيرجيني غريمالدي سردا متقاطعا بين الأم وابنتها، يُتيح انعكاسا للهشاشة. يتناوب صوتا ديان ولو بين الفصول، وينسجان حوارا داخليا مؤثرا للغاية. ندخل من باب ضيق، من الأسرار الصغيرة التي تنفتح تدريجيا على كشوفاتٍ عظيمة. لكي نشعر بتحسن، علينا أن نقبل حقيقتنا قبل مشاركتها مع الآخرين. تُعرض دواخل هاتين المرأتين، في سنٍّ محورية، بدقةٍ مذهلة. هذا بلا شك ما أثر فيّ أكثر من أي شيء... فأنا أشاركهما الكثير من أفكارهما.
أودُّ طرح نقطة مهمة: في سن المراهقة يصبح الأبناء قادرين على الكذبِ على والديهم، إنهم يتغيرون دونَ أن تتم ملاحظتهم، يعانون ويخفون معاناتهم عن الجميع. هذا بلا شكٍّ ما يجب على الوالدين أن ينتبهوا له، وقد جسّدتهُ فيرجيني ببراعة.
يعتقد الآباء والأمهات أنهم يعرفون أبناءهم أكثر مما يعرفون أنفسهم: يتوقعون ردود أفعالهم، ويخمّنون سلوكهم. لا يدركون أن الأبناء في سن المراهقة، لديهم حديقتهم السرية، يخبئون الكثير من الأشياء، ينزوون، يختبئون. أن تكون أبا أو أما، هذا يعني البحث، الشك، المرافقة، الحب غير المشروط، قبول عدم التحكم في كل شيء، التواصل، المعاناة، الموافقة على النمو أكثر، الاعتراف بالاختلاف، واتباع المسار المعاكس لجروحك، حتى لا تنقلها إلى أبنائك. عليك أن تحول كل ما اختبرته في حياتك إلى ضوء ينير درب أبنائك. أقول هذا لأني وجدت الكثير من الآباء والأمهات - في تعاملهم مع أبنائهم المراهقين - وكأنهم يقدمون تكريما حيويا لأعمال ستيفن كينغ هههه! وأخص بالذكر روايتي "هو" و"مقبرة الحيوانات"، حيث تُحارب مجموعة المراهقين قوى الشر.
في هذه المرحلة العمرية الحساسة، تضع فرجيني غريمالدي حقائبها لتدعونا إلى إلقاء نظرة فاحصة على ما نعتقد أننا نعرفه. هنا، تتكشف دراما حميمة. وكأن الخيال في هذه الرواية ينشأ كاستجابة لمعاناة حاضرة بالفعل، مخفية عن أعين الوالدين.
عند مرورنا بمرحلة المراهقة، تولد نسخ أخرى من ذواتنا، وبمساعدة الوالدين، يستطيع كل منا تغيير واقع ما يُرهقه. المفاجآت والأفكار الموجودة في هذه الرواية مهمة ورائعة. لقد أذهلني مدى ملاءمة اختيارات الكاتبة. لا تتردد فيرجيني غريمالدي، تتحدى كل شيء، والنتيجة مبهرة.
من أهم ما يمكنني استنباطه من "الساعات الهشة"، هو أننا ندرك في سن المراهقة أن البالغين ليسوا دائما أشخاصا لطفاء قادرين على الحماية. قد يكونون ناقصين، أو مسيئين، أو عنيفين، أو حتى غائبين. تتداعى أوهامنا. ننزف داخليا. ويصبح الاستياء أكثر وضوحا. تمثل الأسرة في الرواية طقسا إلزاميا للانتقال بسلام من عالم البراءة إلى عالم الرشد. يخرج المراهقون من هذه المرحلة وقد تغيروا بشكل لا رجعة فيه.
يتميز قلم غريمالدي بقوةٍ مؤثرة، بالحيوية والصدق، إنه بلسمٌ للقلب. يجسّد روح العصر والعواطف في آنٍ واحد. أوصافه حسية، وحواراته آسرة. تمتزج أصوات الشخصيات بأفكارها. تستخدم غريمالدي لغةً ثريةً وجميلةً لا تُنقص من روعة الحبكة، بل على العكس تمامًا. قلمها نابضٌ بالحياة، يُلهم مشاعر أبطالها، ونشعر بأنها استمتعت كثيرًا بكتابة هذه الرواية. إنها تجيد تجسيد الخوف والعار والرغبة الجنسية.
ربما تكون رواية "الساعات الهشة" أكثر جدية من رواياتها السابقة (حتى وإن كانت بعض الجمل مضحكة) ولكن بدا لي من المناسب استخدام هذه النبرة تحديدا لتسليط الضوء على هذه التحولات في الحياة.
كل عام، أنتظر بفارغ الصبر رواية جديدة لغريمالدي. إلى درجة أني أصبحت أطلق على كل رواية جديدة تصدرها: عطر غريمالدي الجديد. أثّر فيّ عطر "الساعات الهشة" بعمق. يُظهر هذا العطر حنانا واهتماما تجاه جميع الأمهات وجميع الأبناء. نشعر بهذا الحب المطلق، ونستشعر الضعف الذي يجعلنا بشرا.
#وليد_الأسطل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟