أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الأسطل - رواية ظلال العالم.. ميشيل بوسي















المزيد.....

رواية ظلال العالم.. ميشيل بوسي


وليد الأسطل

الحوار المتمدن-العدد: 8437 - 2025 / 8 / 17 - 00:12
المحور: الادب والفن
    


تستمد هذه الرواية جذورها من واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية في تاريخ البشرية، إبادة التوتسي في رواندا. يروي ميشيل بوسي هذه الوقائع التاريخية، مستهلا روايته كما لو كانت حكاية: "كان يا ما كان، مملكة صغيرة بحجم مقاطعة فرنسية". لكن ما يلي هذا، مختلف تماما. إنه أبريل/نيسان 1994، اليوم التالي للهجوم على طائرة الرئيس هابياريمانا. أُسقطت الطائرة بصاروخ، فأصبح هذا الحدث شرارة واحدة من أعنف جرائم الإبادة الجماعية في تاريخ البشرية.

هل بدأتم تفهمون؟ لا غرف غاز هنا، ولا رشاشات ثقيلة، ولا حلول نهائية ابتكرها العلماء. هذه إبادة جماعية ارتكبها قتلة مدججون بأدوات عتيقة، لكن لم يسبق أن كانت بمثل هذه الفعالية منذ فجر البشرية. مليون قتيل في مئة يوم، أكثر من عشرة آلاف قتيل يوميا. حتى النازيين لم يفعلوا هذا.

بعد ثلاثين عاما، في نورماندي، تستعد عائلة للاحتفال بعيد الميلاد. تفتح ماي، البالغة من العمر خمسة عشر عاما، هداياها مع والدتها ألين وجدها جوريك: شريط كاسيت لأغاني رواندية مُدمج في مسجل قديم، وصورة لغوريلا في موطنها الطبيعي، وثلاث تذاكر طيران إلى رواندا. لا تعرف ماي الكثير عن أصولها الرواندية، ولكن على متن الطائرة، يأتمنها جدها على مذكرات جدتها، إسبيرانس، المكتوبة بين عامي 1990 و 1994. تبدأ القصة بلقاء غير متوقع بين معلمة رياضيات رواندية (إسبيرانس) وجوريك، الذي كان جنديا مظليا في الجيش الفرنسي.

بين الماضي والحاضر، تتكشف أحداث رواية "ظلال العالم" Les Ombres du monde في تأرجح مستمر بين زمنين، وسعي مزدوج. في الماضي، يُحلل ميشيل بوسي الأحداث التاريخية، ويكشف تدريجيا عن حقائق الصراع المُرعبة. في الحاضر، تكتشف ماي عائلتها وتدرك أصولها. يتيح هذا البناء السردي للقارئ الشعور بتوتر الأحداث في رواندا، ويختبر، في الوقت نفسه، أهمية اكتشافاتها.

غرس جوريك الجذور الرواندية في حفيدته ماي من خلال القصص والأغاني وشغفها بالغوريلات. لا تعرف ماي الجبال الخضراء لهذا البلد الصغير، لكنها لطالما أعربت عن رغبتها في زيارته. أما والدتها، التي غادرت رواندا في الثالثة من عمرها، فلا تتذكر شيئا ولا تشعر بالحاجة لمعرفة المزيد عن أصولها. لا تمثل تذاكر الطيران مجرد هدية ووعد برحلة رائعة، إنها تمثل الحق في المعرفة.

هذا البحث عن الأصول منسوج على مدى أجيال. من خلال المذكرات، تُكوّن ماي رابطا رائعا مع إسبيرانس. أحببتُ الأقسام الخاصة بالحاضر لجمال هذا الرابط بقدر ما أحببتُ المعلومات التي نكشفها فيه عن الماضي. إن استعادة الذات عبر التاريخ تجعل ماي وريثة شعب وثقافة وتضامن ضمني. ليست الهوية حالة ثابتة أبدا؛ إنها تتكون من شظايا متعددة من الماضي والحاضر لتصبح كلا كبيرا يُشكّلنا. في هذا، يسمح تطور ماي، واكتشاف تاريخ عائلتها، وقوة الروابط، لـ"ظلال العالم" بتقديم لحظات من الرقة والجمال والتعاطف والحب.

لكن "ظلال العالم" هي قبل كل شيء قصة ذاكرة، وكسر للصمت، ونقل للأحداث. وجدت ميشيل بوسي ناقلا للحقائق، تماما مثل مذكرات إسبيرانس. إن الصدمة الجماعية التي تُصيب عائلة ماي تُؤثر أيضا على مجتمع بأكمله على نطاق أوسع. ما لم يُروَ جهرا، مدعوما بالأدلة، يجب الآن كشفه. الحقيقة مؤلمة، ولكن أليست ضرورية؟ لقد حان الوقت لمواجهتها، وكشف الحقائق مع خطر إعادة فتح الجروح.

يتيح اختيار الرواية التاريخية للكاتب نسج التاريخ الشخصي والتاريخ الجماعي. يمتزج الواقع التاريخي بالنفس الروائي ليجعل العمل غير منفر، بسبب جدية الموضوع. سيسعد هذا العمل الروائي حتى أكثر المترددين الذين لا ينجذبون إلا إلى الخيال المحض. أنا على قناعة راسخة بما سأسجله: ستبقى رواية "ظلال العالم" عملا أدبيا مؤثرا في الذاكرة الجماعية، لأنها تجبرنا على التأمل فيما نفعله، أو فيما لا نفعله، في مواجهة العنف والظلم. إن التجاهل، والصمت، وعدم التصرف هو في حد ذاته موقف، والزمن لا يمحو الأخطاء، بل على العكس، يُبرزها. إن روح الرواية تُبرز الجرائم المرتكبة بقدر ما تُبرز الصمت أو الرغبة في إخفائها.

إن الاعتراف بالجرائم هو شكل من أشكال الدفاع عن الإنسان وحريته وكرامته. وإن لم يجر هذا الاعتراف في الحاضر، فسيحدث في المستقبل، لا محالة. فالذاكرة الجماعية تنتصر دائما في النهاية.

يبدو لي ما يقوله ميشيل بوسي، جوهريا، ويُجبرنا على النظر إلى الصراعات التي تهز العالم في عام 2025. ينتهي التاريخ دائما بمعاقبة الصمت وغياب الفعل. جراح الذاكرة الجماعية لا تُمحى. كيف لنا ألا نفكر في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة؟ تجري اليوم مآس إنسانية، بنفس مكونات مآسي الأمس... قصفٌ للسكان المدنيين، مجازر تُرتكب، وفوق كل ذلك، تقاعسٌ من الدول الكبرى التي تسمح بحدوث هذا، مكتفية بإدانته لفظيا. تماما مثلما حدث في كيغالي عام 1994، تُشير القوى الكبرى إلى أنها تدعو إلى وقف إطلاق النار، لكنها لا تتدخل.

سيُدين التاريخ تقاعس الدول الكبرى. سيُحاسب التاريخ المسؤولين عن هذه الجرائم. سيُسجل التاريخ سلبية الحكومات العربية. سيصعب على الرؤساء القول: لم نكن نعلم. إن صور المجازر يتم بثها باستمرار على التلفزيون. من هنا يمكنني القول: إن السلبية مُتناغمة مع التواطؤ.

تظهر رواية "ظلال العالم" بوضوح أنه لا فائدة من غض الطرف أو التقليل من مسؤولياتنا. بل على العكس تماما. سنُحاسب جميعا بقسوة بالغة، ولن تُجدي الحسابات الاقتصادية أو الدبلوماسية نفعا. سنكون مسؤولين أخلاقيا عن جمودنا.

يقول ميشيل بوسي الحقيقة في رواية "ظلال العالم". مهما بدت الأحداث التي ترويها هذه الرواية مروعة، إلا أنها حقيقية للأسف. يُحلل بوسي التلاعبات السياسية، وآليات الدعاية والتضليل الإعلامي. يظهر بوضوح في هذا النص مدى سيطرة من يملكون المعلومات على حرب السرديات، مما يُسهّل تشكيلها لصالحهم.

لا يتردد ميشيل بوسي في تسليط الضوء على مسؤوليات فرنسا وتداعياتها في هذه الإبادة الجماعية. من وجهة نظر إسبيرانس، يبدو موقف فرنسا متناقضا للغاية. فهي تعلن أنها تحمي الشعب، لكنها في الواقع متواطئة مع نظام يُحضّر لإبادة جماعية. أسهم التقاعس في اللحظات الحاسمة وعدم تبني خيارات دبلوماسية تتماهى مع الضمير الحي في إبادة شريحة كاملة من السكان، "الصراصير"، شعب التوتسي.

هنا، يخرج ميشيل بوسي عن المألوف، وأُحيّي إرادته وعزيمته وشجاعته على سلوك هذا الطريق الذي لم أتوقعه أبدا. لكن يبقى ميشيل بوسي، ملك التقلبات التي لا يتوقعها أحد. فهو المُعتاد على صياغة الحبكات المعقدة. يُبدع هنا في مفاجأة قرائه بتقلبات مُذهلة! أذهلتني براعة البناء السردي لهذه الرواية، الذي يتيح لنا استيعاب معانيها بسهولة.

"ظلال العالم" رواية مؤثرةٌ جدا بقدر ما هي مُقلقة، نظرا لحجم ما تحتويه من كشوفات. ورومانسيةٌ بقدر ما هي واقعية. يُحقق الجمع بين الاثنين نجاحا باهرا، إذ يُوازن أحدهما الآخر عند الضرورة. يُبدع ميشيل بوسي في إبهارنا، وتوعية إدراكنا، وتثقيفنا. لا يعرف الكثيرون إلا القليل عن هذه الإبادة الجماعية، تماما كما كانوا لا يعرفون سوى القليل عن تلك التي وقعت في أرمينيا، قبل رواية إيان مانوك "طائر أرضروم الأزرق".

لا إبادة جماعية دون حرب. تمنح الحرب الحق في القتل، وتقلل من شأن الموت، تُطبّع الهمجية، تهدم الحواجز النفسية، وتُلغي المعايير الأخلاقية. لكن الإبادة الجماعية مختلفة تماما. إنها تهدف إلى إبادة شعب إلى الأبد. على سبيل المثال، في الحرب، يُقتل الرجال أولا، ويُمثل جنود العدو التهديد الرئيسي. أما في الإبادة الجماعية، فتُقتل النساء أولا، لأنهن يحملن الحياة، ثم الأطفال لأنهم يُمثلون المستقبل، ثم كبار السن، لأنهم حُرّاس الذاكرة.

وأخيرا، لا يسعني سوى أن أعقد آمالي على أن تكون رواية "ظلال العالم" على قائمة إحدى الجوائز الأدبية المرموقة.



#وليد_الأسطل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية برج الجرس.. آر جي إيلوري
- روايتي ذاكرة شمبانيا
- رواية أولئك الذين ظننا أننا نعرفهم.. ديفيد جوي
- رواية ذات مرة كان هناك ذئاب
- رواية مكان خاطئ، زمان خاطئ.. جيليان ماكاليستر
- آسيا الوسطى، المركز العصبي الخفي والحيوي للجغرافيا السياسية ...
- رواية العندليب.. كريستين هانا
- رواية بابيت.. سنكلير لويس
- رواية حوريات البحر.. إيميليا هارت
- نادي المهن الغريبة.. غلبرت كيث تشيسترتون
- رواية قتلي.. كاتي ويليامز
- مشروع إنشاء جيش أوروبي مشترك
- احتمالية حرب نووية في أوروبا
- رواية منفاخ الزمن.. كريستينا كابوني
- رواية دم واحد.. دينين ميلنر
- ومات ماريو بارغاس يوسا
- رواية كتاب الأبواب.. غاريث براون
- تأثير دانينغ-كروجر.. ترامب مثالا
- جاك لندن.. تصحيح حُكْم
- رواية كرنفال أشباح.. روجر جون إلوري


المزيد.....




- لتوعية المجتمع بالضمان الاجتماعي .. الموصل تحتضن اول عرض لمس ...
- -شاعر البيت الأبيض-.. عندما يفتخر جو بايدن بأصوله الأيرلندية ...
- مطابخ فرنسا تحت المجهر.. عنصرية واعتداءات جنسية في قلب -عالم ...
- الحرب في السودان تدمر البنية الثقافية والعلمية وتلتهم عشرات ...
- إفران -جوهرة- الأطلس وبوابة السياحة الجبلية بالمغرب
- يمكنك التحدّث لا الغناء.. المشي السريع مفتاح لطول العمر
- هل يسهل الذكاء الاصطناعي دبلجة الأفلام والمسلسلات التلفزيوني ...
- فيلم جديد يرصد رحلة شنيد أوكونور واحتجاجاتها الجريئة
- وثائقي -لن نصمت-.. مقاومة تجارة السلاح البريطانية مع إسرائيل ...
- رحلة الأدب الفلسطيني: تحولات الخطاب والهوية بين الذاكرة والم ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الأسطل - رواية ظلال العالم.. ميشيل بوسي