أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - وليد الأسطل - أوروبا بين وهم الطمأنينة وتحوّلات الصراع العالمي














المزيد.....

أوروبا بين وهم الطمأنينة وتحوّلات الصراع العالمي


وليد الأسطل

الحوار المتمدن-العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 21:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تعيش القارة الأوروبية لحظة تاريخية دقيقة، لحظة تتكشّف فيها حدود القوة وحدود الاعتماد على الآخر في عالم يتغيّر على نحو متسارع. لم تعد الحرب في أوكرانيا حدثا محصورا في الجغرافيا الشرقية لأوروبا، ولا أزمة عابرة يمكن احتواؤها عبر توازنات تقليدية. ما يجري أعمق من مواجهة عسكرية، فهو إعادة تشكيل شاملة لمفهوم الأمن، ولموقع أوروبا داخل النظام الدولي، ولمدى قدرتها على حماية ذاتها في بيئة عالمية باتت أكثر خشونة وأقل قابلية للتنبؤ.

من وجهة نظري، تبدو أوروبا اليوم في وضع مألوف. قارة اعتمدت طويلا على مظلة خارجية، ونسجت أمنها واستقرارها على أساس ضمانات قادمة من خلف المحيط، تجد نفسها فجأة أمام سؤال سيادي جوهري: من يحمي أوروبا عندما تتراجع الإرادة الأميركية؟ هذا السؤال يذكّر العالم العربي بتجارب مشابهة، حيث كشفت التحولات الدولية مرارًا هشاشة الأمن القائم على التحالفات غير المتكافئة، وعلى افتراض دوام المصالح الخارجية.

الخطر الذي يلوح في الأفق الأوروبي لا يتجسد فقط في احتمال صدام عسكري مباشر مع روسيا. يكمن التهديد الحقيقي في طبيعة الصراع ذاته. نحن أمام نمط جديد من الحروب، حروب تتسلل عبر الفضاء الرقمي، وتضرب شبكات الطاقة، وتعطّل المواصلات، وتزرع القلق داخل المجتمعات من دون إعلان حرب رسمي. لا يحتاج هذا النوع من المواجهة إلى دبابات تعبر الحدود، ولا إلى صواريخ تُطلق على العواصم، فهو يستهدف شرايين الحياة اليومية، ويحوّل الاستقرار إلى حالة هشة قابلة للانهيار في أي لحظة.

يثير هذا التحول تساؤلا أوسع حول مفهوم القوة في القرن الحادي والعشرين. أوروبا، التي راكمت ثروة هائلة، وبنت نموذجا متقدما للرفاه، اكتشفت أن تفوقها الاقتصادي لا يترجم تلقائيا إلى مناعة استراتيجية. لم يعد الأمن مسألة جيوش فقط، ولا مسألة إنفاق عسكري، فهو شبكة متكاملة تشمل الطاقة، والاتصال، والغذاء، والبنية التحتية، والثقة المجتمعية.

يتضاعف القلق الأوروبي مع تراجع الوضوح في الموقف الأميركي. لم يعد الخطاب السياسي القادم من واشنطن يقدّم الطمأنينة التي اعتادت عليها العواصم الأوروبية. تغيّرت اللغة والأولويات، وبات مفهوم الالتزام مشروطا بتوافقات أيديولوجية وسياسية داخلية. يضع هذا التحوّل أوروبا أمام واقع جديد: لم يعد التحالف ضمانة ثابتة، وقد تُسحب أو تُثقَب المظلة الأمنية في اللحظة التي تتبدّل فيها الحسابات.

يحمل هذا المشهد دلالة مهمة بالنسبة لعالمنا العربي. النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب الباردة يتآكل من الداخل. القواعد التي حكمت العلاقات بين القوى الكبرى تفقد صلابتها، والفراغات الاستراتيجية تتكاثر. في مثل هذه البيئات، تتحرّك القوى الطامحة إلى توسيع نفوذها، وتختبر الخطوط الحمراء، وتعيد رسم مناطق التأثير. ليس ما تفعله روسيا في محيطها الأوروبي منفصلا عن هذا السياق العالمي، وهو يذكّر بسلوكيات مشابهة شهدتها مناطق عربية عندما ضعفت التوازنات، وغاب الردع الواضح.

تواجه أوروبا أيضا أزمة إدراك. خلق التركيز الطويل على الأمن التقليدي شعورا زائفا بالسيطرة، في حين تُركت الجبهات غير المرئية أقل تحصينا. يعكس هذا الخلل في الرؤية مشكلة أعمق: صعوبة الانتقال الذهني من عالم الحروب الكلاسيكية إلى عالم الصراعات المركّبة. وهي صعوبة لا تخص أوروبا وحدها، فقد واجهتها دول عربية عند أول اختبار حقيقي لقدرتها على حماية فضائها السيبراني، أو منشآتها الطاقوية، أو نسيجها الاجتماعي.

في حال توقّف الحرب في أوكرانيا بطريقة تمنح روسيا مكاسب ملموسة، فإن الرسالة التي ستصل إلى العالم ستكون خطيرة. القوة تُكافأ، والحدود قابلة للتعديل، والردع الجماعي قابل للتآكل. لا تتوقف آثار مثل هذه الرسالة عند أوروبا الشرقية، فهي تمتد إلى كل المناطق التي تعيش نزاعات مجمّدة، أو توازنات هشّة، بما فيها الشرق الأوسط. التجربة العربية مع تسويات غير عادلة تُظهر كيف يتحوّل "الهدوء" المؤقت إلى مقدّمة لجولات صراع أكثر عنفا.

يفرض المشهد الأوروبي الحالي على العرب قراءة مزدوجة: قراءة لما يحدث هناك، وقراءة لما يعنيه ذلك هنا. يدخل العالم مرحلة تتراجع فيها الضمانات، ويتقدّم فيها منطق القوة، وتزداد فيها أهمية الاعتماد الذاتي. أوروبا، رغم ثقلها التاريخي، تمرّ اليوم باختبار سيادي حقيقي. سيترك نجاحها أو فشلها في إعادة تعريف أمنها أثرا عميقا على شكل النظام الدولي القادم.

إن ما تعيشه أوروبا ليس أزمة أوروبية فقط. هو مرآة لتحوّل عالمي واسع، حيث لم يعد الاستقرار حالة دائمة، وحيث بات الأمن مشروعا مستمرا يحتاج إلى رؤية شاملة، وإرادة سياسية، واستقلالية في القرار. هذا الدرس، الذي تدفع أوروبا ثمن تعلّمه اليوم، يعرفه العالم العربي جيدا، وربما آن الأوان لقراءته بوعي جديد، بعيدا عن الأوهام، وقريبا من حقائق القوة في عالم مضطرب.



#وليد_الأسطل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية العالَم متعَب.. جوزيف إنكاردونا
- رواية ضوء السعادة.. إريك إيمانويل شميت
- رواية الراية الدامية مرفوعة.. بنيامين ديرشتاين
- رواية إل كامينو دي لا مويرتي.. قويدر ميموني
- كيمياء القراءة.. لماذا نعشق نصوصا وننفر من أخرى؟
- الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والحاجة إلى الانتقال من اللاهوت ...
- رواية رسائل إلى تافيت.. قويدر ميموني
- رواية ما لا يخفيه الظلام.. قويدر ميموني
- رواية البيت الفارغ.. لوران موفينييه
- مسلسل أحياء
- رواية مُحبَطات.. ماري فاراي
- رواية آخر جريمة قتل في نهاية العالم.. ستيوارت تورتون
- رواية شفق الأرملة البيضاء.. سيريل كارير
- رواية الصديق لويس.. سيلفي لو بيهان
- الذكاء الاصطناعي وهلاك الإنسان
- رواية لدغات الصمت.. جوهانا غوستاوسون
- أوروبا والمحور الأيديولوجي دوغين-يارفين
- عن الاستماع إلى الموسيقى وقت الكتابة
- ظِلُّ السنوار.. عمار بلخضرة
- إدانة نيكولا ساركوزي.. سيادة الشعب أم سيادة أوليغارشية أصحاب ...


المزيد.....




- بيان سعودي بعد قرار أمريكا رفع عقوبات -قانون قيصر- عن سوريا ...
- أكبر صفقة غاز في تاريخ إسرائيل: ماذا تعني لمصر ولإسرائيل؟
- كل ما تريد معرفته عن قائمة حظر السفر إلى الولايات المتحدة
- مستوطنون إسرائيليون يدهسون شابًا فلسطينيا في نابلس.. العنف ي ...
- -هذه شروطنا للسلام-.. بوتين يتباهى بتقدّم قواته في أوكرانيا ...
- الصحافة الإسرائيلية تطرح إمكانية استئناف إسرائيل حربها في لب ...
- كأس العرب: المغرب يتوج باللقب بعد فوزه على الأردن
- بن طالب وزياش وبيبي... نجوم لن تلمع في سماء كأس الأمم الأفري ...
- فرصة مؤقتة لفرنسا.. الاتحاد الأوروبي يؤجل توقيع اتفاق التجار ...
- الاتحاد الأوروبي يفشل في التوافق على استخدام أصول روسيا المج ...


المزيد.....

- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - وليد الأسطل - أوروبا بين وهم الطمأنينة وتحوّلات الصراع العالمي