أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الأسطل - رواية إل كامينو دي لا مويرتي.. قويدر ميموني















المزيد.....

رواية إل كامينو دي لا مويرتي.. قويدر ميموني


وليد الأسطل

الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 16:12
المحور: الادب والفن
    


أدركت وأنا أقرأ رواية "إل كامينو دي لا مويرتي" للروائي قويدر ميموني، الفائزة بجائزة كتارا، أنني أمام عمل لا يقبل القراءة العابرة ولا يسمح للذائقة المتعجّلة بأن تقرّر مصيره. فالنص يفلت من أحكام الانطباع الأول، ويطالب قارئه بجهد معرفي وجمالي يجمع بين التأويل الحذِر والتفكيك المستمر، كما لو أنه يصرّ على اختبار أدوات القراءة ذاتها. وهذا من سمات الأعمال الروائية التي تسهم في توسيع أفق المقاربة النقدية وتطوير حساسية التلقي. لا يشبه الوقوف أمام هذا العمل مراجعة رواية بقدر ما يشبه الدخول في مختبر سرديّ يفحص فيه القارئ حركة المعنى وهو يُعاد تشكيله لحظة بلحظة؛ نصّ يحمل ملامح تلك الكتابة التي تتجاوز الحكاية لتصير أثرا من أثر الذات، وامتدادا لأسئلتها وقلقها، في مثال دالّ على قدرة السرد الحديث على تحويل التجربة الفردية إلى خطاب جمالي مركّب، يذكّر القارئ بأن الأدب الحقيقي ليس مرآة، بل فعل خلق يتجاوز حدود المألوف نحو أفق أكثر إشراقا بالأسئلة، وأكثر امتحانا لطاقته على اكتشاف ما يتوارى خلف الظاهر.

يقدّم العالم الروائي فضاء يتآكل فيه الضوء من الداخل، وتنهار فيه الروابط المفترضة التي تمنح الوجود توازنه الأخلاقي. في هذا الفراغ القيمي تنشأ الحكاية، لا باعتبارها رحلة خلاص، ولكن بوصفها تجربة تضادّ كل ما اعتادت الرواية الواقعية أن تعد به قارئها. إنها لا تبحث عن تخفيف حدّة العالم، بل عن تعرية هشاشته. ف"درب الموت" ليس مجرد اسم لطريق جبليّ، بل هو استعارة جذرية لمسار نفسيّ تتصارع داخله ثنائيتا النجاة والفناء، وتتحول فيه الحرية من أفق للارتقاء إلى ممارسة هابطة تعيد مساءلة مفهوم الحرية ذاته. ولعلّ في هذا الاشتغال الرمزي ما يقرّب الرواية من حقل الكتابات الوجودية التي تجعل من الأزمة مادة سردية، وتحوّل الانهيار إلى محور دلالي لا يمكن تجاوزه، وهو منحى يُعدّ اليوم من الاتجاهات المركزية في الدراسات السردية المعاصرة، ويمنح النص بُعده الذي يزاوج بين القسوة الجمالية وعمق الاستبطان، ليكشف طبقات الإنسان الداخلية في لحظات فقدانه لتماسكه.

لا يتعامل النص مع بطله بوصفه شخصية تبحث عن معنى يعصمها، بل بوصفه كيانا هشًّا تتشظى داخله الأسئلة. لا تُطرح الأسئلة هنا بحثا عن إجابات بل باعتبارها آلية لكشف التصدّعات العميقة في علاقة الإنسان بذاته وبالعالم. إنّ البطل يدرك في كلّ خطوة أن الأخلاق الحميدة ليست قادرة على حماية ذاته، ما يجعل تمرّده لا يأخذ شكل المقاومة الصاعدة، بل شكل الانحدار المقصود نحو الظلام. هذا التحوّل يضع الرواية ضمن السياق الفني الذي يختبر مفهوم الشرّ بعيدا عن مقولات الأخلاق التقليدية، ليفتحه على أبعاده الأنثروبولوجية والنفسية والفلسفية، وهو ما يعكس قدرة الرواية على استثمار مفاهيم نقدية معاصرة دون أن تفقد كثافتها الأدبية، بل تعيد منحها ذلك البريق الذي يجعل الشرّ ذاته مادة للتأمل لا للحكم، وللفهم لا للمساءلة الأخلاقية المباشرة.

يتخذ قتل بطل الرواية لأخيه التوأم معنى يتجاوز الجريمة القانونية ليتحوّل إلى لحظة تأسيسية في بناء الدلالة: لحظة قطيعة مع آخر أثر للإنسانية يمكن أن يشهد على صراعه الداخلي. فالتوأم ليس شخصية إضافية بل وظيفة بنيوية تمثّل الآخر الداخلي الذي يذكّره بأن الخير ما يزال ممكنا. يُقرأ قتله بوصفه تدميرا للمرآة التي تفضح هشاشته، ونفيا للاحتمال الأخلاقي الأخير الذي كان يربطه بالضوء. هنا تتبدّى الرواية كخطاب ضدّ العزاء، ضدّ فكرة أن الإنسان قادر على العودة متى شاء إلى منطقة النقاء الأولى، في طرح ينسجم مع مقاربات سردية حديثة ترى في العنف لحظة كشف لا مجرد حدث حكائي، وتصنع من المأساوي أفقا لفهم الإنسان في أكثر لحظاته كثافة وتوتّرا، حيث يصبح الفعل التراجيدي نافذة داخلية تُظهر المخبّأ أكثر مما تُغلقه.

أما انتحار البطل، فلا يأتي كخاتمة سردية بقدر ما يأتي كفعل فلسفيّ يتقاطع مع تراث طويل من أدبيات العبث. إنه لا يضع حدًّا لوجوده فقط، بل يعلن رفضه للمنظومات الفكرية التي تروّج لفكرة أن التمرد يمنح الحياة معناها. تتعامل الرواية هنا مع الانتحار باعتباره موقفا نظريا بقدر ما هو فعل واقعي؛ احتجاجا على العدمية التي تُقنَّع بشعارات التفاؤل. وكأن البطل يكتشف أن الهاوية في جوهرها ليست موضوعا للتفسير بل لحظة سقوط متجددة، وأن محاولة فهمها ليست سوى محاولة أخرى لإخفاء رعبها. وهذا التوظيف للانتحار بوصفه حدثا معرفيًا يضع الرواية ضمن مستوى من النضج السردي يراهن على وعي القارئ النقدي، ويحوّل المأزق الإنساني ذاته إلى سؤال مفتوح حول معنى البقاء، لا باعتباره معطى، بل باعتباره امتحانا دائما للممكن والمستحيل.

يلعب المكان، وهران تحديدا، دورا مركزيا لا بوصفه إطارا للأحداث، بل بوصفه حقلا دلاليا يعيد تشكيل علاقة الإنسان بتاريخ المكان وذاكرته. فالدرب الجبلي بما يحمله من إرث أسطوري عن سقوط ذلك السلطان في الماضي، يشتغل بوصفه بنية تحتية للمخيال الجمعي، ويحوّل المكان إلى أرشيف للخطايا والسقوط. هنا لا يعود الفضاء الروائي مجرد عنصر مشهدي، بل يصبح فاعلا يشارك في إنتاج المعنى، ويؤكد أن الإنسان، مهما تغيّر، يظل أسير علاقة متوترة بين الرغبة في الارتقاء والافتتان بالغور. هذا التوظيف المكثّف للمكان يعكس وعيًا جماليًا يحوّل الجغرافيا إلى نص موازٍ، ويمنح الرواية تلك القدرة النادرة على جعل المكان ذاكرةً تتحرك وتتنفّس، كأنها كائن يُعيد صياغة الإنسان كلّما حاول الفرار منه.

أما المخطوطة القديمة التي تقع بين يدي البطل باعتباره صحفيًا، فتكشف عن الوجه المعرفي للنص. فهي ليست وثيقة تؤرخ للماضي بقدر ما هي بنية نصية ثانية تتجاور معها الرواية وتتحاور، وتُحدث انزياحا في مفهوم الحقيقة. فبدلا من أن تمدّه المخطوطة بإجابات، تعمّق تشظّيه الداخلي، وتحوّل البحث من فعل معرفي إلى مواجهة مع تعددية الخراب الكامن فيه. بهذا تصبح الرواية نصًا عن القراءة بقدر ما هي نصّ عن العيش؛ إذ يتحوّل القارئ والبطل معًا إلى كائنين مطاردين بأسئلة لا تنتهي. وهذا التكثيف للتناص الداخلي يمنح الرواية بعدًا معرفيًا يدعم قيمتها الفنية، ويعزّز انطباعها بوصفها مشروعا سرديا يكتب ذاته داخل ذاته، ويمنح القارئ إحساسا بأنه يتورّط في عملية تأويل لا يخرج منها إلا وقد تغيّر داخليا.

ولا يظهر في مسار الشخصيات ما يمكن أن يُعيد إلى العالم شيئا من اتزانه القيمي؛ إذ تتحرك جميعها داخل أفق مُعتِم لا يتيح سوى درجات مختلفة من العتمة، من دون أن يطلّ أي بصيص يَعِد بإمكانية الانفلات من هذا الحقل الأخلاقي المأزوم.

هنا تتخلى الرواية عن البنية الكلاسيكية للصراع بين الخير والشر، لتطرح سؤالا أكثر صرامة: ماذا لو لم يعد الخير موجودا إلا كمفهوم نظري؟ وكيف يتصرّف الإنسان حين يحاصَر بين مستويات مختلفة من الشر دون أي مخرج نحو النور؟ يجعل هذا الطرح النص يقترب من خطاب نقديّ يعيد مساءلة مركزية الإنسان الأخلاقية في السرد، ويعكس وعيًا بنيويًا ينسجم مع تحولات الرواية العالمية، حيث يصبح الإنسان ذاته موضوعا مفتوحا على احتمالات لا نهائية من الالتباس.

لا تبحث الرواية عن معنى للحياة ولا تمنح القارئ أي وهم بالخلاص، بل تشتغل على تفكيك البُنى العميقة التي يخفي البشر خلفها هشاشتهم. إنها نصّ يقصد الإرباك لأنه يدرك أن الأسئلة التي تغيّر الوعي لا تأتي لتجيب بل لتحدث صدعا في بنية التفكير. وهكذا يتحوّل الشر إلى لغة، والانتحار إلى احتجاج، والمكان إلى ذاكرة، والطريق إلى قدر، والإنسان إلى تجربة معلّقة في فضاء الظلال. وهذا الوعي بتعقيد التجربة الإنسانية يضع الرواية ضمن مصاف الأعمال التي تُقرأ بوصفها مشاريع فكرية بقدر ما هي إبداعات جمالية، ويمكّنها من احتلال موقعها في خطاب سردي عالمي أكثر جرأة وانفتاحا.

وفي النهاية، يضع النص قارئه أمام سلسلة من الأسئلة التي تقاوم الإجابة: هل الشر خيار أم نتيجة؟ هل العبث حقيقة أم اصطلاح نبتكره كي نحتمل الفوضى؟ هل يستحق الإنسان فعلًا أن يُنقذ؟
أم أن بحثه المستمر عن معنى ليس إلا محاولة خائفة للالتفاف على حقيقة أنه يمشي على درب يتلاشى تحت قدميه؟

إنّ "درب الموت"، في أكثر طبقاته الرمزية كثافة، ليس طريقا ينتهي عند الهاوية، وإنما طريق يبدأ منها؛ وهو ما يمنح الرواية قيمة أدبية تجعلها جديرة بأن تُدرَس بوصفها نموذجا سرديا متقدما في توظيف الرمزية الوجودية داخل بناء حكائي متماسك ومؤثر، ويجعلها من النصوص التي تُصغي إليها المخيلة بقدر ما يتهيّبها الوعي.



#وليد_الأسطل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيمياء القراءة.. لماذا نعشق نصوصا وننفر من أخرى؟
- الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والحاجة إلى الانتقال من اللاهوت ...
- رواية رسائل إلى تافيت.. قويدر ميموني
- رواية ما لا يخفيه الظلام.. قويدر ميموني
- رواية البيت الفارغ.. لوران موفينييه
- مسلسل أحياء
- رواية مُحبَطات.. ماري فاراي
- رواية آخر جريمة قتل في نهاية العالم.. ستيوارت تورتون
- رواية شفق الأرملة البيضاء.. سيريل كارير
- رواية الصديق لويس.. سيلفي لو بيهان
- الذكاء الاصطناعي وهلاك الإنسان
- رواية لدغات الصمت.. جوهانا غوستاوسون
- أوروبا والمحور الأيديولوجي دوغين-يارفين
- عن الاستماع إلى الموسيقى وقت الكتابة
- ظِلُّ السنوار.. عمار بلخضرة
- إدانة نيكولا ساركوزي.. سيادة الشعب أم سيادة أوليغارشية أصحاب ...
- رواية أردت أن أعيش.. أديلايد دي كليرمون تونير
- توم.. من مجموعتي القصصية شيء مختلف
- رواية الاصطدام.. بول غاسنييه
- رواية القلب صياد وحيد.. كارسون ماكولرز


المزيد.....




- فنان من غزة يوثق معاناة النازحين بريشته داخل الخيام
- إلغاء حفلات مالك جندلي في ذكرى الثورة السورية: تساؤلات حول د ...
- أصوات من غزة.. يوميات الحرب وتجارب النار بأقلام كتابها
- ناج من الإبادة.. فنان فلسطيني يحكي بلوحاته مكابدة الألم في غ ...
- سليم النفّار.. الشاعر الذي رحل وما زال ينشد للوطن
- التحديات التي تواجه التعليم والثقافة في القدس تحت الاحتلال
- كيف تحمي مؤسسات المجتمع المدني قطاعَي التعليم والثقافة بالقد ...
- فيلم -أوسكار: عودة الماموث-.. قفزة نوعية بالسينما المصرية أم ...
- أنغام في حضن الأهرامات والعرض الأول لفيلم -الست- يحظى بأصداء ...
- لعبة التماثيل


المزيد.....

- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الأسطل - رواية إل كامينو دي لا مويرتي.. قويدر ميموني