رمزي عطية مزهر
الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 13:40
المحور:
قضايا ثقافية
في مجتمعاتٍ أنهكتها الأزمات، لا يعلو صوت الحكمة بقدر ما يعلو صخب التفاهة. نشهد اليوم ظاهرة مقلقة تتمثل في تمجيد التافهين، ورفعهم إلى واجهة المشهد العام، بينما يُقصى العقل، ويُهمَّش الفكر، ويُستبدل الجهد الحقيقي بالضجيج المصطنع. هنا يبرز السؤال الجوهري: هل ما نعيشه أزمة ثقافية عميقة، أم مجرد واقعة اجتماعية عابرة؟
تمجيد التافهين لا يولد من فراغ، بل هو نتاج خلل في منظومة القيم. حين يُقاس النجاح بعدد المتابعين لا بعمق التأثير، وحين تتحول الشهرة إلى غاية بحد ذاتها، يصبح التفاهة سلعة رائجة. الإعلام غير المسؤول، ومنصات التواصل التي تكافئ الإثارة لا المعرفة، ساهمت في إعادة تعريف القدوة، فصار صاحب الصوت الأعلى أكثر حضورا من صاحب الفكرة الأعمق.
ثقافيا، نحن أمام أزمة حقيقية. فالثقافة ليست كتبا فقط، بل منظومة وعي وسلوك. وعندما تتراجع قيمة العلم والعمل، ويُسخر من الجدية، ويُكافأ السطح والعبث، فهذا مؤشر على خلل في الوعي الجمعي. الأخطر أن هذا التمجيد يخلق أجيالا ترى في التفاهة طريقا مختصرا للنجاح، وتفقد الثقة بالاجتهاد والمعرفة كوسيلة للارتقاء.
أما اجتماعيا، فالظاهرة تعكس حالة الإحباط العام. في واقع مليء بالانسداد السياسي والاقتصادي، يبحث الناس عن الترفيه السهل والهروب المؤقت من الألم. فيجدون في التافهين مادة خفيفة تقتل الوقت ولا تتطلب تفكيرا. هنا تصبح التفاهة ملاذا لا مشروعا، وعرضا لا سببا، لكنها مع الزمن تتحول إلى نمط مسيطر يفرض ذائقته على المجتمع.
في السياق الفلسطيني تحديدا، تبدو الظاهرة أكثر خطورة. شعب يخوض معركة وجود، ويدفع ثمنا باهظا في الدم والكرامة، لا يملك ترف تسليم وعيه للتفاهة. فتمجيد التافهين في زمن المواجهة ليس انحرافا أخلاقيا فحسب، بل إضعاف لجبهة الوعي، وتفريغ للنضال من مضمونه الثقافي والمعنوي.
الخلاصة أن تمجيد التافهين هو أزمة ثقافية تتجلى في واقعة اجتماعية. يبدأ كسلوك عابر، لكنه يتحول إلى مرض مزمن إن لم يُواجه. المواجهة لا تكون بالمنع والقمع، بل بإعادة الاعتبار للفكر، ودعم النماذج الجادة، وبناء إعلام مسؤول، وتعزيز ثقافة النقد والتمييز بين القيمة والضجيج.
فالمجتمعات لا تنهض بمن يضحكها لحظة، بل بمن يوقظ وعيها .
#رمزي_عطية_مزهر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟