عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 11:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الضجيج لا يصنع الحقيقة، بل أن الحقيقة بطبيعتها هادئة ومُطمئنة ولا تُفزِعُها الدّعايات. من هذا الباب نبدأ بالتساؤل: هل الدولة الديمقراطية الشفافة مُجبرة على نشر الاتفاقيات السرّية؟
الجواب، قطعًا لا. ولا توجد ديمقراطية في العالم تُلزِم نفسها بنشر كل الاتفاقيات، وخاصة العسكرية والأمنية.
لماذا؟
لأن الدول الديمقراطية تقوم على مبدأين متوازيين:
الاول: هو الشفافية والمساءلة
والثاني: هو الأمن القومي وحماية المصالح العليا
ولذلك تُصنّف الاتفاقيات العسكرية والأمنية ضمن المجال السيادي. وفي جميع "الديمقراطيات" يخضع نشرها أو عدمه لتقدير السلطة التنفيذية. وغالبًا لا تُنشر إلا بعد مرور سنوات أو لا تُنشر أصلًا. وهذا حدث ويحدث في الدول العزيزة على بعض المعارضين مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا ... وبالمناسبة في كل اتفاقيات الدفاع المشترك توجد ملاحق سرّية وبروتوكولات تعاون استخباراتي لا تُنشَر، ولا يُطالَب بنشرها لأنها لو نُشرت ستُفضح أمور لا يجوز فضحها، من ذلك خطط دفاعية مرتبطة بكيفية سدّ نقاط الضعف أو باختلال ميزان الردع ، إلى غير ذلك من الأمور التي يختص بها العسكريون. وعموما وبلغة أبسط، الديمقراطية لا تعني تعرية الدولة أمنيًا.
المسألة الثانية، حول سؤال: هل أن عدم التكذيب الرسمي يُعدّ دليلًا على صحة هذه الوثيقة؟
قطعًا لا ايضا، والسؤال يحمل مغالطة منطقية شائعة، بكل بساطة في علم السياسة الصمت لا يعني الإقرار. والدولة ليست مطالَبة بالرد على كلّ إشاعة. بل أن ردّها أحيانا يُضخّم الوثيقة، أو يكشف ما لا يجب كشفه، أو يمنح الإشاعة قوة مجانية. وكثير من الدول الغربية تعتمد مبدأ: "ما لا نعلّق عليه لا وجود رسمي له".
الآن، يمكن لأي مواطن منزعج من إخفاء محتوى الاتفاقية المُمضاة بين بلاده ودولة أخرى أن يتساءل: وقضية الشفافية كيف تؤخذ بعين الاعتبار؟
الجواب: نظريا من حقّ البرلمان استدعاء وزير الدفاع لمساءلته. وعمليًا يجري ذلك بشروط صارمة. ففي جميع الدول الديمقراطية يتم الاستماع لوزير الدفاع، غالبًا، في جلسات مغلقة، وأمام لجان مختصة، دون نقل إعلامي، ودون نشر التفاصيل. ومن حيث المبدأ وبمنطوق القانون لا يُسمح للوزير بالكشف عن أسرار دفاعية، ولا عن مضمون اتفاقيات حسّاسة. بمعنى أن استدعاء الوزير ومساءلته حقّ، والتزام عدم النشر ومنع التشهير واجب.
مع الأسف أحيانًا الصراع السياسي يؤدّي إلى نوع من الهستيريا تدفع ببعض الناس خارج السياقات المعقولة، حتى عندما يكون هؤلاء شخصيات اعتبارية: قادة أحزاب، وزراء سابقين...
إحدى الشخصيات -لا فائدة في ذكر اسمه- من جهة يُقرّ بعدم يقينه في صحة الوثيقة المُسرّبة، ومن جهة أخرى يقول بأنها أسوأ من اتفاقية الحماية التي فرضها المستعمر الفرنسي عاى الباي في ماي 1881!
والحقيقة أن المقارنة غير علمية وسخيفة لأن تلك الاتفاقية الاستعمارية كانت إلغاءً للسيادة مفروضة بقوة السلاح في بلد لا تقوده دولة وطنية بالمعنى المُكتمل. بينما أي اتفاق عسكري اليوم يتم بين دولتين مستقلتين في إطار مصالح متبادلة. ويتم التنصيص فيه على أنه قابل للإلغاء أو المراجعة. بالأخير معالي الوزير السابق غادر منطق الدولة وتناول الموضوع بخلط عاطفي وانتقائية متوترة لا تخضع لأي معيار.
كشفت قناة الزيتونة التابعة لحركة النهضة، والتي تبُثّ من تركيا، وثيقة ادّعت أنها "اتفاقية عسكرية سرية" تجعل تونس تحت الوصاية الجزائرية
لا يمكن فهم هذه "الوثيقة" المتداولة بشأن "اتفاق عسكري سري" بين تونس والجزائر باعتبارها تسريب لوثيقة سرّية، بل يجب التعامل معها بوصفها فعلًا سياسيًا مقصودًا، يندرج ضمن ما يمكن تسميته بالفبركة كاستراتيجية لزعزة ثقة الناس في الدولة. فالوثيقة، كما يتضح من تحليل مضمونها وسياق تداولها، لم تُطرح لإقناع المختصين أو لإثراء نقاش قانوني أو للتنبيه لخطر ما، بل صُمّمت أساسًا لإرباك المجال العام، وإنتاج أثر رمزي يتجاوز مسألة صدقها أو كذبها.
فالفبركة هنا تستهدف المعنى، لذلك تسعى إلى خلق واقع مكذوب لدولة فاشلة تشكل خطرا على شعبها، وقابلة للتفريط في السيادة، ومن ثمّة إحداث شرخ في الوعي الجمعي يضرب الشعور بالأمان، بِنيّة إعادة تشكيل الحقل الدلالي للعلاقة التونسية - الجزائرية، ونقلها من خانة "التعاون السيادي بين دولتين" إلى خانة "الوصاية والتدخل المقنّع".
هذا الهدف يُرادُ تحقبقه عبر بناء سردية إيحائية مفادها أن الجزائر مستعدة للتدخل عسكريًا داخل تونس، وأن السيادة التونسية قابلة للتقويض، وأن التعاون القائم بين البلدين يُخفي مشروع حماية نظام بالقوة.
في الحقيقة هذه السردية لا تحتاج إلى دليل حاسم كي تؤدي وظيفتها، إذ يكفي تداولها لتزرع الرَّيبة وتعيد تأطير العلاقة في المخيال العام. وكذا تعمل الفبركة دور قنبلة لقصف الإطمئنان العام، بحيث لا يقاس أثرها بما ورد في مضمونها، وإنما بما قد تُحدثه من انزياح في المعنى، ما ينسجم تمامًا مع وظيفتها بوصفها أداة لخلق واقع جاهز للانفجار ضد الدولة.
غير أن الوثيقة لا تصمد أمام أي فحص نظري جدي، لأن نقطة انهيارها الأساسية تكمن في انتهاكها الجذري لمفهوم السيادة. فمثلا فقرة "التوغّل لمسافة خمسين كيلومترًا" داخل التراب التونسي غايتها تفكيك مبدأ السيادة "غير القابلة للتجزئة" (كما صاغه الفكر السياسي الكلاسيكي من بودان إلى هوبز). وذلك بافتراضها، أن الدولة التونسية تتنازل عن احتكار العنف المشروع لصالح جيش أجنبي، خارج إطار القانون الدولي أو التفويض الأممي.
هذا الافتراض يفتقر إلى السند القانوني، ويفتقر إلى القابلية السياسية نفسها، لأن أي سلطة، مهما كانت طبيعتها، تدرك أن التفريط في السيادة يفضي إلى تقويض شرعيتها. وبهذا المعنى، تنهار الوثيقة بفعل تناقضها الداخلي دون الحاجة إلى التكذيب الخارجي.
ويتعمق هذا الانهيار حين ننتقل إلى مستوى العقل العسكري. فالوثيقة تكشف، من خلال بنودها، أن من صاغها لا يمتلك أدنى فهم لكيفية اشتغال الجيوش كمنظومات مؤسسية. إذ تتعامل مع الجيش الجزائري كما لو كان أداة سياسية قابلة للتأجير أو وحدات مرتزقة قابلة للنشر عند الطلب، متجاهلة عقيدة جيش التحرير القتالية التي وُلدت في "الأوراس" و "ذراع الميزان" و" بلكور" في نوفمبر 1954، وعقيدته الدستورية التي تمنع التدخل في الاضطرابات الداخلية للدول، وتحصر أي تحرك خارجي ضمن أطر أممية أو إقليمية واضحة.
في المقابل، يفترض مُفتعل هذه الوثيقة أن الجيش التونسي يمكن أن يقبل بتفويض مسؤوليته على سيادة تونس لجيش أجنبي، وكأنه ذراع لنظام أو مجرد ميليشيا، وليس مؤسسة وطنية سيادية، شديدة الحساسية تجاه أي وصاية خارجية تمس استقلاليتها الرّمزية ومسؤوليتها القانونية والأخلاقية بوصفها درع الوطن الأوّل. ولهذا السبب فإن إدراج بنود تتعلق بالأجور، والقواعد الحياتية، وتحميل الخزينة التونسية تكاليف الوجود العسكري، هو تفكير سطحي لأشخاص لم يقرؤوا حرفا في حياتهم حول الجيوش، ولا حتى أدّوا واجبهم العسكري، أو هتفوا: "الجيش سور للوطن"! ولم يشعروا وهم واقفين أمام علم البلاد بخفقة القلب وحرارة الدم ينتفض في عروقهم. فمن الواضح أن من صاغ الوثيقة شخص تسيطر عليه عقلية دعائية، ويُفكّر بمنطق شركات الأمن الخاصة، وليس بمنطق جيوش دول. وهذا النمط من الناس موجود بغزارة في صفوف الجماعات الماضوية المعادية للدولة الحديثة ومؤسساتها.
يبلغ التناقض مداه حين تُقرأ الوثيقة من زاوية نظر حِجاجية. فالسؤال الذي يطرحه أي قارئ نزيه، ينسف الرواية من أساسها: "ما المصلحة التي قد تجنيها تونس من اتفاق مرتفع الكلفة سياسيًا، معدوم الجدوى الأمنية، ويفتح الباب واسعًا لتدويل أزمتها الداخلية؟
حتى لو افترضنا أسوأ النوايا، فإن أي سلطة عقلانية لا تختار خيارًا يدمّر شرعيتها ويضعها تحت مجهر إقليمي ودولي، خاصة في ظل وجود بدائل أقل كلفة وأكثر نجاعة، مثل التعاون الاستخباري أو التنسيق الأمني التقليدي. بهذا المعنى، حتى فرضية "النوايا السيئة" تنهار ولا يمكن أن تصمد كفرضية أمام أي فحص عقلاني بسيط.
ويضاف إلى ذلك كله عامل حاسم يتمثل في الاستحالة الإجرائية. فالتسريبات الحقيقية، بحكم طبيعتها، تترك آثارًا جانبية، مسارًا بيروقراطيًا يمكن تتبعه، مسودات متعددة، تسريبات جزئية، ردود فعل مؤسسية حتى ولو ضمنية. أما في هذه الحالة، فنحن أمام نص مكتمل منذ لحظة ظهوره، بلا سياق أرشيفي، وبلا أي أثر لإجراءات مرافقة، ما يؤكد أنه وُلد في الفضاء الإعلامي وليس في دهاليز الدولة المُحصّنة بأبواب من حديد.
كما لا يقل التوقيت دلالة عن المضمون. فالوثيقة تظهر في سياق توتّر سياسي داخلي تلعب فيه حركة النهضة الدور الرئيسي لتأجيج الأوضاع، وتتزامن مع تحسن ملموس في التعاون التونسي - الجزائري. وبعد فشل محاولات سابقة لشيطنة الجزائر أو تصويرها كتهديد.
هنا نتذكر حروب المرويات المعروفة عند أجهزة المخابرات وجماعات المافيا والحركات المتطرفة. فحين يفشل البرنامج المُعدّ لتحقيق أهداف معيّنة، ويعجز الخطاب عن الإقناع، يُصنع العدو وتُستحضر "الوثيقة المُزوّرة". فتُفهم الفبركة في هذه السياقات كتعويض العجز عن الاقتحام من الخارج بحرب الإشاعات لإحداث ثغرات من داخل حصون "العدوّ".
إجمالا، تكمن خطورة هذه الوثيقة في زيفها، وفي إصرار بعض النخب على التعامل معها كموضوع نقاش جدي، وإدخالها إلى الفضاء التداولي، في محاولة لنقل السياسة من مجال العقل والمؤسسات إلى مجال الانفعالات والظنون، والغاية هي هدم ثقة المجتمع في الدولة، وزعزعة الاستقرار. وهذه غايات جوهرية مختومة ببصمات جهة سياسية واحدة متفرّدة بحقدها على تونس والتوانسة، ومن اتّبعها بمعروف أو بمعلوم.
من جهة أخرى، ثمّة في تسريب هذه الوثيقة أمر واحد إيجابي، ألا وهو إحساس قيادة النهضة بالعجز عن استعادة الحكم من خلال إنتاج المعنى المقنع، فلجأت إلى إنتاج واقع زائف. لذلك، يتعيّن على جميع بقية القوى الديمقراطية أن لا تكتفي بمقاومة الفبركة والدعايات بالتكذيب وحده، بل أيضًا بفتح حوار عمومي حول مستقبل البلاد، يُدمج قضية الحرية بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية، ويُعيد للسياسة منطقها العقلاني وبُعدها الأخلاقي، حتى تتمكّن هذه القوى من وقف التدهور ومواجهة النزوع للحكم الفردي بالعمل السياسي الوطني وسط الشعب وبين أحضانه، وليس بتضليله وتخريب وعيه. هذا هو الرهان الحقيقي. وما دونه لعب أطفال.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟