أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - الانقسام داخل الفضاء العام في تونس: هل هو انعكاس لاختلاف سياسي، أو لانقسام اجتماعي؟















المزيد.....

الانقسام داخل الفضاء العام في تونس: هل هو انعكاس لاختلاف سياسي، أو لانقسام اجتماعي؟


عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)


الحوار المتمدن-العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 04:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يكشف التمحيص في المشهد الاحتجاجي التونسي خلال السنوات الأخيرة عن تمايز لافت بين جمهورين يتقاطعان في الفضاء العام ويختلفان في المظهر، واللغة، وأنماط التعبير.
فقد اتسمت التحركات المدافعة عن الحريات والمناهضة لرئيس الجمهورية، والمطالبة بالإفراج عن جميع السجناء بدون استثناء ودون تمييز باعتبارهم جميعا "معتقلين سياسيين". وحيث تميزت هذه التحركات التي لم تب ح الشارع منذ ثلاث سنوات، بحضور شبابي مختلط تبدو عليه مظاهر الإقدام والتصميم والزهو والرفاه والثقة في الذات، مع اعتماد لافتات مُصاغة بعناية وبثلاث لغات، وشعارات هجائية ذات حمولة رمزية عالية، أحيانًا ذات طابع شخصي مُهين، ترافقها أهازيج وإيقاعات تعبيرية مستوحاة من ثقافة احتجاج مدينية حديثة. وقد عزز هذا التوجه خيار سياسي مدروس يجعل "المجتمع المدني" والشباب في مقدمة الفعل الاحتجاجي، لأنّه أكثر عددًا وأكثر حيوية واستعدادا من الأحزاب.

في المقابل، قدّمت مظاهرة 17 ديسمبر 2025 صورة مغايرة، عكست حضورًا كثيفًا لفئات شعبية مختلفة الأعمار، بدا الفقر والهشاشة واضحين في الملامح والهندام، مع شعارات مباشرة وبسيطة، وأشكال تعبير جسدية وعاطفية نابعة من الثقافة الشعبية، كالرقص المحلي أو البكاء، دون اعتماد الهجاء الشخصي، باستثناء توصيف اتهامي عام للخصوم بالعمالة للاستعمار، وهي تُهمة رائجة كثيرا في تونس دون قرينة ولا حُجّة.
هذا التباين يتجاوز الاختلاف في أسلوب التعبير، إلى كونه مؤشر على انقسام اجتماعي رمزي يشهده الشارع أعمق بكثير مما قد يبدو للبعض.

تكشف المقارنة بين التحركات المدافعة عن الحريات، وبين المظاهرة الأخيرة، عن تمايز اجتماعي سياسي عميق يتجاوز الخلافات حول الموقف من السلطة إلى انقسام بنيوي في التركيب الاجتماعي، وفي أنماط التعبير الاحتجاجي، وفي تمثلات الديمقراطية والشرعية.

1/ انقسام اجتماعي سابق على الانقسام السياسي
لا يمكن قراءة الفوارق المرئية بين الجمهورين (من حيث المظهر، اللغة، الشعارات، وأنماط الحضور في الفضاء العام) بوصفها تفاصيل شكلية أو عرضية. بل يبدو أنها تعبّر عن انقسام طبقي ثقافي جذري.
جزء معتبر من جمهور المعارضة ينتمي إلى شرائح مدينية وسطى وعليا، استفادت بدرجات مختلفة من منظومة ما بعد 2011، سواء عبر الاندماج في شبكات المجتمع المدني، أو من خلال فرص التمويل، أو الحضور الإعلامي، أو بناء رأس مال رمزي مرتبط بالخطاب الحقوقي والديمقراطي. هذه الفئات تمتلك أدوات التعبير، وتتحكم في اللغة السياسية، ولها قدرة أكبر على مخاطبة النخب الوطنية والتكلم بكفاءة في الفضاءات الخارجية.

في المقابل، يتكوّن جمهور مظاهرة 17 ديسمبر أساسًا من فئات شعبية هشة، تضررت بشكل مباشر من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومن تفشي الفساد، والتهريب، وتآكل الخدمات العمومية، وضعف حضور الدولة. هذه الفئات لا تمتلك رأس المال الرمزي نفسه، ولا قنوات النفاذ إلى الإعلام، لكنها تمتلك ما يمكن تسميته بـ"الذاكرة الاجتماعية"، أي خبرة مباشرة ومتراكمة مع الفشل السياسي والاقتصادي، تجعل أسئلتها مركزية وبسيطة مثلها:
من المسؤول؟
من استفاد؟
ومن دفع الكلفة؟

من هذا المنظور، لا يعكس هذا المشهد صراعا ثنائيًا بين "موالاة" و"معارضة" مثلما كان حال الجبهة الشعبية أيام حكم حركة النهضة خصوصا على إثر تورّط حركة النهضة في اغتيال قادتها، بقدر ما يعكس توترًا بين فئات اجتماعية "برجوازية" استفادت من منظومة النهضة، وأخرى دفعت ثمن اختلالاته. ومن المفارقات أنّ شباب الجبهة الشعبية الذي كان في مقدمة الصفوف زمن الاغتيالات يطالب بكشف الحقيقة، هو نفسه الذي يتقدم الصفوف اليوم في معركة إخلاء سبيل السُّجناء، بما في ذلك الذين تورّطوا في الاغتيالات.

2/ التوتر الرّمزي واللغة المتبادلة

اللغة المتشنجة أو المتعالية التي برزت أحيانًا في توصيف جمهور 17 ديسمبر لا يمكن اختزالها في انفعالات عابرة. بل يمكن فهمها بوصفها تعبيرًا عن توتر رمزي عميق، مرتبط بالخوف من فقدان موقع تمثيلي داخل المجال العام. ذلك أنّ النُّخب المُرتبطة بحركة النهضة تُدير معركتها من موقع "الحامل الشرعي" لقيم الديمقراطية، وتخشى أن يؤدي صعود خطاب آخر اجتماعي شعبي إلى إعادة تعريف "الديمقراطية" بوصفها حقوقا اقتصادية اجتماعية ومسارًا للعدالة والمحاسبة، وليست فقط آلية إجرائية أو انتخابية. وهذا التحول يهدّد الاحتكار التاريخي للمخازنية لتعريف السياسة وحدودها، وللغة التي تُدار بها.

3. التقاطع بين الفئات الشعبية وخطاب قيس سعيّد

لا يبدو تقاطع جزء من الفئات الشعبية مع خطاب رئيس الجمهورية الشعبوي نابعًا من ولاء شخصي أو تقييم إيجابي لآدائه، بقدر ما هو استجابة لثلاث قضايا مركزية في وعيها الاجتماعي:

مطلب المحاسبة، حتى وإن كان خارج شروط المحاكمة العادلة.

رفض عودة منظومات سياسية ارتبطت في الذاكرة الشعبية بخيبة الأمل وتفاقم الأوضاع المعيشية.

التشديد على السيادة الوطنية، وهو خطاب عزّزه رئيس الجمهورية باتّهامه لخصوم وأعداء مجهولين، في ظل شعور عام بأن القرار السياسي زمن النهضة كان خاضعًا لتأثيرات خارجية.

ما لم تفهمه المعارضة اليسارية هي نظرة الفقراء لِقيس سعيّد بوصفه أفقًا أخيرًا لمساءلة منظومة النهضة وحلفائها، أكثر مما يُنظر إليه كمشروع مكتمل.

4. حدود الخطاب المعارض

يُظهر هذا التمايز أن مأزق المعارضة لا يفسَّر فقط بعوامل القمع أو التضييق، بل أيضًا بغياب مراجعة نقدية عميقة لتجربة ما بعد 2011، وباستثمار مفرط في خطاب حقوقي نخبوي بقي معزولًا عن قضايا الفقر والخصاصة في الأحياء الشعبية وفي الجهات الداخلية المهمشة. وكون الوقوف تحت سقف حركة النهضة ساهم في ترسيخ صورة المعارضة الخائنة التي تجرّات على الدفاع عن قتلة الأبرياء، وهكذا لا يبقى أمام الجماهير إلا ان تربط بسهم بين هذه المعارضة اليسارية ومنظومات الفساد السابقة، الظاهرة منها والخفية.

أخيرًا: اتّساع الفجوة بين المعارضة اليسارية والشعب.

لسنا أمام مواجهة بين "شعب متخلّف" و"نخبة متنورة:، بل أمام صراع طبقي رمزي حول من يملك الحق في تعريف السياسة، والديمقراطية، والشرعية الوطنية. صراع لا يُختزل في التفاوت الاقتصادي، بل يمتد إلى أنماط الثقافة، واللغة، والتمثيل، والموقع داخل التاريخ السياسي. وأي مشروع معارض لا يأخذ هذا الانقسام البنيوي بجدية، ولا يعيد بناء صلته الاجتماعية خارج الدوائر النخبوية، سيبقى عاجزًا عن التحول إلى قوة شعبية فاعلة، مهما امتلك من حضور إعلامي أو شرعية خطابية.



#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)       Boughanmi_Ezdine#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التوانسة فرّوا من حركة النهضة، وليس من الديمقراطية
- ملاحظات حول مسيرة 17 ديسمبر 2025
- لن يُهزم الاستبداد من داخل الوصاية والتحالفات السامّة
- خرافة الأيام الأخيرة: أو صناعة الوهم
- حول أزمة الاتحاد العام التونسي للشغل
- قصة من تاريخ تونس، أو درس في هندسة السلطة
- توازن الرهانات الخاطئة: بين السلطة والاتحاد والمعارضة، لعبة ...
- المشترك الوطني ودوامة الفشل الديمقراطي: الجزء (الثالث)
- من المحاصصة إلى الشعبوية: مسار تآكل الشرعية الديمقراطية في ت ...
- من المحاصصة إلى الشعبوية: مسار تآكل الشرعية الديمقراطية في ت ...
- العقلانية كشرط للسيادة: تونس بين صخب الشعارات ومتطلبات الدبل ...
- تصنيع -الحقيقة- واستراتيجية إعادة تشكيل الوعي
- بين السلطة والاتحاد: هشاشة الداخل ومساحات النفاذ الأجنبي
- السيادة الوطنية
- عوامل سقوط النظام
- سوريا ليست تونس: نقد القياس السياسي وبيان شروط سقوط الأنظمة.
- المسافة بين التجربتين: في بطلان قياس تونس على سوريا.
- التونسيون ليسوا ضد الديمقراطية، بل ضد من يختزلها في تجربة ال ...
- بين خطاب -التاسعة- وواقع العولمة: هل كلّ ناشط في المجتمع الم ...
- براغماتية الدولة: قراءة في التصويت الجزائري على القرار الأمر ...


المزيد.....




- بوتين يحذر من -عواقب وخيمة- على أوروبا إذا حولت أصول روسيا ا ...
- ترامب يتخذ خطوات لإعادة تصنيف الماريغوانا
- السودان: هجوم بطائرات مسيرة يوقع قتلى ويعطل محطة كهرباء رئيس ...
- اجتماع في باريس بحث التحقق من نزع سلاح حزب الله في لبنان -بو ...
- لبنان: لجنة -الميكانيزم- تعقد اجتماعها الأخير هذا العام وتطر ...
- الجزائر: ماذا وراء عودة مقترح قانون سحب الجنسية؟
- ترامب يؤكد عزم أميركا تركيب مفاعل نووي على القمر
- نازحو غزة يواجهون شتاء قاسيا بخيام بالية
- الاستيطان في الضفة الغربية.. التطور التاريخي
- نفذته -الصقور-.. تفاصيل إنزال جوي عراقي في سوريا


المزيد.....

- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - الانقسام داخل الفضاء العام في تونس: هل هو انعكاس لاختلاف سياسي، أو لانقسام اجتماعي؟