أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - قصة من تاريخ تونس، أو درس في هندسة السلطة















المزيد.....

قصة من تاريخ تونس، أو درس في هندسة السلطة


عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)


الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 18:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في أواخر الستينات، كانت تونس تعيش على وقع تجاذبات عميقة داخل أجهزة الدولة وفي صفوف الحزب الحاكم. وكان الاتحاد جزءًا أساسيًّا في الصراع، يقلب المعادلات أحيانا، وتنقلب ضده الريح أحيانًا أخرى، ولكن في كل الاحوال كان حاضرا، ويُقرأ له ألف حساب.

كان أحمد بن صالح الأمين العام الأسبق، في تلك المرحلة أحد أبرز رجال الدولة وأكثرهم نفوذا. فقد جمع بين وزارات متعددة، وصار مهندس مشروع "التعاضد"، وهذا المشروع سبّب صراعا غير معلن داخل معسكر الحكم، إذ آعتبرته بعض الجهات توجُّها مُعاديًّا لطبقة المخازنية وكبار التجار والإقطاعيين. ولذلك تمت محاصرته وإسقاطه واتخذ القرار بالانتقام من أحمد بن صالح والتخلص منه.

في 8 سبتمبر 1969، جاء الردّ: بيان حكومي يعيد تقسيم وزارة الاقتصاد الوطني إلى ثلاث وزارات، دون أن يُسند أي منها إلى بن صالح. وبعد شهر، تم تشكيل الحكومة الجديدة، ولم يُدرج اسمه ضمن الوزراء. وفي اليوم الموالي صدر قرار طرده من الحزب. وفي مكالمة مع الرئيس قال له: "شِدْ دارك وما تتحرّكش" وانتهت العلاقة بين الرجلين إلى الأبد.

في الأثناء، سارعت الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل إلى توجيه رسالة شكر وتمجيد للمجاهد الأكبر عرفانا له بإلغاء التعاضد. فاتّجاه الرّيح تغيّر، والكفّة انقلبت ضد رجل التّعاضد وعدوّ الزعيم التاريخي الحبيب عاشور.

كان عاشور في حينها، قد أطُرد من مجلس الأمة، هو ورفيقه أحمد التليلي، ثم من الحزب على إثر رفضهما قرار "مؤتمر المصير" ببنزرت، القاضي باعتبار الاتحاد منظمة تابعة للحزب الحاكم، وقد انجرّ عن تمسك الرّجلين باستقلالية الاتّحاد أن تم تدبير حادثة الباخرة، وعلى إثرها، غادر أحمد التليلي البلاد، وحوكم عاشور، وأُطرد من الاتحاد وجيء بوالي تونس (البشير بلاغة أمينا عاما). وفي الأثناء توفّي الطيب المهيري رجل السلطة القويّ وصديق التليلي وعاشور.

ظل الحبيب عاشور خارج اللعبة بالكامل في أصعب محنة تعرّض لها في حياته، وقد فقد سنده الأهم داخل السلطة، مع مرض رفيقه أحمد التليلي ثم وفاته.

لمّا دخل بورقيبة في صدام مع أحمد بن صالح. عندها فقط بدأت الاتصالات بالحبيب عاشور. التقاه محافظ البنك المركزي آنذاك، الهادي نويرة، ودعاه للعودة إلى الاتحاد (الهادي نويرة صديق الحبيب عاشور منذ زمن الاستعمار ومحاميه على إثر أحداث أوت ذ1947

قبل عاشور العودة، ولكن بشروط:
استقلالية المنظمة الشغيلة،
إعادة كل المطرودين معه سنة 1965
إقامة مكتب مؤقت يشرف على انتخابات من القاعدة إلى القمة.

بعد أسبوع، جاءت الموافقة. ثم جاء الإعلان الرسمي لمّا دعاه الهادي نويرة لمرافقته إلى قفصة، وأمام آلاف العمال أعلن بحضور عاشور "إعادة الوضعية القانونية الشرعية للاتحاد".

هكذا عاد الحبيب عاشور، بعد قرابة خمسة سنوات من الإبعاد، إلى رأس المنظمة، بالتزامن مع التخلص من أحمد بن صالح.

العودة لم تكن بلا أثمان. فقد طُلب من عاشور الإبقاء على ثلاثة دساترة كانوا مقربين من البشير بلّاغة، وهم عامر بن عائشة، مصطفى مخلوف، والحبيب الشاوش. ومثلما تنازلت السلطة وقبلت بشروط العودة، تنازل عاشور وقبل ببقاء هؤلاء الثلاثة الذين أظهروا له إخلاصًا كبيرا تقرُّبًا منهم لصديقه الهادي نويرة الذي سيعيَّنُ وزيرا أول، على إثر إبعاد الباهي الأدغم وإحداث هذا المنصب. لكن الأيام أثبتت لاحِقا أنهم كانوا ينقلون لعاشور أخبار مُناوئيه، ويتجسّسون عليه في نفس الوقت، إذ كانوا "عين الحزب" داخل الاتحاد، يمارسون دورا مزدوجا بين العمل النقابي والتنسيق مع السلطة.

أهم ما في القصة، هو درس في هندسة السلطة. ففي الوقت الذي كان فيه عاشور يستعيد موقعه شيئا فشيئا، كانت السلطة تفكك شبكة نفوذ أحمد بن صالح: إزاحته من الوزارات الاقتصادية، ثم إزاحته من وزارة التربية، ثم طرده من الحزب، ثم إحالته إلى القضاء. كل ذلك حدث بعد أسابيع قليلة من إعادة عاشور، ما يؤكد أن العودة لم تكن حدثًا معزولاً، بل كانت خطوة محسوبة في معركة سياسية واسعة.

الحبيب بورقيبة رجل سياسي، ويعرف متى ومن أين تؤكل الكتف، لم يكن ليستطيع مواجهة رجلين قويين في الوقت نفسه. فقد كان أحمد بن صالح يتمتع بنفوذ شعبي واسع، وإشعاع دولي كبير. بينما كان عاشور رغم إبعاده زعيمًا وطنيا يملك شرعية الكفاح ضد المستعمر، ويتمتع بمكانة نقابية عالمية تُضاهي مكانة حشاد، وله قدرة على التأثير داخل قواعد الاتحاد لا مثيل لها.

وحين انفجر الصراع مع بن صالح، وجد بورقيبة نفسه أمام ضرورة خلق توازن داخل الساحة الوطنية، فاستعاد خصمه القديم ليواجه خصمه الجديد دون مصاعب. وهكذا لم تكن إعادة عاشور مكافأة، بل كانت أداة سياسية لإعادة ضبط ميزان القوى داخل الدولة والاتحاد والحزب.

والخلاصة، في السياسة، لا يُواجه رجل الدولة خصومه جميعًا في آن واحد. ولا يتشدّد الزعيم النقابي، فقد يقبل بالخسارة الشخصية حتى لا تخسر المنظمة. وحين تشتدّ المعارك، قد يعود الخصم صديقًا، وقد يُستدعى المطرود إلى صدارة المشهد، لا لأن التاريخ أنصفه، بل لأن اللحظة السياسية فرضت ذلك.

مما لا شك فيه أنه بالمنطق الأخلاقي تبدو هذه القصة مُحزنة، لأنّ أفعال القائمين على هندسة تلك المرحلة لا تستند كثيرا إلى المبدئية أو الصدق أو الاستقامة الثابتة. فقد كانت التحالفات تتحرك حسب المصلحة، والولاءات تتبدل مع تغيّر ميزان القوة، ويُعاد تلميع من أُبعد بالأمس، ويُقصى من كان في مركز القرار اليوم. وهذا يجعل المشهد مليئا بالتباسات تكسر القلب، وأبعد ما تكون عن نقاء المبادئ ووضوح الضمير.

لكن السياسة بما هي مسؤولية عمومية، لها إكراهاتها الخاصة. فقيادة دولة ليست شأنا شخصيا يخضع لمعيار علاقة الفرد بالآخرين، بل مسؤولية على أمة تخضع لمعيار علاقة الدولة بالمخاطر، وتفرض على من يتولى الحكم أن يقرأ موازين القوة، فيُجبر في بعض الأحيان على اختيار ما هو أقلّ مثالية أو أقلّ سوءًا لأنه أكثر واقعية. وكذلك قيادة منظمة عملاقة مثل الاتحاد العام التونسي للشغل تحتاج عقلاً بحجمها، وحكمة تتجاوز رغبات الأفراد وخلافاتهم الصغيرة، لأن مصلحة مئات الآلاف من العمال لا يمكن أن تُربط بمزاج شخص أو ثأر خاص أو حسبة ضيقة.

لكلّ هذا، من حقّنا الخوف على البلاد من الخِفّة وقلّة الفهم.



#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)       Boughanmi_Ezdine#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- توازن الرهانات الخاطئة: بين السلطة والاتحاد والمعارضة، لعبة ...
- المشترك الوطني ودوامة الفشل الديمقراطي: الجزء (الثالث)
- من المحاصصة إلى الشعبوية: مسار تآكل الشرعية الديمقراطية في ت ...
- من المحاصصة إلى الشعبوية: مسار تآكل الشرعية الديمقراطية في ت ...
- العقلانية كشرط للسيادة: تونس بين صخب الشعارات ومتطلبات الدبل ...
- تصنيع -الحقيقة- واستراتيجية إعادة تشكيل الوعي
- بين السلطة والاتحاد: هشاشة الداخل ومساحات النفاذ الأجنبي
- السيادة الوطنية
- عوامل سقوط النظام
- سوريا ليست تونس: نقد القياس السياسي وبيان شروط سقوط الأنظمة.
- المسافة بين التجربتين: في بطلان قياس تونس على سوريا.
- التونسيون ليسوا ضد الديمقراطية، بل ضد من يختزلها في تجربة ال ...
- بين خطاب -التاسعة- وواقع العولمة: هل كلّ ناشط في المجتمع الم ...
- براغماتية الدولة: قراءة في التصويت الجزائري على القرار الأمر ...
- القرار 2803 أخطر ما صدر عن مجلس الأمن بشأن فلسطين منذ تأسيس ...
- منطق السلطة بين تطبيق القانون وحماية أمن الدول
- هل المشكل في الفساد أم في مكافحة الفساد؟ قراءة نقدية في الخط ...
- المشهد الرّمزي حول زيارة أحمد الشرع لواشنطن
- فوز زهران ممداني: بداية التحول البنيوي في المشهد الأمريكي
- مشروع قرار أمريكي لمجلس الأمن بصدد -إنشاء قوة استقرار دولية ...


المزيد.....




- إلغاء حق الجنسية بالولادة.. ماذا قال ترامب عن احتمال خسارة ا ...
- هل يبقى أحمد الشرع في السلطة -للأبد- وكيف يؤثر تاريخه بمستقب ...
- كوريا الجنوبية تنشر مقاتلاتها بعد دخول طائرات روسية وصينية م ...
- بيت لحم: شجرة الميلاد تضيء ساحة المهد رغم الجراح
- ذكرى سقوط نظام الأسد.. عودة إلى طفولة اختطفت وآلاف السوريين ...
- مقتل 67 صحافيا خلال سنة حوالى نصفهم في غزة
- المخ يغير وصلاته العصبية بالكامل 5 مرات خلال عمر الإنسان
- كيف تحولت شبابيك سوريا إلى أكبر منصة إعلامية خلال ردع العدوا ...
- اللواء الدويري: لهذه الأسباب تنقل إسرائيل قواعدها إلى الخط ا ...
- قلة النوم مرتبطة بانخفاض متوسط ??العمر المتوقع


المزيد.....

- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - قصة من تاريخ تونس، أو درس في هندسة السلطة