نوري حمدان
الحوار المتمدن-العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 19:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يكن تصويت الكونغرس الأميركي، بمجلسي النواب والشيوخ، على إلغاء تفويضي استخدام القوة العسكرية ضد العراق لعامي 1991 و2002، ضمن مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2026، حدثًا إجرائيًا عابرًا في سياق التشريعات الأمريكية السنوية، بقدر ما شكّل لحظة سياسية وقانونية ذات دلالات عميقة، تتجاوز الإطار الأميركي الداخلي لتطال موقع العراق نفسه في النظام الدولي، وطبيعة علاقته القانونية والسيادية مع الولايات المتحدة بعد أكثر من ثلاثة عقود من الحروب والتدخلات.
التفويض الأول الصادر عام 1991 كان قد أُقر في سياق حرب الخليج الثانية، لتحرير الكويت، بينما شكّل تفويض عام 2002 الأساس القانوني لغزو العراق عام 2003 وما تلاه من وجود عسكري طويل الأمد. وعلى الرغم من التغيرات الجذرية التي شهدها العراق منذ ذلك الحين، ظل هذان التفويضان قائمين في المنظومة التشريعية الأميركية، كمرجعية قانونية كامنة يمكن لأي إدارة أميركية أن تستند إليها نظريًا في تبرير استخدام القوة، حتى وإن لم تُفعّل عمليًا في السنوات الأخيرة. ومن هنا، فإن إلغاءهما لا يعني فقط إغلاق ملف تشريعي قديم، بل إنهاء إرث قانوني ظلّ يثقل صورة العراق ويضعه، ضمن القانون الأميركي، في خانة "الدولة المستهدفة".
بيان وزارة الخارجية العراقية الذي رحّب بالتصويت، جاء ليعكس إدراكًا رسميًا لحساسية هذه اللحظة، فسعى إلى توظيفها سياسيًا ودبلوماسيًا دون انزلاق إلى خطاب انتصاري أو تصعيدي. اللغة المستخدمة في البيان كانت مدروسة بعناية، تجمع بين توصيف الحدث بأنه "تصويت تاريخي" وبين التحفظ الواقعي بالإشارة إلى انتظار مصادقة الرئيس الأمريكي على مشروع القانون، في تأكيد على احترام المسار الدستوري الأميركي وعدم استباق نتائجه النهائية. هذا التوازن اللغوي يكشف عن رغبة بغداد في الظهور كطرف سيادي ناضج، يتعامل مع التحولات الدولية بمنطق الدولة لا بمنطق ردود الأفعال.
الأهم في البيان أنه قدّم الإلغاء بوصفه "نقطة تحول جوهرية في تغيير الطابع القانوني للعلاقة بين البلدين"، وهو توصيف يتجاوز المجاملة الدبلوماسية ليحمل مضمونًا سياسيًا واضحًا. فالعلاقة العراقية-الأميركية، منذ 2003، ظلت محكومة بإرث الغزو والحرب والاحتلال، حتى بعد توقيع اتفاقية الإطار الاستراتيجي عام 2008. وجود تفويضات حرب سارية، وإن كانت غير مفعّلة، كان يعني أن العلاقة، في عمقها القانوني الأميركي، لم تتحرر بالكامل من منطق القوة. إلغاؤها اليوم يفتح الباب، نظريًا على الأقل، لإعادة تعريف هذه العلاقة على أساس الشراكة والاحترام المتبادل، لا على أساس الاستثناء العسكري.
البيان لم يكتفِ بتسجيل هذا التحول، بل ربطه مباشرة بمفهوم السيادة العراقية وإنهاء "إرث الحرب"، وهي عبارة ذات حمولة رمزية عالية في الذاكرة العراقية. فالحروب لم تكن مجرد أحداث عسكرية، بل شكلت إطارًا نفسيًا وسياسيًا طويل الأمد، أثّر في صورة الدولة العراقية داخليًا وخارجيًا. عندما تقول الخارجية العراقية إن الإلغاء يؤسس لعلاقات قائمة على احترام السيادة، فهي تحاول تثبيت سردية جديدة مفادها أن العراق لم يعد ساحة مفتوحة للتدخل، بل دولة مكتملة الأهلية القانونية والسياسية.
في الوقت نفسه، أظهر البيان قدرًا عاليًا من البراغماتية حين شدد على أن إلغاء تفويضي 1991 و2002 "لا يقوّض جهود مكافحة الإرهاب"، وأكد بوضوح استمرار نفاذ تفويض 2001 الخاص بمكافحة الإرهاب. هذه الفقرة ليست تفصيلًا تقنيًا، بل تمثل حجر توازن أساسي في الخطاب. فالعراق يدرك أن أي خطاب سيادي غير محسوب قد يُفسر دوليًا على أنه تراجع عن الالتزامات الأمنية أو رغبة في تقليص التعاون الدولي ضد التنظيمات الإرهابية. لذلك جاء التأكيد ليبعث برسالة مزدوجة: العراق يطوي صفحة الحروب، لكنه لا ينسحب من معادلات الأمن الإقليمي والدولي.
هذا التوازن يخاطب أيضًا الداخل العراقي، حيث تتقاطع حساسيات متعددة تجاه الوجود الأميركي. فالبيان يحاول تقديم الإلغاء كمكسب سيادي، دون أن يثير مخاوف من فراغ أمني أو مواجهة مفتوحة مع واشنطن. إنه خطاب تطمين بقدر ما هو خطاب سيادة، يعكس إدراكًا رسميًا لتعقيد المزاج السياسي الداخلي وتشابكه مع المصالح الخارجية.
أما الرسالة الأوسع التي حرص البيان على إيصالها، فهي تلك الموجهة إلى المجتمع الدولي، حين ربط الإلغاء بفكرة أن العراق أصبح "بيئة آمنة وجاذبة للاستثمار". هنا تتحول الخطوة التشريعية الأميركية إلى أداة تسويق سياسي واقتصادي. فالاستثمار، في المنطق الدولي، لا ينفصل عن الاستقرار القانوني والسياسي. وإلغاء تفويضات الحرب يُقدَّم كدليل على أن العراق خرج من خانة الدول عالية المخاطر، وأنه بات مؤهلًا لاستقبال رؤوس الأموال والشراكات طويلة الأمد.
ومن اللافت أن البيان تجنّب الخوض في تفاصيل شائكة، مثل مستقبل الوجود العسكري الأميركي أو طبيعة إعادة التموضع، وهو صمت مقصود يعكس رغبة في عدم تحميل الحدث أكثر مما يحتمل. فالخارجية العراقية فضّلت إبقاء هذه الملفات ضمن قنوات التفاوض السياسي والأمني، بدل الزجّ بها في بيان ترحيبي قد يُفسر على أنه تصعيد أو مطالبة علنية.
في المحصلة، يمكن القول إن بيان وزارة الخارجية العراقية لم يكن مجرد رد فعل على قرار تشريعي أميركي، بل محاولة واعية لإعادة صياغة موقع العراق القانوني والسيادي في مرحلة ما بعد الحروب. هو بيان يعلن نهاية زمن التفويضات القديمة، دون أن يقطع خيوط الشراكة، ويغلق باب الماضي، دون أن يغامر بمستقبل العلاقة مع قوة دولية ما زالت لاعبًا مؤثرًا في المنطقة.
إن إلغاء تفويضي استخدام القوة لعامي 1991 و2002، إذا ما اكتمل مساره القانوني، لن يغيّر الواقع العراقي بين ليلة وضحاها، لكنه يزيل طبقة ثقيلة من الإرث القانوني الذي لازم العراق طويلًا. والأهم أنه يمنح الدولة العراقية أداة دبلوماسية جديدة لإعادة تعريف نفسها: دولة خرجت من زمن الاستثناء العسكري، وتسعى إلى تثبيت حضورها كفاعل سيادي في نظام دولي مضطرب. في هذا المعنى، فإن الترحيب العراقي لم يكن مبالغة، بل قراءة دقيقة للحظة، ومحاولة لاستثمارها بأقصى ما تسمح به السياسة الواقعية.
لكن القيمة الحقيقية لهذا التحول لا تكمن في الإعلان عنه أو الترحيب به فحسب، بل في كيفية استثماره عراقيًا في المرحلة المقبلة. فإلغاء تفويضات الحرب يضع على عاتق الدولة العراقية مسؤولية الانتقال من موقع المتلقي للقرارات الدولية إلى موقع المبادر في إعادة تنظيم علاقاته وشراكاته على أسس جديدة. الخطوة الأولى في هذا المسار تتمثل في ترجمة هذا التحول القانوني إلى خطاب سياسي داخلي واضح، يرسّخ فكرة أن السيادة لا تُختزل بالشعارات، بل تُبنى عبر مؤسسات قوية، وسياسات متوازنة، وقدرة على إدارة الشراكات دون ارتهان أو قطيعة.
كما يفترض بالعراق أن يستثمر هذا التطور في إعادة تفعيل أدواته الدبلوماسية، عبر فتح حوارات استراتيجية أوسع مع الولايات المتحدة وشركاء دوليين آخرين، تنقل العلاقة من منطق الأمن الطارئ إلى منطق المصالح طويلة الأمد، سواء في مجالات الاقتصاد والطاقة أو إعادة الإعمار ونقل التكنولوجيا. فإلغاء التفويضات يوفّر أرضية قانونية ونفسية مناسبة لإعادة تعريف العراق كشريك، لا كساحة، وكدولة ذات قرار، لا كملف مفتوح.
وفي البعد القانوني، يصبح من الضروري أن تعمل المؤسسات العراقية المختصة على مراجعة الاتفاقيات الأمنية القائمة، ليس من باب المواجهة أو الإلغاء، بل من باب التكييف والتحديث بما ينسجم مع الواقع الجديد، ويضمن وضوح الصلاحيات والمسؤوليات، ويمنع الالتباس الذي طالما استُخدم ذريعة لتجاوز السيادة أو تبرير التدخلات. فالقانون، في النهاية، هو أحد أهم أدوات تثبيت الاستقلال الفعلي، لا الرمزي.
أما اقتصاديًا، فإن الخطاب الموجّه إلى المستثمرين يجب أن يُدعم بإجراءات ملموسة، تُثبت أن الاستقرار القانوني والسياسي الذي يجري الحديث عنه ليس مجرد إعلان نوايا. فالعالم لا يستثمر في الدول بناءً على البيانات وحدها، بل على أساس بيئة تشريعية واضحة، ومؤسسات قادرة على الحماية والتنفيذ، وإرادة سياسية حقيقية لمحاربة الفساد وتعزيز الشفافية. وهنا يتحول إلغاء تفويضات الحرب من حدث سياسي إلى فرصة اختبار حقيقية لجدية الدولة في الانتقال إلى مرحلة الدولة الطبيعية.
وفي المحصلة، فإن ما جرى في الكونغرس الأميركي يفتح نافذة، لا أكثر. والنافذة قد تُغلق إن لم يُحسن العراق استثمارها. فالتاريخ الحديث يثبت أن الفرص السيادية لا تُمنح مرتين بالسهولة نفسها. إما أن تُحوَّل إلى مسار تراكمي يعيد بناء صورة الدولة وموقعها، أو تبقى حدثًا رمزيًا يُضاف إلى أرشيف البيانات. وفي هذا المفترق، تبدو مسؤولية القرار العراقي أكبر من مجرد الترحيب، وأعمق من الاكتفاء بتسجيل الموقف؛ إنها مسؤولية الانتقال من إنهاء إرث الحرب، إلى بناء إرث الدولة.
#نوري_حمدان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟