نوري حمدان
الحوار المتمدن-العدد: 8558 - 2025 / 12 / 16 - 15:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم تكن مصادقة المحكمة الاتحادية العليا على نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة مجرّد إجراء دستوري روتيني يُمهّد لانتقال السلطة، بقدر ما شكّلت لحظة سياسية فاصلة أطلقت عدًّا تنازليًا جديدًا، وضعت فيه القوى العراقية أمام اختبار بالغ الحساسية. فمنذ اللحظة التي أُغلقت فيها أبواب الطعون، وانتقلت البلاد رسميًا إلى مرحلة الاستحقاقات الدستورية، انكشف حجم التوتر الكامن تحت السطح، وتحوّل صراع المناصب من تنافس تقليدي على الرئاسات إلى معركة أوسع تتعلق بشكل الدولة، وطبيعة السلطة، واتجاه النظام السياسي في السنوات المقبلة.
في هذا السياق، لا يمكن قراءة ما يجري اليوم بوصفه خلافًا عابرًا على توزيع المواقع الثلاثة العليا كما درجت العادة منذ عام 2005، بل ينبغي النظر إليه كصراع مركزي على من يمتلك مفاتيح القرار في مرحلة إقليمية مضطربة، وداخل بيئة داخلية تعاني من تآكل الثقة الشعبية، وضغط اقتصادي متصاعد، وانسداد مزمن في أفق الإصلاح. فالانتخابات التي جرت وسط عزوف شعبي واسع (اقترب من الـ50 في المئة) لم تمنح القوى الفائزة تفويضًا مريحًا، لكنها في الوقت ذاته لم تُنتج بديلًا قادرًا على كسر قواعد اللعبة القائمة، ما جعل مرحلة ما بعد المصادقة أخطر من يوم الاقتراع نفسه.
إعلان المحكمة الاتحادية المدد الدستورية لتشكيل السلطات أعاد تسليط الضوء على إشكالية مزمنة في النظام السياسي العراقي، تتمثل في الفجوة بين النص الدستوري والتطبيق السياسي. فالدستور الذي حدّد بوضوح تسلسل الاستحقاقات الزمنية تحوّل في التجارب السابقة إلى إطار مرن تُعاد هندسته وفق موازين القوة لا وفق مقتضيات القانون وحده. غير أن الظرف الحالي يختلف نسبيًا، إذ جاءت المصادقة هذه المرة في بيئة إقليمية ودولية أقل تسامحًا مع الفراغ السياسي، وأكثر حساسية تجاه أي اهتزاز أمني أو دستوري في بغداد، ما جعل الالتزام بالمدد الدستورية معيارًا للشرعية السياسية وأداة ضغط لا يمكن تجاهلها.
هذا الإعلان لم يكن مجرّد تذكير قانوني، بل رسالة سياسية مزدوجة الاتجاه. فمن جهة، شكّل ضغطًا مباشرًا على القوى السياسية للإسراع في حسم خياراتها، ومن جهة أخرى حمل في طياته رسالة خارجية غير معلنة مفادها أن مرحلة الفراغ الطويل لم تعد مقبولة. وبذلك تحوّل الزمن الدستوري إلى عنصر فاعل في الصراع، تستخدمه الأطراف المختلفة لفرض شروطها أو لتحسين مواقعها التفاوضية، في مشهد يعكس عمق أزمة الثقة داخل النظام السياسي نفسه.
في قلب هذا المشهد يقف الإطار التنسيقي بوصفه الفاعل الأكثر تأثيرًا، لكنه في الوقت ذاته الأكثر حذرًا. فالإطار الذي يظهر متماسكًا في بياناته وخطابه العلني، يعيش في داخله نقاشًا معقدًا حول الخيارات المتاحة، ولا سيما في ما يتعلق برئاسة الوزراء. فالتجربة الحكومية الأخيرة، بما حملته من استقرار نسبي من جهة، ومن إعادة إنتاج مراكز قوة من جهة أخرى، جعلت قرار التجديد أو التغيير قرارًا عالي الكلفة. فالإبقاء على رئيس الوزراء الحالي يمنح الإطار ضمانة الاستمرار وتفادي المغامرة، لكنه في المقابل يثير مخاوف بعض أطرافه من ترسيخ معادلة سياسية قد تضعف نفوذها مستقبلًا. أما الذهاب إلى مرشح جديد، فيحمل مخاطر إعادة فتح ملفات داخلية وخارجية شائكة، ويهدد بتعقيد العلاقة مع واشنطن، وربما بإرباك التوازن القائم مع طهران.
هذا التردد لا يعكس عجزًا بقدر ما يعكس إدراكًا لحجم الرهان. فاختيار رئيس الوزراء لم يعد قرارًا داخليًا صرفًا، بل بات مرتبطًا بقدرة الشخصية المرشحة على إدارة شبكة معقدة من العلاقات المتشابكة، تبدأ من ضبط الداخل، ولا تنتهي عند طمأنة الخارج. ومن هنا، فإن حديث بعض قيادات الإطار عن حسم الملف خلال أسابيع يعكس محاولة مدروسة لكسب الوقت، بانتظار نضوج تسوية تضمن أقل قدر ممكن من الخسائر.
وفي موازاة ذلك، تشهد الساحة السنية حراكًا لافتًا يعكس محاولة جادة لاستثمار لحظة ما بعد المصادقة. فالقوى السنية، التي دفعت في مراحل سابقة ثمن التشتت وغياب الرؤية الموحدة، تبدو اليوم أكثر ميلًا إلى التنسيق وتوحيد الموقف، كما يظهر في تشكيل المجلس السياسي الوطني. هذا الإطار الجديد لا يمكن فصله عن إدراك متزايد بأن رئاسة مجلس النواب لم تعد موقعًا رمزيًا فحسب، بل تحوّلت إلى ورقة تفاوض أساسية يمكن من خلالها تحسين شروط المشاركة في السلطة التنفيذية، لا الاكتفاء بدور تشريعي محدود.
غير أن هذا الحراك، على الرغم من إيجابيته الظاهرة، لا يخلو من تعقيدات داخلية. فالتنافس بين الشخصيات القيادية، وتباين حسابات القوى المختلفة، يفرضان حذرًا شديدًا في طرح الأسماء، خشية إضعاف الموقف التفاوضي أمام الشركاء الآخرين. كما أن حسم رئاسة البرلمان يظل مرهونًا بتقاطع الإرادة السنية مع حسابات الإطار التنسيقي، الذي يمتلك الثقل البرلماني القادر على ترجيح الكفة. ولهذا، فإن أي اتفاق داخل البيت السني لن يكون كافيًا ما لم يحظَ بقبول ضمني أو صريح من القوى الشيعية الكبرى.
أما رئاسة الجمهورية، فتبدو في الظاهر أقل الملفات سخونة، لكنها لا تخلو من حسابات دقيقة. فالقوى الكردية، التي اعتادت تحويل هذا المنصب إلى ساحة تنافس حاد، تميل هذه المرة إلى تسوية أسرع، إدراكًا منها بأن معارك أكبر تنتظرها في ملفات النفط والموازنة والعلاقة مع بغداد. ومع ذلك، فإن اختيار الرئيس المقبل يظل مرتبطًا بجملة من العوامل الإقليمية والدولية، ولا سيما ما يتعلق بأمن إقليم كردستان واستقرار قطاع الطاقة، في ظل تصاعد التهديدات غير التقليدية، من الطائرات المسيّرة إلى الضغوط الاقتصادية.
ولا يمكن فصل هذه التعقيدات الداخلية عن حضور العامل الخارجي، حتى وإن بدا هذا الحضور أقل صخبًا من مراحل سابقة. فالولايات المتحدة تراقب المشهد العراقي بحذر شديد، وتبعث برسائل واضحة مفادها أن أي حكومة مقبلة يجب أن تكون قادرة على ضبط السلاح، ومنع انزلاق البلاد إلى صراعات إقليمية لا طاقة لها بها، خصوصًا في ظل التوترات المتصاعدة في أكثر من ساحة إقليمية، وما قد يترتب عليها من انعكاسات مباشرة على الداخل العراقي.
وفي المقابل، تبدو إيران أكثر ميلًا إلى خطاب التهدئة وإدارة المخاطر، من دون التخلي عن نفوذها الاستراتيجي. وقد أعادت تصريحات وزير الخارجية الإيراني الأسبق محمد جواد ظريف، في هذا السياق، فتح باب واسع للتأويل والتحليل، حين أكد أن طهران لا ترى في الحرب خيارًا استراتيجيًا، وأن أمن المنطقة لا يمكن تحقيقه عبر المواجهة، بل من خلال الحوار وخفض التصعيد. هذه التصريحات، التي فسّرها مراقبون على أنها موجهة بالدرجة الأولى إلى الولايات المتحدة، تحمل في الوقت ذاته رسائل مباشرة إلى الساحة العراقية، مفادها أن طهران تسعى إلى تجنّب أي انفجار إقليمي قد يجعل العراق ساحة مواجهة مفتوحة أو يدفعه ثمنًا يتجاوز قدرته على الاحتمال.
ويرى محللون أن حديث ظريف عن إعادة النظر في طبيعة العلاقة مع الفصائل المسلحة الحليفة لإيران لا يعني بالضرورة تفكيك هذه العلاقات أو التخلي عنها، بقدر ما يعكس محاولة لإعادة تموضع سياسي يخفف من كلفة المواجهة المباشرة، ويمنح طهران هامشًا أوسع للمناورة الدبلوماسية، ولا سيما في ظل الضغوط الأميركية المتزايدة، والتحديات الاقتصادية الداخلية، وتراجع شهية الإقليم لمزيد من الصراعات. غير أن هذه القراءة، على أهميتها، تبقى محاطة بقدر من الشك، في ظل تجارب سابقة أظهرت فجوة واضحة بين الخطاب المعلن والسلوك العملي على الأرض.
وبين الرسائل الأميركية التي تشدد على ضرورة تحييد العراق عن صراعات المنطقة، والخطاب الإيراني الذي يروّج للتهدئة من دون التفريط بأوراق النفوذ، تجد القوى العراقية نفسها أمام معادلة شديدة الحساسية، تفرض عليها البحث عن صيغة توازن دقيقة تُبقي قنوات التواصل مفتوحة مع الطرفين، من دون الانحياز الصريح لأي منهما، ومن دون تحويل البلاد إلى ساحة اختبار لصراعات تتجاوز مصالحها الوطنية.
وسط هذه الحسابات المعقدة، يبقى الشارع العراقي الغائب الأكبر عن طاولة التفاوض. فالعزوف الانتخابي الواسع لم يكن مجرد رقم في سجلات المفوضية، بل مؤشرًا خطيرًا على عمق أزمة الثقة بين المواطنين والنظام السياسي. وأي حكومة تُشكّل في ظل هذا الواقع ستواجه تحديًا مضاعفًا، يتمثل في إدارة الدولة من جهة، ومحاولة استعادة الحد الأدنى من الشرعية الشعبية من جهة أخرى. فالتجارب السابقة أثبتت أن الاستقرار السياسي لا يمكن أن يستمر طويلًا من دون غطاء اجتماعي، مهما بلغت قوة التوافقات داخل البرلمان.
كما أن العامل الاقتصادي يفرض نفسه بوصفه التحدي الأكثر إلحاحًا، بل والأكثر حساسية في ميزان الحكم على أي حكومة مقبلة. فملفات البطالة، وتراجع الخدمات، وأزمة المياه، والاعتماد المفرط على مورد نفطي واحد، لم تعد مجرد عناوين تقليدية في الخطاب السياسي، بل تحولت إلى أعباء يومية تضغط على الدولة والمجتمع في آن واحد، وتكشف محدودية قدرة النظام القائم على الاستمرار بالآليات نفسها من دون كلفة اجتماعية متصاعدة.
وفي هذا السياق، يكتسب الاجتماع الاستثنائي للمجلس الوزاري للاقتصاد، الذي عُقد برئاسة رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، دلالة سياسية تتجاوز طبيعته الإجرائية. فالنقاش الذي خُصص لتقليص الإنفاق الحكومي وتعظيم الإيرادات يعكس إدراكًا رسميًا بأن النموذج الاقتصادي القائم بات على حافة الاستنزاف، وأن الاستمرار في الإنفاق غير المنضبط لم يعد خيارًا ممكنًا في ظل الضغوط المالية وتزايد الالتزامات.
فالقرارات المتعلقة بمراجعة رواتب ومخصصات الرئاسات الثلاث، وتوحيد سلم الرواتب، وتخفيض الإيفادات بنسبة كبيرة، ليست إجراءات مالية فحسب، بل رسائل سياسية موجّهة إلى الشارع، تحاول الإيحاء بوجود نية لكسر صورة الامتيازات غير العادلة، وإن كانت هذه الخطوات ما تزال في بدايتها وتحتاج إلى إرادة صلبة لضمان تنفيذها. كما أن إعادة النظر بدعم محصول الحنطة، وإصلاح البطاقة التموينية وتوجيهها للفئات الأكثر هشاشة، تكشف عن محاولة لإعادة ترتيب أولويات الدعم الحكومي، بما يخفف من الهدر ويستجيب جزئيًا لمتطلبات العدالة الاجتماعية.
وفي جانب تعظيم الإيرادات، تعكس القرارات المتعلقة بتعزيز الجباية، وتوسيع الدفع الإلكتروني، وتشديد الرقابة الكمركية، وإعادة النظر بالإيرادات غير النفطية، ولا سيما في إقليم كردستان، حجم التحدي الذي تواجهه الدولة في بناء اقتصاد أقل هشاشة. غير أن هذه الإجراءات، على أهميتها، تصطدم بعقبات بنيوية، في مقدمتها ضعف الثقة بين المواطن والمؤسسات، وانتشار الفساد، ومقاومة شبكات المصالح لأي إصلاح يهدد مصادر نفوذها.
من هنا، فإن قدرة أي حكومة مقبلة على النجاح لن تُقاس بعدد الاجتماعات أو البيانات، بل بمدى قدرتها على تحويل هذه القرارات إلى سياسات مستدامة تنعكس على حياة الناس. وفي ظل هذا الواقع، لم يعد مقبولًا الاكتفاء بإدارة الأزمات أو ترحيلها، بل بات مطلوبًا تقديم رؤية اقتصادية واضحة تُقنع الشارع بأن المرحلة المقبلة تختلف فعليًا عمّا سبقها، لا في الخطاب فقط، بل في النتائج الملموسة على الأرض.
أمام العراق اليوم جملة من السيناريوهات المفتوحة. فإما أن تنجح القوى السياسية في الالتزام بالمدد الدستورية، وتشكيل حكومة تسوية قادرة على إدارة التوازنات الداخلية والخارجية، مع الحفاظ على الاستقرار الهش القائم، وإما أن تنزلق البلاد إلى سيناريو التعطيل المنظم، حيث تُستخدم النصوص الدستورية كسقف نظري فيما يجري تأجيل الحسم الفعلي بانتظار توافقات أوسع. وهناك سيناريو ثالث، أقل احتمالًا لكنه أكثر تأثيرًا، يقوم على تسوية سياسية كبرى تعيد رسم بعض قواعد اللعبة، وتفتح الباب أمام إصلاحات محدودة لكنها حقيقية.
في المحصلة، لا يقف العراق اليوم أمام معضلة اختيار أشخاص بقدر ما يقف أمام سؤال أعمق يتعلق بطبيعة الدولة التي يريدها. فصراع المناصب، مهما بلغ من حدّة، يبقى عرضًا لأزمة بنيوية تتعلق بالحكم والشرعية والقدرة على الاستجابة لتحديات الداخل والخارج. وبينما تمضي القوى السياسية في مفاوضاتها المعقدة، يظل الرهان الحقيقي معلقًا على ما إذا كانت هذه اللحظة ستُستثمر لإعادة ترتيب البيت الداخلي، أم ستُهدر في دورة جديدة من التنافس الذي يستهلك الوقت ولا يغيّر المسار. إنها معادلة حاسمة بكل معنى الكلمة، لا تحتمل مزيدًا من التأجيل، ولا تملك ترف الفشل.
#نوري_حمدان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟