محسن عزالدين البكري
الحوار المتمدن-العدد: 8558 - 2025 / 12 / 16 - 15:32
المحور:
المجتمع المدني
ما يحدث اليوم في قضايا القتل القبلي ليس خروجًا عن الأعراف، ولا تشويهًا لها، بل هو تطبيقها الحقيقي كما كانت دائمًا. الفرق الوحيد أن الماضي لم يكن فيه تصوير، ولم يكن أحد يرى. اليوم، بعد أن صارت الكاميرا حاضرة، بدأ الخطاب الدفاعي: «ليس هكذا عُرف القبيلة». هذا الكلام لم يظهر لأن السلوك تغيّر، بل لأن الفضيحة صارت علنية.
الأعراف القبلية لم تكن يومًا عقلانية، هي بدائية. مئات، بل ربما آلاف القصص حصلت بنفس المنطق، وأنا على زماني أعرف نفس القصص، ولولا أن عدم رغبتي بنبش قضايا قد أُخمدت من زمان، لقلت قصة كذا حصلت في قرية كذا عام كذا بحدث كذا وكذا وحصل كذا. لكن لم يكن هناك فيسبوك ومواقع تواصل تنشر هذا القرف. اليوم فقط دخل العالم على الخط، فظهر الخجل، لا المراجعة. من ناحية عقلانية، تصرّف أصحاب المقتول، مثلًا عندما يُقدَّم لهم القاتل مثل الكبش، حتى أنا شخصيًا إذا قُدِّم لي قاتل لأحد أقاربي، سأقطّعه مليون قطعة مع الغضب، لكن الحل القانوني هو التنظيم بعقل ومنطق، إجراءات العقوبات واحتواء الموقف. القاتل أو الجاني، أي جناية، يُحاكم عبر القانون محاكمة عادلة، ويستطيع استقدام محامي، وهكذا جلسات وإدعاء ودفاع إلى أن تقرر المحكمة قرارها..
يبدأ التبرير دائمًا بالقول إن ما كان يحدث تحكمه «ضوابط قبلية». لكن أي ضوابط هذه؟ قصة آل سود وآل حاج تُعتبر أضبط واحدة من بين قرف النظام القبلي. هناك قصص كثيرة أفضع منها، وأنا الآن أخلّي العالم كله يعرف بقرف ما يُسمّى الأعراف القبلية. الفرق الوحيد أن ذلك الزمن لم يكن فيه تصوير، ولم يكن أحد في العالم يعرف ما يجري. اليوم فقط ظهر الخزي، لأن العالم صار يرى، فظهر الخجل لا الوعي.
هناك ما يُسمّى «يوم أبيض»، وهو هدم بيت القاتل وتشريد أسرته، ولا تزال بيوت حتى هذه اللحظة مهدومة، وأتحدّى أي واحد ينكر هذا. ما علاقة البيت بالجريمة؟ وما علاقة العائلة حتى يصبحوا بلا بيت؟ وحتى تسمية اليوم نفسها مضحكة ومحزنة في وقت واحد. الأبيض في كل الثقافات رمز للسلام، أما هنا فهو عنوان للدمار. أي شخص يذكر الأعراف القبلية في الواقع يشبه أن يأتي شخص انكسر إصبع قدمه وهو يضرب نفس الإصبع بمطرقة كلما بدأت تقترب من الشفاء؛ لذا لن تشفى أبدًا.
في سيناريو آخر، وهو الأكثر شهرة واستخدامًا، مبدأ «إذا لم أجد القاتل، لقيت ابن عمه أو الطارف غريم»، بحيث يُقتل شخص من القبيلة ويُقتل آخرون لا علاقة لهم بالقضية. بهذا نصل إلى أكثر أشكال الأعراف انحطاطًا، ما يُعرف بـ«الطارف غريم». القاتل الأساسي قد يبقى حيًا، بينما يُقتل آخرون أبرياء. هذا حدث كثيرًا في كل القرى اليمنية، لا يوجد أي استثناء بتاتًا، وأتحدّى أي يمني ينكر. أنا شخصيًا رأيت في كثير من القضايا القاتل بقي حيًا عشرات السنين، وهم كانوا سبب ثارات استمرت لسنوات، بينما قُتل آخرون من الضحايا الأبرياء. قصة اليوم بين آل سود وآل حاج ليست إلا الأقل سوءًا داخل الوحل القبلي ذاته. على الأقل هم، ولو بطريقة همجية أيضًا، قالوا واحد بواحد، وإلا كان أطرف واحد من القبيلة خذ.. ونفس قصة آل سود وآل حاج حدثت مرات عديدة. حتى هم لما صوّروا ظنّوا الموقف مشرّف. أتحدث لك بلهجته بلدية عشان تفهم، هم بيقولوا كذا:
(((((عندنا حصل قتل وما طورنا اموضوع وأوقفنا حرب أمثار أمطويلة، أدّا له القاتل وبطحه ورصّصه على حومها وخلاص ))))))))
وكنت أعرف مثل هذه الأحداث: خرقوا الجثة خراق أهل الدم، أو من قرر محاكمته ربما لقضية غير القتل ويرموه بالخارج ساعات بعد ما يعبثوا به ويخرقونه عشرات الرصاص، وقالوا أهل فلان ببلاد فلان خارجوها بساعتها بلا ثارات وبلا مطّط المحاكم. بس أمس حصل ما لم يتوقعوه من ردة فعل المشاهدين، الذين في أغلبهم قد بدأت تتقلص هذه الأعراف عندهم لحساب القانون والمحاكمات، والتي هي طبعًا الأعقل والأشرف وإن طال تمطيطها. لكن مثل ما جرى مع آل الأسود كانت تحدث كما ما يُقال في المثل «بقصة أو قبصة حشيمة»، ولم يكن أحد يصوّر، ولا تنتشر، فيقولون قتلوه رأسًا براس ويكفّنوا القصة. برغم أن أقرب الأقرباء للمقتول، المنفّذ عليه القصاص العبثي، يستاؤون، إلا أنه يُسكِر لُقَفهم شيخ قبيلتهم ووجهاء القبيلة جنبه، وعُرف القبيلة المقرف أيضًا، ويقولون لهم: «رأسًا براس»، خمدنا ثأرات طويل عريض. بهذا المنطق يُسكتونهم. الآن انفضحت الأمور أمام العالم.
وفي سيناريو ثالث، تُرتكب مجزرة كاملة، ثم تُذبح جماع رؤوس من البقر، ويُقال ببساطة: «عفونا». أي منطق هذا؟ يُسمّى «اقتل وبيقع صلح»، وأتحدّى أي واحد يقول لي إن هذا المثل غير متداول في القرف القبلي. لا صلح مثل العالم، ولا قصاص وعقوبة مثل العالم. همجية وبدائية من العصور الحجرية، فشل كامل من جميع الاتجاهات. وحتى العاقل وسط هذه الفوضى يُجبر على التصرّف مثلهم. من يُنصفني إذا قُتل أحد أقاربي سوى أن أقتص منه خارج القانون، لأن هناك من يحاول تلطيخ المجتمع بوحل القبلية كل مرة من جديد، ولا أمل لاحترام القانون في ظل شعب لا يمجّد القانون، بل يمجّد القرف القبلي. والجانب النفسي يجب قول الحقيقة بلا تزييف: لو قُدِّم لك قاتل قريبك في لحظة غضب، فقد لا تسامح، وربما تمارس العنف نفسه. الفرق أن وجود النظام والقانون يحوّل الغريزة إلى عقل، ويضع ضوابط للعقوبة.
وأحيانًا يصل العبث حد السخرية السوداء. مرة، أثناء حملة تطعيم ضد شلل الأطفال في قرية مشتعلة بالصراعات، وجدت حمارًا مصابًا يقطر الدم من رجله، فظننت أنها رصاصة طائشة، لكن قالوا: «عقرنا عليهم حمار المرة الأولى، واليوم هم عقروا علينا حمار». لا علاقة للحيوان بالقضية، لكنه أصبح جزءًا من منطق الانتقام. هذه ليست نكتة، بل أنا شخصيًا شفتها. في فترة الاشتراكية جاءت، وكل قرية وكل قبيلة معها ثارات متعددة. تجد القبيلة الواحدة معها ثار مع هذه القبيلة وهذه وتلك وهاتاك، المهم مع عدة قبائل أخرى، والقبائل الأخرى نفس الشيء معها عشرين قضية ثأر مع قبائل ثانية هي الأخرى بدورها، واستمر الصراع سنوات طويلة. هل يوم رأيت فأر يظل يخرج وهو يتأمل الطبيعة؟ لا، دائمًا تلقاه حذر. لماذا؟ لأنه يخرج والثعبان والكلب والثعلب والصقر والبوم، حتى في الليل، كلهم منتظرين له. هكذا كان وضع القبلي، مثل الفأر يخرج وقد صنع العداء مع جميع القبائل المجاورة له، وحذر واصل. حتى جاءت حكومة الجنوب الاشتراكية الكافره رضي الله عنها وأنهت الكثير من هذا، لكن بعد الفتاوى الإسلامية بأنهم كفار عاد القرف القبلي بعد 94 في الجنوب، أما الشمال فواصل على هذا النحو، عدا فترة الحمدي رضي الله عنه أيضا لكنهم قتلوه وأعادوا القرف من جديد، مثل إعادة القرف القبلي بعد خروج الاشتراكية الكافرة من الجنوب.
من عاش في المدن قد يستغرب هذا الكلام، لكن أنا عشت في مناطق كانت من أكثر المناطق قبلية في اليمن، خصوصًا قبل استقلال 67، حيث قُتل الكثير بثارات قبلية، وتوقفت إلى 94، وعاد بعد 94 القرف من جديد. الآن هناك تحسّن، لم يأتِ من الأعراف، بل من الوعي والتعليم ورؤية العالم، فقبل الناس عودة الدولة والقانون — ولو جزئيًا — لأن الناس تغيّروا، خصوصًا جيل الشباب الجديد. .. هناك ما هو أفظع: إذا كان هناك بيت صغير مقطوع من شجرة وليس ينتمي لقبيلة قوية، قد يُباد عن بكرة أبيه ويُسلب أرضه، خصوصًا لو كان معه أرض، بل ربما تُصادر قبل أن يُقتل. ولا تخلّوني أقول لكم بيت فلان وأُسرة فلان التي كانت تمتلك وادي فلان ووادي فلان. وأنا كان لي بحث قديم لتتبع سجلات عبر ثلاثمائة سنة عندما كنت مهتمًا بالتاريخ، بعدها قلبت الشريحة فيزياء وعلوم طبيعية، لكن الأسماء لا تزال بذاكرتي.
أخيرًا، أنا لست مستاءً كثيرًا من تصفيات القتل هذه، بل أنا أكثر استياءً من الذي يقول: «أعراف قبلية ليست هكذا». هو هذا اللي يفقع مرارتي. الأعراف القبلية أفظع وأفظع وأفظع، وما يظهر الآن نسخة فقط مخففة، وهذا الذي يقول هكذا هو الأكثر خطرًا، لأنه يبرّر بقاء العفن القبلي مقابل القانون. لدرجة أنه حتى أنا، الذي سردت هذا المقال الطويل العريض، في ظل تبرير الأعراف وإعادة عفنها في كل مرة، سأتصرّف بنفس التصرّف الهمجي إذا قُتل أحد أقاربي، لأنه لا يوجد سوى قانون الغاب هنا، ولا توجد أصوات تمجّد القانون والنظام الحقوقي هنا حتى يكون وعي الشارع كله معه، وبالتالي أكون مطمئنًا بأن القانون سينصفني، لأنه قد أصبح جزءًا أصيلًا من هذا البلد. لكن للأسف المجتمع الجاهل هذا في كل مرة يمجّد الأعراف القبلية ليعود الوحل فيلطّخ الجميع.... كلام نهائيييييييييييييي.
يجب احتقار ما يُسمّى أعراف قبلية جذريًا ونهائيًا، وتمجيد سلطة النظام القانوني مثل بقية دول العالم، أو على الأقل مثل ما كنا في فترة ما قبل وحدة الديلمي والزنداني المشؤومة. وأيضًا لا ننسى الإعجاب وتمجيد فترة الحمدي، في الشمال أيضًا. أخيرًا، حتى القاتل لو كان لديه فكرة عن القانون، يسلّم نفسه إلى أقرب شرطة إذا حسّ نفسه قد وقع وتورّط، لكنه أيضًا متشبّع بالفكر الهمجي القبلي.
تحياتي
ا/ محسن عزالدين البكري
#محسن_عزالدين_البكري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟