محسن عزالدين البكري
الحوار المتمدن-العدد: 8535 - 2025 / 11 / 23 - 22:32
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
التحليل الواقعي للصراع: قوة المنبع واستراتيجية المحاور المتعددة لدولة المصب
....
يبدأ التحليل الواقعي لأي صراع مائي عابر للحدود بفهم مفهوم "قوة دولة المنبع" (Power of Upstream State)، وهو المصطلح الجيوسياسي الذي يصف الميزة الاستراتيجية التي تملكها الدولة التي تسيطر على مصدر النهر، حتى لو كانت أفقر عسكريًا واقتصاديًا من دول المصب. هذه القوة لا تُستمد من الجيش أو الناتج المحلي الإجمالي، بل من الجغرافيا وحدها؛ فدولة المنبع تملك السيطرة المطلقة على تدفق المياه وتتمتع بـالاستقلال المائي الكامل. بينما تعتمد دول المصب بشكل حيوي على هذا التدفق، مما يضعها في موقف "هشاشة مائية" (Water Vulnerability). وعلى ضوء هذا الميزان، تُعتبر دولة المنبع أقوى استراتيجيًا في ملف المياه، لأن السد مبني في منطقة جبلية عالية يصعب ضربها، وهي "أكثر حرية في المخاطرة" سياسيًا لعدم اعتمادها على دول المصب في أي مورد حيوي.
إن إدراك هذه الحقيقة يكشف الفارق الجوهري بين التفكير الواقعي المعاصر والخطاب التقليدي العاطفي. فبينما يركز التحليل الواقعي على ميزان القوة الفعلي المستمد من الموقع الجغرافي والاعتمادية المتبادلة، نجد أن الخطاب التقليدي لا يزال يرتكز على وهم القوة التاريخية القديمة والاستناد إلى أمجاد الماضي، مفترضًا أن العالم يعيش في القرون الأولى حيث تحكم عنتريات الشجاعة والسيف والرماح والنبال. هذا التفكير العاطفي يجد مرتعاً خصباً لدى القيادات التي تعيش حالة "الاستعلاء الطبقي والتاريخي الممزوج بالجهل الاستراتيجي". هذا النمط القيادي يخلط بين الإرث التاريخي والقوة القابلة للتطبيق، ويعتقد أنه يستطيع إخضاع الطرف الصاعد بقوة الإرث القديم، دون أن يدرك أن هذا الطرف بات يمتلك الآن القوة الجغرافية والفنية الحقيقية التي لا تُرَد بـعنجهية السيف والرماح. هذا الاستعلاء هو ما يقوده للتعنت والفشل في قراءة الواقع، حيث تتفاجأ هذه الدول بصلابة دولة المنبع، وتلجأ إلى "الهنجمات الفارغة" كالتصعيد اللفظي والتهديدات العسكرية التي لا يمكن تنفيذها أو تكون عواقبها كارثية.
هذا الفارق في المنهج هو ما يقود إلى الفشل في قراءة الواقع. فاللجوء إلى "عنتريات القرن السابع" والتهديد العسكري هو أسوأ استراتيجية على الإطلاق؛ لأنها لا تنجح فحسب، بل تُفقد المصداقية وتزيد من تعنت المنبع، الواقع واقع والأوهام أوهام لا يوجد أفضل من فهم الواقع كما هو ، وحتى من الناحية التكتيكية، فإن صعوبة ضرب السد في المنطقة الجبلية تزيد من استحالة هذا الخيار، فحتى مع الطائرات، يصبح القصف محفوفاً بالمخاطر: السدود الحديثة هي كتل خرسانية ضخمة تحتاج إلى قنابل اختراق عميق بكميات هائلة، وليست أهدافاً عسكرية عادية.
وبناءً عليه، فإن النظرة الواقعية السليمة تتطلب من دولة المصب أن تُدرك أن الكفاءة لا تعني "تركيع" المنبع بالقوة الكلاسيكية، بل هناك قوى أخرى واحيانا ربما هو يتوهم بسوء ضن خطر محتمل بينما هناك الكثير ممن يتعاونون ولديهم نفس القضية تماما لكن عقلية الاستعلاء هذه لا تريد ان تتعايش في هذا العصر كما يتعايش بقية سكان الكوكب، وحتى في القوة هو فاشل فأحيانا القوة تعني "تحويل الهشاشة إلى شراكة قوية ومربحة للجميع عبر فرض التعاون الإجباري" عبر استراتيجية شاملة متزامنة. من الطرق أيضا الضغط الصامت والموجع. وهذا قد يتم عبر تطبيق محاور الإدارة الفعالة للأزمة التي نجحت في تجارب دول غير عربية عديدة، وكما نجحت البرازيل وباراغواي في فرض الشراكة الاقتصادية على نهر بارانا، وكما نجحت الهند وباكستان في تثبيت معاهدة السند عبر التدويل والضمان الدولي، وكما تدار الأنهار الأوروبية (الراين والدانوب) بآلية مؤسسية وفنية تُعطل الانفراد بالقرار، وكما نجحت دول آسيا الوسطى (طاجيكستان وأوزبكستان) في المقايضة الإلزامية للمياه مقابل الطاقة، وكما أثبتت لجنة الحدود والمياه الدولية بين الولايات المتحدة والمكسيك قوة الآلية الفنية الدائمة. وتتمحور هذه الاستراتيجية حول أربعة محاور رئيسية تُفعّل بالتوازي لتحقيق هدف الخنق الاستراتيجي:
أولاً، المحور التكتيكي (الضغط والإخضاع السياسي والجغرافي): الهدف هو رفع "تكلفة التعنُّت" إلى مستوى يفوق قدرة المنبع على تحمله، دون اللجوء للحرب. يتم ذلك عبر "التدويل" ونقل الملف إلى المنصات العالمية لخلق عزلة سياسية وإحراج دولي، وكذلك استخدام "الخنق الجغرافي" عبر استغلال نقاط الضعف الوجودية للمنبع، ككونها مثلا أثيوبيا دولة بدون منفذ بحري، والعمل عبر بناء تحالفات مضادة مع جيرانها لـتضييق الخناق على وصولها إلى الموانئ، مما يضمن عزلة جغرافية واقتصادية تمنع المنبع من تحقيق طموحاته التنموية حتى يرضخ. هذه الضغوطات هي الأداة التي تجعل التعاون ضرورة، وليس تنازلاً.
ثانياً، المحور الاقتصادي (العصا والجزرة والرشوة الاستراتيجية): الهدف هو منح المنبع "المقابل المالي والرشوة الاستراتيجية" الذي يجعله يفضل التعاون على التعنت. وهذا يشمل "سياسة الربط" (Linkage Politics)، أي ربط ملف المياه بملفات حيوية أخرى كـتأمين التمويل الدولي لمشاريع المنبع مقابل مرونة في الملء والتشغيل، وعقد اتفاقيات تجارة وتسهيلات جمركية، وشراء الطاقة الكهربائية من مشاريع المنبع بأسعار مجزية، مما يجعل استمرار التعاون أكثر ربحية.
ثالثاً، المحور الفني (الشراكة الإلزامية): الهدف هو فرض الرقابة الفنية المشتركة وتحويل الصراع إلى شراكة تقنية. يتم ذلك عبر بناء آليات التعاون المؤسسي الدائم، وتكوين لجان فنية مشتركة لتبادل البيانات الهيدرولوجية والإنذار المبكر، والتفاوض الذكي بمنطق "رابح-رابح" بدلًا من التشبث بالأوهام التاريخية، والتركيز على اتفاقيات تشغيلية مرنة ومرحلية تخدم مصالح الطرفين.
رابعاً، محور الدفاع الاستراتيجي (تقليل الهشاشة): الهدف هو نزع ورقة الضغط المائي من يد المنبع. يتم ذلك عبر "خلق بدائل داخلية قوية" عبر الاستثمار الضخم في تحلية المياه، وتخزين المياه الاستراتيجي، وتغيير الأنماط الزراعية لتقليل الاعتمادية الوجودية على مياه المنبع، مما يقلل من نفوذه تدريجيًا.
هذا التفكير الواقعي يمثل التنوير السياسي المعاصر، فهو يركز على ما يمكن فعله فعليًا لتأمين المصالح الوطنية عبر الحسابات السياسية الدقيقة، وتحويل التهديد إلى فرصة لفرض الشراكة الإلزامية في الإدارة الفنية والتشغيلية، وليس عبر المشاعر العاطفية أو الخطابات الجوفاء التي أثبت التاريخ فشلها، وهذا هو سر نجاح الدول الصغيرة في التعامل مع أزمات المياه الكبرى.
وبناءً على ما تقدم، فإن تطبيق هذه المحاور الأربعة لا يجب أن يقتصر على التنظير، بل يتطلب خطة عمل تفصيلية لتفعيل أقوى أدوات الضغط غير العسكري التي يخشاها القائد الذي يعيش في الماضي: الخنق الجغرافي والاقتصادي. إن الأهمية الاستراتيجية لهذين المحورين تكمن في أنهما يتجاوزان العنتريات والخطابات النارية، ويضربان مباشرة في صميم المصلحة الوجودية لدولة المنبع، مما يحوّل تعنُّتها إلى خسارة اقتصادية مباشرة لا يمكن تبريرها داخلياً.
تفعيل المحور التكتيكي (الضغط والإخضاع السياسي والجغرافي):
يكمن الهدف الأعمق لهذا المحور في الاستفادة من نقاط الضعف الجيوسياسية لدولة المنبع، وأبرزها كونها مثلا دولة حبيسة (بدون منفذ بحري)، وتعتمد بشكل حيوي على دول الجوار للوصول إلى التجارة العالمية. يتمثل المسار التنفيذي لذلك في أربع خطوات متزامنة:
بناء التحالفات العميقة مع دول الجوار الساحلية: يتم تقديم حزمة مغرية من الاستثمارات الضخمة والتسهيلات المالية (كالقروض الميسرة أو الدعم العيني) إلى الدول التي تمتلك الموانئ الحيوية لدولة المنبع (مثل جيبوتي، إريتريا، الصومال، أو أي بديل إقليمي). الهدف هنا هو ربط المصالح الاقتصادية لهذه الدول الساحلية بشكل وثيق مع دول المصب، مما يضمن ولائها السياسي في ملف المياه.
تطبيق ضغوط تشغيلية على الموانئ: بعد تأمين ولاء دول الجوار، تبدأ عملية الخنق الجغرافي الصامتة. لا يتم إعلان "حصار" مباشر، بل تُفرض رسوم جمركية عالية، وتُطبق إجراءات صحية وبيئية وتشغيلية معقدة ومطولة على البضائع القادمة من وإلى دولة المنبع. هذا التأخير والزيادة في التكلفة يرفع "تكلفة الشحن والتجارة" لدولة المنبع بشكل غير مقبول، مما يضرب قطاعاتها الاقتصادية الرئيسية، وخصوصاً التصدير، ويزيد من التضخم الداخلي بشكل سريع.
التدويل القسري وربطه بالتمويل: يتم نقل الملف إلى المؤسسات المالية الدولية (كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والاتحاد الأوروبي)، ويتم التركيز على أن تعنت دولة المنبع يهدد الأمن الإقليمي والغذائي العالمي. يتم استخدام هذا الإطار لـربط أي قروض دولية أو دعم مالي لدولة المنبع بـالتوقيع على اتفاقية ملزمة لتبادل البيانات والتشغيل المشترك للسد. وبذلك، يتم تحويل التعنت إلى عزلة مالية خانقة.
تفعيل الضغط الحقوقي والإعلامي المُركز: يتم إنشاء حملة إعلامية وقانونية دولية قوية تستهدف الرأي العام الغربي وشركاء دولة المنبع، لا بالخطاب العاطفي، بل بالبيانات الفنية التي تثبت أن تعنتها يمثل تهديداً مباشراً لـ150 مليون نسمة (أو حسب الرقم المستهدف)، مما يضع ضغطاً حقوقياً هائلاً على الحكومات الغربية لاتخاذ موقف أكثر صرامة.
تفعيل المحور الاقتصادي (العصا والجزرة المالية):
يهدف هذا المحور إلى إجبار دولة المنبع على الاختيار بين "المكسب المالي السريع عبر التعاون" أو "الانهيار الاقتصادي عبر التعنت". وهنا يتم تطبيق سياسة الربط (Linkage Politics) بشكل مزدوج:
تقديم الجزرة (الرشوة الاستراتيجية): يتم تقديم عرض سخي وغير قابل للرفض لشراء الطاقة الكهربائية المنتجة من السد بأسعار مجزية ومضمونة وطويلة الأجل، مقابل التزام مرن بالتشغيل والملء. هذا العرض يُشكل ضمانة لدخل ثابت وكبير لدولة المنبع، يجعله الخيار الوحيد القابل للتطبيق لتمويل تنميتها، مما يربط بقاء النظام الحاكم مباشرة بالتعاون.
استخدام العصا (حجب الاستثمارات): في حال رفض دولة المنبع، يتم استخدام النفوذ الاقتصادي والتحالفات لحجب جميع الاستثمارات المباشرة الأجنبية عنها، وتجميد خطط تطوير البنية التحتية، وتعطيل استيراد التكنولوجيا الضرورية لتشغيل المشاريع الكبرى. هذا يضمن تآكل قدرة الدولة على التنمية، ويجعل مشروع السد نفسه عبئاً اقتصادياً ضخماً وغير مجدٍ.
المساومة على التكنولوجيا والخدمات الحيوية: يتم ربط خدمات فنية حيوية (كصيانة المولدات، أو قطع الغيار الأوروبية/الأمريكية الضرورية لتشغيل السد، أو الخدمات اللوجستية المعقدة) بضرورة التوقيع على الاتفاقية. وبذلك، يتحول السد من رمز للقوة إلى رهينة فنية لا يمكنها العمل بكفاءة دون "إذن" الأطراف التي تعتمد عليها.
هذه الاستراتيجية المُركبة، التي تجمع بين الخنق الجغرافي والضغط المالي والربط الفني، هي اللغة الوحيدة التي يجب أن يفهمها العقل العنتري الواهم العربي
💡 الخلاصة المستخلصة من التجارب الدولية
إن نجاح الدول المصب، كالهند في التعامل مع الصين في ملف نهر براهمابوترا، أو الدول الأوروبية في إدارة الراين، يكمن في تطبيق مبدأ المؤسساتية الإلزامية وتقليل الهشاشة فمعاهدة مياه السند بين الهند وباكستان، التي صمدت رغم الحروب، أثبتت قوة الضمان الدولي واللجان الفنية الدائمة في فرض الاستقرار. كما أن الشراكة الاقتصادية في مشاريع مثل سد إيتايبو (البرازيل وباراغواي) أثبتت أن "الرشوة الاستراتيجية" المتمثلة في شراء الطاقة بأسعار مغرية، هي الأداة الأقوى والأكثر استدامة لإجبار دول المنبع على التعاون الفني والتشغيلي، وتحويل الصراع المائي إلى صفقة تنموية مربحة للجميع. وأخيراً، أظهرت تجارب آسيا الوسطى (في المقايضة بين المياه والطاقة) وتجارب الحدود الأمريكية المكسيكية (في إنشاء لجان فنية تنفيذية) أن القوة لا تكمن في التهديد، بل في بناء نظام متكامل من الاعتمادية المتبادلة والالتزام الفني القسري. هذا هو التنوير السياسي الذي يتجاوز الخطابات الجوفاء إلى الفعل المؤثر والصامت.
المهم انا مليت من امها عقليات العرب هذه ،، المعتمدة على دليل رعاة الماعز من العصر البرونزي ،،
خلاص تحياتي:
..
#محسن_عزالدين_البكري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟