زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8555 - 2025 / 12 / 13 - 21:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ترجمة وتحليل د. زياد الزبيدي
14 ديسمبر 2025
بين يدي القارىء مراجعة لكتاب
"Being Jewish After the Destruction of Gaza: A Reckoning"
لبيتر بينارت، كما يتناوله جورج ماركس في عرضه على منصة Medium، مع إضافة تحليل نقدي يضع الكتاب في سياقه الفكري والسياسي وملحق يلقي الضوء على الكاتب.
يقدّم بيتر بينارت، أحد أبرز الأصوات اليهودية النقدية في الولايات المتحدة، عملاً فكريًا جديدًا يسعى فيه إلى إعادة تعريف معنى أن تكون يهوديًا بعد حرب الإبادة في غزّة. الكتاب ليس عرضا تاريخيًا بالمقام الأول، وليس مجرّد تحليل سياسي؛ إنه نصّ في الأخلاق اليهودية وفي الذات الجماعية اليهودية، في لحظة تهتزّ فيها الأسس الرمزية التي إعتمدها التيار الصهيوني لعقود.
1. الفكرة الأساسية للكتاب
يركّز بينارت على سؤال محوري:
هل ما زال بإمكان اليهود تعريف أنفسهم كضحايا بعد أن أصبحوا مشاركين، أو متواطئين، في تدمير شعب آخر؟
ينطلق من أطروحته المشهورة بأن "النموذج الأخلاقي اليهودي" فقد جزءًا من مصداقيته بعد غزّة لأن الخطاب اليهودي العام يقوم على صورة اليهود كضحية أزلية، بينما الواقع السياسي اليوم يجعل إسرائيل قوة إستعمارية تمارس العنف الواسع ضد الفلسطينيين.
2. نقد أسطورة "نحن الضحايا"
يرى بينارت أن أحد أخطر العناصر في الهوية اليهودية الحديثة هو التمسّك اللاواعي بموقع الضحية حتى عندما لا يكون ذلك صحيحًا.
يحلّل نصوصًا دينية وأمثالًا شعبية ويشير إلى تحوّل الضحية إلى مبرّر أخلاقي للعنف.
ويقدّم مثالاً قويًا من سفر إستير (عيد بوريم) ليُظهر: كيف نروي القصة بإعتبارها إنتصارًا على مؤامرة إبادة.
وكيف نتجاهل القسم الذي يروي قتل اليهود لسبعين ألفًا من «أعدائهم» والإحتفال بذلك.
يقول بينارت: "بوريم ليس فقط عن الخطر الذي يمثّله الآخر علينا، بل عن الخطر الذي نمثّله نحن عليه."
بالنسبة له، هذا مثال رمزي عن كيفية سرد اليهود لتاريخهم دون الإعتراف بالعنف الذي يمارسونه حين يمتلكون القوة.
3. غزّة كصدع أخلاقي
يرى بينارت في تدمير غزّة نقطة مفصلية في الوعي اليهودي الحديث.
يقول – وفق قراءة صاحبنا جورج ماركس – إن هناك تمزّقًا عميقًا بين القيم اليهودية التقليدية التي تؤكد على العدالة والرحمة، وبين تطبيق إسرائيل للقوة العسكرية بلا قيود.
ويعتبر أن: الصمت اليهودي العام، أو الإلتفاف الأخلاقي حول "الدفاع عن النفس" يمثّلان فشلاً أخلاقيًا مروّعًا لا يمكن تجاوزه إلا بمراجعة عميقة.
4. نحو يهودية ما بعد الصهيونية
لا يطرح بينارت حلولًا سياسية مباشرة، لكنه يدعو إلى: يهودية جديدة تتخلّى عن مركزية الدولة العبرية في تعريف الهوية، والإعتراف بالخطأ التاريخي المُرتكب بحق الفلسطينيين، وبناء أخلاقية يهودية تعتمد على المساءلة الذاتية وليس على أسطورة الإستثناء الأخلاقي اليهودي.
يمكن القول إن الكتاب يمهّد لخطاب يهودي ما بعد الصهيونية يزداد حضوره بين الأجيال الشابة خصوصًا في أميركا.
5. قيمة الكتاب
أ. نقاط القوة
•جرأة غير مألوفة في الأوساط اليهودية السائدة.
•قراءة نقدية للنصوص الدينية تُظهر إزدواجية الذاكرة اليهودية.
•تحليل فلسفي وأخلاقي أكثر منه سياسي مباشر.
•يقدّم خطابًا بديلًا يعيد الإنسانية للفلسطينيين من داخل الفضاء اليهودي نفسه.
ب. نقاط الضعف
•يتعامل مع النصوص الدينية أحيانًا بإنتقائية لإثبات فرضيته.
•يعتمد كثيرًا على التجربة الأميركية اليهودية، ما قد لا ينطبق على مجتمعات يهودية أخرى.
•لا يقدّم مسارًا سياسيًا واضحًا بل يركّز على الخطاب والهوية.
6. خاتمة
"Being Jewish After the Destruction of Gaza"
كتاب مهم لأنه يصوغ إعترافًا نقديًا نادرًا من داخل الهوية اليهودية نفسها.
إنه نصّ لا يريح القارئ، بل يهزّ الإفتراضات الأخلاقية التي بُنيت عليها الصهيونية الحديثة، ويضع اليهود أمام سؤال مرير:
«كيف نكون يهودًا بعد أن شهد العالم على تدمير غزّة باسمنا؟»
*****
ملحق
بيتر بينارت: اليهودي الذي خرج من ظلّ الهيكل
في نيويورك، المدينة التي تتعايش فيها كلّ روايات العالم، كان بيتر بينارت يُعَدّ، لسنوات طويلة، جزءًا من “الإجماع الهادئ”: يهودي ليبرالي، مُثقّف، يؤمن بأن إسرائيل—مع ما عليها—تبقى الملاذ الأخلاقي الأخير لشعبٍ عرف الإضطهاد أكثر مما عرف الشمس.
لم يكن خارج السرب. بل كان، بكل بساطة، أحد الذين يصيغون خطاب السرب.
ولكن شيئًا ما حدث.
حدث ببطء، ثمّ صار فجأة لا يمكن حجبه… ولا يمكن إحتماله.
المرحلة الأولى: الحالم الذي ظنّ أن إسرائيل قابلة للإصلاح
كان بينارت، في بداياته، يُشبه اليسار الصهيوني ذاته: مؤمن بنموذج لا يتحقق.
يكتب عن “ديمقراطية إسرائيل” كما لو أنها حقيقة ثابتة، ويُحمّل الإحتلال مسؤولية “إرباك الصورة”، وكأنه طارئ، لا جوهر.
كان يرى أن علاج الأزمة بسيط: قليل من الضغط الأميركي، وقليل من “الإرادة الطيبة”، وعودة المفاوضات، وسيعود كل شيء إلى مساره.
كانت هذه رواية آمنة… مريحة… وضرورية لكثيرين.
حتى توقّفت عن القدرة على تفسير الواقع.
الشرخ: حين إكتشف أن المشكلة ليست في السياسات… بل في الفكرة
بدأت الهوّة تتّسع: اليمين يتمدّد، الإستيطان يبتلع، القومية الدينية تصعد كإعصار.
وكان سؤال واحد يتردد في رأس بينارت كضوء أحمر لا ينطفئ: هل هذا إنحراف عن الصهيونية… أم تحقيقٌ كامل لها؟
ومع الوقت، أصبح الجواب مُرعبًا لأنه بسيط: لم تنحرف إسرائيل عن الصهيونية.
إسرائيل هي الصهيونية في أنقى صورها.
كانت هذه لحظة الإنفصال الأول:
إنفصال المثقف عن الرواية التي صنعته.
التحول الكبير: من إصلاح الصهيونية إلى مساءلتها… ثم إلى رفضها
كان على بينارت أن يعترف بما ظلّ مكتومًا طويلاً في الخطاب اليهودي الأميركي: أن الديمقراطية لا يمكن أن تُزهر فوق أرضٍ تُدار عبر نظام تفوّق إثني. وأن “الدولة اليهودية” و”الحقوق المتساوية” ليسا توأمين، بل نقيضين.
في تلك اللحظة، كتب بينارت مقالاته التي هزّت واشنطن وتل أبيب معًا، معلنًا أن:
حلّ الدولتين مات
وأن الدولة الواحدة بحقوق متساوية هي الطريق الوحيد إلى مستقبل ممكن، وأن على اليهود الإعتراف بالنكبة لا بوصفها خطأ، بل بوصفها حجر الأساس للدولة الحديثة.
كان هذا إنقلابًا داخل البيت، لا من خارجه.
غزّة: الشرارة التي جعلت الموقف يتحول إلى عقيدة
ثم جاءت غزّة.
جاءت كزلزال أخلاقي لم يترك شيئًا في مكانه.
شاهد بينارت الدمار، وشاهد الطريقة التي يتحدّث بها الإعلام اليهودي الأميركي عنه، وشاهد الصمت المُطبق في المؤسسات، وشاهد كيف تُستخدم الهولوكوست مرّة أخرى كدرعٍ لشرعنة كل شيء.
وفي إحدى مقالاته كتب ما بدا وكأنه وصيّة:
“لا يمكن لليهود أن يحافظوا على أخلاقهم إذا رأوا في كل نقدٍ لإسرائيل تهديدًا لوجودهم.”
ومع غزّة، لم يعد النقاش تقنيًا أو سياسيًا.
صار وجوديًا.
كان يسأل نفسه: إذا كان هذا هو صدعنا الأخلاقي… فكيف نواصل الإدّعاء بأننا “الضحايا الأبديون”؟
اليهودية الجديدة: خروج من الهيكل، لا خيانة له
اليوم، يقف بينارت في موقع فريد: ليس صهيونيًا، وليس “معاديًا للصهيونية” بمعناها الهتافي؛ بل صاحب مشروع فكري يريد أن يُعيد تعريف اليهودية نفسها.
يهودية:
لا تتأسس على الخوف
ولا على الإستثناء الأخلاقي
ولا على الدولة كضرورة وجودية
بل على العدالة والمساواة والشراكة البشرية.
يكتب بينارت كما لو أنه يوجّه خطابًا طويلًا إلى أجداده: “نحن لسنا الضحية الوحيدة في التاريخ.
وحين نملك القوة، لا بد أن نسأل: ماذا نفعل بها؟”
الخاتمة: المثقف الذي تجرّأ على النظر إلى المرآة
لم يعد بيتر بينارت صوتًا من داخل المؤسسة.
ولم يصبح صوتًا ضدّها تمامًا.
بل صار شيئًا أكثر تعقيدًا: شاهدًا أخلاقيًا على لحظة يكتشف فيها اليهود الأميركيون أن الرواية التي عاشوا داخلها طوال سبعين عامًا لم تعد صالحة لحمل الحقيقة.
إنه لا يقدّم حلولًا سحرية، ولا يطرح يوتوبيا utopia جديدة، لكنه يفعل شيئًا أكثر أهمية:
يروي القصة كما حدثت… لا كما أرادوا لها أن تُروى.
*****
الكاتب في سطور
بيتر بينارت Peter Beinart هو مفكّر وكاتب ومحلّل سياسي يهودي-أميركي، يُعدّ اليوم أحد أبرز الأصوات النقدية داخل التيار الليبرالي اليهودي بشأن إسرائيل والصهيونية.
ولد عام 1971 في كامبريدج – ماساتشوستس.
أستاذ في العلوم السياسية والصحافة بجامعة نيويورك.
محرّر سابق في مجلة The New Republic ذات التوجه الليبرالي.
يُعدّ من أهم المنظّرين لما يسمى "الصهيونية الليبرالية" قبل أن يتحوّل جذريًا في العقد الأخير إلى مناهضة بنيوية للسياسات الإسرائيلية.
كاتب بارز في عدة منصّات: New York Times, The Atlantic, Haaretz, Jewish Currents وغيرها.
مدير مشارك في مشروع Open Zion الذي كان يهدف في البداية إلى دعم حلّ الدولتين، ثم تحوّل إلى نقد جذري للصهيونية.
أفكاره وتحولاته
تميّز بينارت بتحوّل فكري كبير:
1. في بداياته:
كان من المدافعين عن "إسرائيل الديمقراطية" ويدعو إلى إصلاحات ضمن الإطار الصهيوني.
2. بعد 2010:
بدأ ينتقد الإحتلال، وكتب كتابه "The Crisis of Zionism" الذي أحدث ضجة واسعة.
3. بعد 2020 وما بعد حرب غزّة:
تبنّى موقفًا واضحًا يرفض فيه الإطار الصهيوني برمّته، ودعا إلى دولة واحدة ديمقراطية للفلسطينيين واليهود.
أصبح أحد أبرز الأصوات اليهودية المناهضة لجرائم إسرائيل، مع حفاظه على إنتمائه اليهودي الديني والثقافي.
أهم كتبه
The Good Fight (2006)
The Crisis of Zionism (2012) – الأكثر تأثيرًا
Being Jewish After the Destruction of Gaza (2025)
لماذا هو مهم؟
لأن بينارت يمثّل تيارًا متناميًا داخل اليهود الأميركيين – خصوصًا الشباب – يرى أن المشروع الصهيوني فقد شرعيته الأخلاقية وأن اليهودية لا يمكن أن تستمر أخلاقيًا دون الإعتراف بالظلم الواقع على الفلسطينيين.
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟