أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حيدر صادق صاحب - العقل البشري العربي بين سندان التقاليد الاجتماعية ومطرقة الفكر الديني المتطرف















المزيد.....

العقل البشري العربي بين سندان التقاليد الاجتماعية ومطرقة الفكر الديني المتطرف


حيدر صادق صاحب
كاتب وشاعر شعبي

(Haider Sadeq Sahib)


الحوار المتمدن-العدد: 8548 - 2025 / 12 / 6 - 17:49
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مقدمة مهمة : في تشريح المعضلة الوجودية
يوجد العقل العربي في حالة من الجدل التاريخي المتواصل، حاملاً تراثاً فكرياً متراكماً عبر قرون، يعيش في اللحظة الراهنة تحت ضغط مزدوج: من جهة ثقل التقاليد الاجتماعية التي تشكل إطار الهوية والانتماء، ومن جهة أخرى صعود خطابات دينية متشددة ترفع شعارات التطهير والرجوع إلى الأصول. هذه المعادلة المعقدة تخلق حالة من الانزياح المعرفي والوجودي للعقل العربي، تجعله يتأرجح بين الانغلاق على الذات والانفتاح على العالم، بين الحنين إلى الماضي والخوف من المستقبل، بين الرغبة في التجديد والخوف من فقدان الهوية.

التقاليد الاجتماعية كسندان ثقيل
التقاليد الاجتماعية في العالم العربي ليست مجرد عادات موروثة، بل هي نظام معقد من الممنوعات والمسموحات، من القيم والأخلاق، من الأدوار والعلاقات. هذا النظام يشكل وعياً جمعياً يعمل غالباً خارج دائرة النقد والمساءلة. إنه يشبه الماء الذي يسبح فيه السمك، لا يراه ولا يشعر به إلا إذا خرج منه. التقاليد هنا ليست مجرد إرث، بل هي آلية حماية وجودية، طريقة للبقاء في عالم متغير. لكن هذه الآلية تحولت في كثير من الأحيان إلى قيد يحد من حركة العقل، إلى سجن أفقي لا سقف له لكن جدرانه غير مرئية.
في صميم هذه التقاليد تكمن مفارقة عميقة: فهي من ناحية تحفظ للجماعة تماسكها واستمراريتها، ومن ناحية أخرى تفرض على الفرد تنازلات متتالية عن حريته في التفكير والتعبير. العقل العربي يتعلم منذ الطفولة أن هناك مساحات محرمة، أسئلة لا تطرح، مواضيع لا تمس. هذا الحذر الوجودي يصبح مع الوقت سجية في طريقة التفكير، فالعقل لا يتعلم فقط ما يفكر فيه، بل يتعلم كيف يفكر، وما هي الحدود التي لا يتجاوزها.

الفكر الديني المتطرف كمطرقة تحطيم
في المقابل، يأتي الفكر الديني المتطرف ليس كتيار فكري بين تيارات أخرى، بل كمشروع شمولي يهدف إلى إعادة صياغة الوجود الإنساني برمته وفق رؤية أحادية. هذه الرؤية لا تكتفي بتقديم تفسير ديني للعالم، بل ترفض أي تفسير آخر. إنها تقوم على ثنائيات حادة: الإيمان والكفر، الحق والباطل، النقاء والتدنيس. هذه الثنائيات تخلق وعياً مانوياً يجعل العقل عاجزاً عن إدراك التعقيد، عاجزاً عن رؤية الظلال والدرجات بين الأبيض والأسود.
الأخطر في هذا الفكر المتطرف هو أنه لا يقدم نفسه كرأي بين آراء، بل كممثل للحقيقة المطلقة، كحامل لصوت السماء. هذا الادعاء يخلق إشكالية عميقة في العقل العربي: كيف يعارض صوتاً يدعي أنه صوت الله؟ كيف يناقش حقيقة تقدم نفسها على أنها وحي؟ هذه المعضلة تجعل النقد موقفاً وجودياً خطيراً، ليس مجرد اختلاف في الرأي، بل محاكمة مع الذات والهوية والإيمان.

نقطة الاصطدام: حيث يلتقي السندان بالمطرقة
في نقطة الالتقاء بين التقاليد الاجتماعية والفكر الديني المتطرف، يحدث اصطدام يولد أزمة وجودية للعقل العربي. التقاليد تمثل الاستمرارية، المتطرفون يدعون إلى القطيعة. التقاليد تقدم هوية مركبة، المتطرفون يقدمون هوية نقية. التقاليد تقبل التعدد والتدريج، المتطرفون يرفضون أي وسطية و هذا الاصطدام يخلق حالة من الانفصام في العقل العربي. من جهة، هناك حنين إلى الأمان الذي توفره التقاليد، إلى الدفء الجماعي، إلى الاستمرارية التاريخية. من جهة أخرى، هناك جاذبية لخطاب المتطرفين الذي يقدم يقيناً مطلقاً في عالم مليء بالشكوك، ويقدماً بطولياً في عالم يشعر فيه الإنسان العربي بالهامشية والعجز.

ميكانيزمات التأقلم والبقاء
في مواجهة هذا الضغط المزدوج، يطور العقل العربي آليات دفاعية معقدة للبقاء. منها الانشقاق الداخلي، حيث يقبل الفرد بالخطاب المتطرف في المجال العام، ويحتفظ بمساحة خاصة من الشك والنقد. منها الازدواجية اللغوية، حيث يستخدم لغة تقليدية في الخطاب الرسمي، ولغة حديثة في الفضاءات الخاصة. منها الانسحاب إلى المجالات غير السياسية، حيث يوجه العقل طاقته إلى الفن أو الأدب أو العلوم بعيداً عن السجالات العقائدية لكن هذه الميكانيزمات، رغم أنها تساعد في البقاء، إلا أنها تفرض ثمنها الباهظ. فهي تضعف قدرة العقل على التفكير النقدي المتسق، وتخلق حالة من الانفصام بين القناعات الداخلية والسلوك الخارجي، بين الخطاب والواقع. هذا الانفصام لا يبقى سلبياً، بل يتحول إلى مصدر للقلق الوجودي، للشعور بالنفاق الذاتي، لفقدان المعنى.

الأجيال الجديدة بين المطرقة والسندان
جيل الشباب العربي اليوم يعيش هذه المعضلة بشكل أكثر حدة. فهو جيل متصل بالعالم عبر الإنترنت، مطلع على ثقافات مختلفة، مشبع بقيم الحرية الفردية وحقوق الإنسان. لكنه في نفس الوقت يعيش في مجتمعات تحكمها تقاليد صارمة، وتواجه صعوداً خطاباً متطرفاً. هذا الجيل يحمل في داخله تناقضاً وجودياً: بين عالم الأفكار المفتوح الذي يعيشه في الفضاء الرقمي، وعالم الواقع المغلق الذي يعيشه في الشارع والبيت والمجتمع , هذا الجيل لا يبحث فقط عن حلول للمشاكل الاقتصادية والسياسية، بل يبحث عن إجابة لسؤال الهوية: من أنا؟ عربي، مسلم، إنسان عالمي؟ كيف أوائم بين هذه الانتماءات؟ كيف أكون وفياً لتراثي دون أن أكون أسيراً له؟ كيف أتعامل مع الدين كمعنى وجودي دون أن أقع في براثن التطرف؟

آفاق التحرر والخروج من المأزق
الخروج من هذا المأزق التاريخي يتطلب جرأة فكرية غير مسبوقة. يتطلب إعادة نظر جذرية في العلاقة بين التراث والحداثة، بين الدين والسياسة، بين الفرد والجماعة. لا يكفي التلفيق السطحي بين القديم والجديد، بل نحتاج إلى تأسيس عقل نقدي قادر على تمييز الغث من السمين في التراث، قادر على انتقاء ما يصلح للعصر من التقاليد، قادر على مقاومة إغراءات اليقين المطلق التي يقدمها المتطرفون.
هذا العقل النقدي لا ينبغي أن يكون عدواً للتراث أو للدين، بل يجب أن يكون صديقاً أميناً لهما. صديقاً يحفظ جوهرهما ويطهرهما من الشوائب التاريخية، من الاستغلال السياسي، من التحنيط الذي يحولهما إلى مجرد آثار متحفية. العقل النقدي هو الذي يستطيع أن يفرق بين الدين كتجربة روحية عميقة، وبين الخطاب الديني كبناء تاريخي قابلاً للنقد والتطوير.

نحو عقل عربي جديد
العقل العربي الجديد الذي نحتاجه ليس عقلاً منفصلاً عن تاريخه، بل عقلاً واعياً بهذا التاريخ، قادراً على قراءته قراءة نقدية، قادراً على تمييز الدرر من الحجر. ليس عقلاً معادياً للتقاليد، بل عقلاً قادراً على تطوير تقاليد حية، متجددة، قادرة على استيعاب المستجدات. ليس عقلاً معادياً للدين، بل عقلاً قادراً على فهم الدين فهماً إنسانياً، قادراً على تمييز الجوهر الروحي من القشور التاريخية.
هذا العقل العربي الجديد لن يولد من فراغ، بل هو نتيجة لتربية جديدة، لتعليم يعلّم التفكير النقدي لا التلقين، لخطاب ديني معتدل يقدس الحياة والكرامة الإنسانية، لمجتمع مدني قوي يحمي التنوع ويحترم الاختلاف. هو نتيجة لحوار جريء بين الأصالة والمعاصرة، بين الخصوصية والكونية.

الخلاصة: المعاناة كطريق إلى النضج
المعاناة التي يعيشها العقل العربي اليوم بين سندان التقاليد ومطرقة التطرف ليست لعنة محتومة، بل يمكن أن تكون طريقاً إلى نضج فكري غير مسبوق. الأزمات العميقة تولد وعياً عميقاً. الضغوط الهائلة تخلق قدرة على المقاومة والتجدد.
العقل العربي، برغم كل ما يعانيه، يحمل في داخله بذور تجدده. في تاريخه الطويل مرّ بأزمات أشد وخرج منها بإبداعات عظيمة. اليوم، وهو يواجه تحدي العولمة من جهة، وتحدي الهويات المغلقة من جهة أخرى، مدعو إلى إبداع طريقة وجودية جديدة، تجمع بين الأصالة والانفتاح، بين الانتماء والحرية، بين الإيمان والعقل.
هذه المهمة ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة. فهي تحدٍ يواجه كل الحضارات في عصرنا، لكنه يأخذ في الحالة العربية خصوصية تاريخية ووجودية تجعله أكثر إلحاحاً، وأكثر مصيرية. مصير العقل العربي هو، في النهاية، مصير الإنسان العربي في بحثه عن معنى لوجوده في عالم يتغير بسرعة، عن هوية تجمع بين الماضي والحاضر، عن حرية تحترم الانتماء، عن إيمان يتسع للعقل وللقلب معا



#حيدر_صادق_صاحب (هاشتاغ)       Haider_Sadeq_Sahib#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشروع الهيمنة: كيف يعيد الحزب الشيوعي كتابة قواعد اللعبة الع ...
- من بوح الجماعة إلى جنون الفرد: تشريح التحول في بنية القصيدة ...
- المحاصصة السياسية في العراق جذور عميقة وحلول غائبة
- سايكولوجية المواطن العربي - بين ثقل التاريخ وتحديات الحاضر
- السلوك الجمعي (سلوك القطيع): الآليات والتجليات والتداعيات
- الديالكتيك… حين يتكلّم العالم بلغته السرّية (نسخة موسّعة مع ...
- البطالة في العراق: تشخيص الواقع واستشراف الحلول المستقبلية ت ...
- حقوق الأقليات في العراق، من جميع الجوانب التاريخية والدستوري ...
- التصحر في العراق: أزمة تهدد الهوية وماهي الحلول المستقبلية ل ...
- اصلاح تدريجي ام ترقيع مؤقت ((رؤيا سياسية تحليلية لما يحصل في ...
- دور اليسار والقوى الوطنية في العراق
- الموضة وتاريخ نشأتها وتطورها
- مراحل وانماط التغيير الاجتماعي (( patterns of change ))
- معالجة انفسنا اولا واصلاح الذات والابتعاد عن معالجة اخطاء ال ...
- مصطلح الغباء والتراكمات التي يسببها
- نهر حبك نشف
- أخطاء وثغرات النص الشعري في الشعر الشعبي العراقي
- كيف نستقبل العام الدراسي الجديد ونستعد له
- جمهورية الموز ومعول الهدم المنظم !!
- الهشاشة النفسية اسبابها ونتائجها


المزيد.....




- كتاب مثير لساركوزي: هكذا عشت بالزنزانة وعرفت أهمية الجذور ال ...
- دعوة إلى إضراب عام في سوريا.. الطائفة العلوية تتحتج على سياس ...
- أندريه زكي يواصل جولته بالأردن: حوارات موسّعة حول واقع الكني ...
- قرى مسيحية بالشمال السوري تستقبل أهلها من جديد بعد سنوات الن ...
- من القاعدة إلى محاولة اغتيال السيسي.. كيف وظف الإخوان العنف؟ ...
- عودة المسيحيين إلى قراهم في شمال سوريا بعد سقوط نظام الأسد
- مسؤول لجنة التفكيك: الإخوان يسيطرون على الدولة السودانية
- نحمان شاي: إسرائيل مطالبة بإعادة تقييم علاقاتها مع يهود الشت ...
- دول عربية وإسلامية تستنكر خطة صهيونية في رفح
- روبيو يحذر : الإسلام الراديكالي لا يكتفي بخلافة صغيرة بل يسع ...


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حيدر صادق صاحب - العقل البشري العربي بين سندان التقاليد الاجتماعية ومطرقة الفكر الديني المتطرف