|
|
فلسفة نيتشه وظلال الرايخ الثالث: جدلية الإنسان الأعلى، التزوير الأرشيفي، وجذور الأيديولوجيا النازية
امير وائل المرعب
ماجستير هندسة كهرباء جامعة بغداد ومهتم بالادب والشعر والفلسفة والعلوم والرياضيات
(Amir Wael Abdulamir Murib)
الحوار المتمدن-العدد: 8543 - 2025 / 12 / 1 - 08:27
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مقدمة: نيتشه في قفص الاتهام التاريخي
تُشكل العلاقة بين الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900) والأيديولوجية القومية الاشتراكية (النازية) واحدة من أكثر الإشكاليات تعقيداً وجدلاً في تاريخ الفكر الغربي الحديث. إن السؤال الذي يطرحه هذا التقرير – "هل كان نيتشه بنظريته للإنسان الأعلى عنصرياً، وهل أسست كتبه لجذور النازية؟" – لا يستدعي إجابة بنعم أو لا فحسب، بل يتطلب تشريحاً دقيقاً لطبقات متعددة من النصوص الفلسفية، والسياقات التاريخية، وعمليات التلاعب الأرشيفي، والتأويلات السياسية المتصارعة. لقد تحول نيتشه، بعد وفاته، من فيلسوف "لا سياسي" أو "ضد سياسي" كما وصف نفسه، إلى "نبي" للرايخ الثالث في الدعاية النازية، ثم إلى مفكر وجودي وإنساني في القراءات الغربية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأخيراً إلى "متمرد أرستقراطي" رجعي في القراءات النقدية المعاصرة. يستقصي هذا التقرير، المستند إلى مسح شامل لأكثر من مائة مصدر أكاديمي ووثيقة تاريخية، الطبيعة الحقيقية لمفاهيم نيتشه المركزية مثل "الإنسان الأعلى" (Übermensch) و"إرادة القوة" (Wille zur Macht)، وكيف تم تحويرها لتخدم أجندات عنصرية بيولوجية كانت غريبة عن، بل ومتناقضة مع، النص النيتشوي الأصلي. كما يحلل التقرير الآليات المؤسسية والأكاديمية التي استخدمها النازيون، بقيادة ألفريد بويملر وبتواطؤ من شقيقة نيتشه إليزابيث فورستر، لتحويل الفلسفة النيتشوية إلى عقيدة دولة، مع تسليط الضوء على النقاشات الأكاديمية الراهنة التي تعيد تقييم ميول نيتشه النخبوية ومعاداته للديمقراطية كأرضية مهدت، ولو بشكل غير مباشر، لقبول الفاشية.
الفصل الأول: تشريح "الإنسان الأعلى" (Übermensch): بين السمو الروحي والتفسير البيولوجي
يقع مفهوم "الإنسان الأعلى" في بؤرة الجدل حول عنصرية نيتشه. لقد طرح نيتشه هذا المفهوم بشكل أساسي في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" (1883-1885) كاستجابة لأزمة "العدمية" التي استشرفها لأوروبا بعد "موت الإله".1 ومع ذلك، فإن المسافة الفاصلة بين القصد الفلسفي لنيتشه وبين الاستخدام الدعائي النازي للمصطلح تمثل هوة سحيقة من سوء الفهم المتعمد.
1.1 الجينالوجيا الفلسفية للمفهوم: تجاوز الذات كبديل للعدمية
في السياق الفلسفي الدقيق، لا يشير "الإنسان الأعلى" (Übermensch) عند نيتشه إلى سلالة عرقية أو نوع بيولوجي مستقبلي، بل يمثل مثلاً أعلى للتحول الروحي والوجودي. يصف نيتشه الإنسان الحالي بأنه "حبل ممدود بين الحيوان والإنسان الأعلى"، مؤكداً أن الإنسان "شيء يجب تجاوزه".1 هذا التجاوز (Selbstüberwindung) ليس تطوراً داروينيًا حتميًا، بل هو مشروع فردي شاق لخلق قيم جديدة في عالم فقد يقينياته الميتافيزيقية.2 يرتبط "الإنسان الأعلى" ارتباطاً وثيقاً بمفاهيم "تأكيد الحياة" و"العود الأبدي". إنه الفرد الذي يمتلك الشجاعة لقول "نعم" للوجود بكل ما فيه من معاناة وألم، دون اللجوء إلى "عوالم ما ورائية" أو تعازي دينية.4 يؤكد الباحثون، مثل والتر كوفمان، أن هذا المفهوم يركز على "السيادة على الذات" (Self-mastery) وتسامي الغرائز، وليس على "السيادة على الآخرين" أو استعبادهم، وهو ما يتناقض جذرياً مع الصورة النمطية للوحش الأشقر الذي يسحق الضعفاء.3 علاوة على ذلك، يطرح نيتشه "الإنسان الأعلى" كنقيض لـ "الإنسان الأخير" (The Last Man)، وهو نمط البشر الذي يخشاه نيتشه: الكائنات الخاملة، الساعية للراحة والأمان والرفاهية المادية التافهة، والتي تفتقر إلى أي طموح عظيم أو قدرة على الإبداع.3 بهذا المعنى، فإن "الإنسان الأعلى" هو مشروع ثقافي وروحي يهدف إلى إنقاذ الحضارة من التسطيح والعدمية، وليس مشروعاً بيولوجياً لتنقية العرق.
1.2 "الوحش الأشقر": استعارة الأسد أم العرق الآري؟
إحدى أكثر النقاط التي استغلها النازيون، والتي لا تزال تثير الجدل، هي استخدام نيتشه لمصطلح "الوحش الأشقر" (blond beast) في كتاب "جينالوجيا الأخلاق". في القراءة السطحية أو المؤدلجة، يبدو المصطلح إشارة مباشرة للعرق الآري الشمالي. ومع ذلك، يكشف التحليل النصي الدقيق أن نيتشه يستخدم هذا الوصف كاستعارة لـ "الأسد" (رمز القوة والطاقة الحيوية غير المقيدة) وليس للإشارة إلى عرق بشري محدد ذي شعر أشقر.6 تُظهر النصوص أن نيتشه يطبق وصف "الوحش الأشقر" على طبقات النبلاء والمحاربين عبر التاريخ بغض النظر عن عرقهم، بمن في ذلك النبلاء العرب، واليابانيين، والرومان، وليس فقط القبائل الجرمانية القديمة.2 في الواقع، يسخر نيتشه في نفس النصوص من الألمان المعاصرين، مؤكداً أنه لا توجد أي صلة قرابة مفاهيمية أو بيولوجية بينهم وبين تلك القبائل الجرمانية القديمة.6 إن "الشقرة" هنا ترمز إلى "حيوانية" القوة والطاقة الكامنة في الطبقات الأرستقراطية البدائية قبل أن يتم "تدجينها" بواسطة الأخلاق الكهنوتية، وليست سمة فينوتيبية (مظهرية) تمجد العرق الجرماني.7
1.3 التحريف النازي: من "تجاوز الذات" إلى "السيد الآري"
على الرغم من هذا الأساس الفلسفي، قامت الماكينة الأيديولوجية النازية بعملية "سطو مفاهيمي" ممنهجة. تم تجريد "الإنسان الأعلى" من أبعاده الروحية والفردية، وإعادة تعبئته بمحتوى بيولوجي عنصري يتوافق مع نظريات "الدم والتربة" (Blut und Boden). أصبح "الإنسان الأعلى" في الخطاب النازي مرادفاً لـ "Herrenmensch" (إنسان السادة) أو العضو في "العرق السيد" (Master Race)، وتم توظيفه لتبرير السياسات الاستعمارية والإبادية.9 في المدارس النازية ومواد التدريب الخاصة بفرق النخبة (SS)، تم تدريس نيتشه (أو بالأحرى مقتطفات منتقاة بعناية منه) كبشير بظهور الجندي الألماني الذي لا يقهر.11 الجدول التالي يوضح الفروق الجوهرية بين المفهوم النيتشوي الأصلي والتأويل النازي كما تظهره الدراسات المقارنة:
البعد التحليلي مفهوم نيتشه (الإنسان الأعلى) التأويل النازي (السيد الآري) الجوهر تطور روحي، وجودي، وثقافي فردي 1 تفوق بيولوجي، جيني، وجماعي 9 الآلية "تجاوز الذات" وتسامي الغرائز (Sublimation) 5 "نقاء الدم" والانتخاب الطبيعي الدارويني القاسي 2 النطاق فردي نخبوية (الفرد المبدع ضد القطيع) 8 قومي جماعي (الشعب الألماني ضد الأعراق الأخرى) 8 الموقف من الدولة معادٍ للدولة ("الدولة هي أبرد المسوخ") 8 تقديس الدولة الشمولية والولاء الأعمى للزعيم 12 الهدف النهائي خلق قيم جمالية وثقافية جديدة 13 الهيمنة العسكرية والسياسية العالمية 14
يخلص التحليل هنا إلى أن نظرية "الإنسان الأعلى"، في بنيتها الأصلية، لم تكن عنصرية بالمعنى البيولوجي الحديث، بل كانت نقدًا ثقافيًا جذريًا. ومع ذلك، فإن غموض لغة نيتشه، واستخدامه لاستعارات حربية وبيولوجية (مثل "التكاثر"، "التهجين"، "الوحش")، وفر الثغرات اللازمة للأيديولوجيين العنصريين لملء هذه القوالب بمحتواهم الخاص.
الفصل الثاني: هندسة التزوير: إليزابيث فورستر-نيتشه وجريمة الأرشيف
لا يمكن فهم التجذير التاريخي للنازية في نصوص نيتشه دون تفكيك الدور المحوري والتخريبي الذي لعبته شقيقته، إليزابيث فورستر-نيتشه. لم تكن إليزابيث مجرد وصية على التركة الأدبية، بل كانت "مهندسة" نشطة لإرث أخيها، حيث قامت بتطويع نصوصه لتناسب قناعاتها الشخصية المعادية للسامية والقومية المتطرفة.
2.1 الخيانة العائلية: نيتشه في مواجهة معاداة السامية
تشير الوثائق التاريخية بوضوح إلى الهوة السحيقة بين نيتشه وشقيقته فيما يتعلق بالمسألة اليهودية. بينما كانت إليزابيث متزوجة من برنارد فورستر، أحد أبرز دعاة معاداة السامية في ألمانيا ومؤسس مستعمرة "ألمانيا الجديدة" (Nueva Germania) في باراغواي التي هدفت لإنشاء مجتمع آري نقي، كان نيتشه يعبر عن اشمئزازه الصريح من هذه الأفكار.15 في رسائله، وصف نيتشه شقيقته بـ "اللاما التي ذهبت لتعيش بين معادين للسامية"، وكتب بوضوح: "أنا لا أغفر لفاغنر أنه أصبح ألمانيًا إمبراطوريًا (Reichs-deutsch)"، منتقدًا انزلاق فاغنر نحو القومية ومعاداة السامية.8 بل إن نيتشه ذهب إلى أبعد من ذلك في سنواته الأخيرة (قبل الانهيار العقلي وأثناءه) بكتابة عبارات مثل: "يجب إطلاق النار على كل معادٍ للسامية".5 هذا الرفض القاطع لمعاداة السامية يجعل من محاولة تصويره كعنصري بيولوجي مفارقة تاريخية صارخة، لولا التدخل اللاحق لشقيقته.
2.2 صناعة "إرادة القوة": الكتاب الذي لم يكتبه نيتشه
تكمن الجريمة الأدبية الكبرى لإليزابيث في نشر كتاب "إرادة القوة" (The Will to Power) في عام 1901 (ثم طبعات موسعة لاحقاً)، وتقديمه للعالم على أنه العمل الرئيسي (Magnum Opus) الذي يمثل خلاصة فكر نيتشه.18 كشفت الأبحاث الفيلولوجية الدقيقة التي قام بها العالمان الإيطاليان مازينو مونتيناري وجورجيو كولي في ستينيات القرن العشرين أن هذا الكتاب هو في الواقع "تزوير تاريخي".20 حقيقة النص: كان "إرادة القوة" مجرد تجميع انتقائي لملاحظات غير منشورة، ومسودات مهملة، ودفاتر ملاحظات تخلى نيتشه عن مشروع تنظيمها في كتاب واحد قبل انهياره.18 منهجية التزوير: قامت إليزابيث، بمساعدة بيتر غاست، بإعادة ترتيب هذه الشذرات لتخلق تسلسلاً منطقياً يخدم فكرة "النظام الفلسفي المتماسك" الذي يمجّد القوة والهيمنة، وهو ما يتناقض مع أسلوب نيتشه التجريبي والمفكك.19 التلاعب النصي: الأخطر من ذلك هو الحذف والتعديل. أثبت مونتيناري أن إليزابيث حذفت فقرات كاملة تتعارض مع أفكارها. على سبيل المثال، في مسودة تناقش "الحق في الحياة"، حذفت إليزابيث جملة توضيحية لنيتشه يقول فيها: "أنا لا أعطي الحق حتى للمشوهين" (في سياق جدلي معقد)، مما جعل النص المتبقي يبدو وكأنه دعوة عامة ومفتوحة لإبادة الضعفاء، بينما كان النص الأصلي يحمل سياقات دقيقة حول "الشعوب المشوهة" (بالمعنى الثقافي) تم بترها.22 كما زورت رسائل لتوحي بأن نيتشه كان يبارك مشاريعها الاستعمارية في باراغواي، بينما كان في الواقع يسخر منها.23
2.3 التحالف المقدس: أرشيف فايمار كمعبد للنازية
حولت إليزابيث "أرشيف نيتشه" في فايمار إلى مركز لاستقطاب القوميين المتطرفين والنازيين. بلغت هذه العلاقة ذروتها في زيارات أدولف هتلر للأرشيف. في عام 1934، التقطت صور لهتلر وهو يحدق بخشوع في تمثال نيتشه النصفي، وأهدته إليزابيث عصا المشي الخاصة بنيتشه، مما كرس رمزيًا نيتشه كـ "الأب الروحي" للحركة النازية.9 هذا التحالف لم يكن فكرياً بقدر ما كان نفعياً؛ فقد احتاج هتلر (الذي يُرجح أنه لم يقرأ نيتشه بعمق أو قرأ مقتطفات منتقاة فقط) إلى غطاء ثقافي وفلسفي رفيع لأيديولوجيته الغوغائية، ووجد في إليزابيث الحليف المثالي الذي قدم له "نيتشه منقحاً" ومفصلاً على مقاس "الرايخ".5 لقد سمح هذا التزوير للأيديولوجيا النازية بتبني مصطلحات نيتشه (السيد، الحرب، القوة) مع تفريغها من محتواها النقدي المعادي للقومية الألمانية.
الفصل الثالث: ألفريد بويملر والجامعة النازية: مأسسة التحريف
إذا كانت إليزابيث قد وفرت "المادة الخام" المزورة، فإن الفيلسوف النازي ألفريد بويملر (Alfred Baeumler) هو الذي وفر "الإطار النظري" الأكاديمي الذي سمح بدمج نيتشه في منظومة التعليم والدعاية النازية. يمثل بويملر الحلقة المفقودة التي تفسر كيف تحول فيلسوف يكره الألمان إلى نبي للألمان.
3.1 بويملر وتأويل "الواقعية البطولية"
في كتابه المؤثر "نيتشه: الفيلسوف والسياسي" (1931)، صاغ بويملر تفسيراً لنيتشه يتجاهل تماماً الجوانب التدميرية والشكوكية في فلسفته، ويركز حصرياً على الجوانب "الإيجابية" المتعلقة بالقوة والإرادة.25 جادل بويملر بأن نيتشه لم يكن مجرد ناقد للأخلاق، بل كان نبيًا لـ "واقعية بطولية" (Heroic Realism) جديدة تتجسد في الجندي الألماني.26 أكد أن مفهوم "إرادة القوة" هو التعبير الميتافيزيقي عن المصير الألماني والهيمنة الإمبريالية، معتبراً أن نقد نيتشه للألمان في كتبه السابقة كان مجرد "نقد للمحب" يهدف لاستنهاض الهمم، أو يجب تجاهله لصالح "النصوص السياسية" (التي هي في الغالب نصوص "إرادة القوة" المزورة).10
3.2 الانتقائية الممنهجة: نيتشه كمعادٍ للسامية "بالضرورة"
واجه بويملر والمنظرون النازيون مشكلة واضحة: عداء نيتشه الصريح لمعاداة السامية. لحل هذه المعضلة، تبنى بويملر استراتيجية "الفصل التعسفي". زعم بويملر أن نيتشه، في أعماقه، كان يكره اليهودية كعقيدة "كهنوتية" مسؤولة عن المسيحية وانحطاط أوروبا، وأن دفاعه العرضي عن اليهود كان مجرد نكاية في المسيحيين الألمان في عصره.27 قام بويملر وروزنبرغ (منظر النازية الآخر) بالتركيز على نقد نيتشه لـ "أخلاق العبيد" اليهودية في جينالوجيا الأخلاق، وتجاهلوا تماماً نصوصه التي تمدح اليهود المعاصرين وتدعو لدمجهم في النخبة الأوروبية.26 تمت مأسسة هذا التفسير من خلال المناهج الدراسية والمنشورات الحزبية، حيث تم تقديم نيتشه كعدو للماركسية، والديمقراطية، واليهودية (باعتبارها أصل البلشفية والمسيحية)، مما جعل فلسفته تبدو متطابقة مع أهداف الحزب النازي.11
3.3 المعارضة داخل البيت النازي
من المهم الإشارة إلى أن النازية لم تكن كتلة صماء في تبنيها لنيتشه. كان هناك تيار محافظ ومتشدد داخل الحزب ومؤيدو المسيحية الألمانية (German Christians) الذين نفروا من إلحاد نيتشه وعدائه للمسيحية. شخصيات مثل كورت فون ويسترنهاغن (Curt von Westernhagen) وبعض الأيديولوجيين العنصريين شككوا في صلاحية نيتشه كمرجعية، نظراً لعدم التزامه بالنقاء العرقي.29 حتى ألفريد روزنبرغ، رغم استخدامه لنيتشه، كان يفضل أحياناً مفكرين أكثر التزاماً بالعقيدة العرقية مثل لاغارد وتشامبرلين.31 ومع ذلك، انتصر الخط الذي قاده بويملر وإليزابيث، لأن نيتشه كان يتمتع بشهرة عالمية وبريق ثقافي تحتاجه النازية لإضفاء الشرعية الفلسفية على مشروعها الهمجي.29
الفصل الرابع: نيتشه والمسألة اليهودية: هل كان عنصرياً؟
للإجابة الدقيقة على سؤال العنصرية، يجب التمييز بين موقف نيتشه من "اليهودية" كديانة وتاريخ، وموقفه من "اليهود" كشعب ومكون اجتماعي في أوروبا الحديثة.
4.1 نقد اليهودية: "انتفاضة العبيد"
نقد نيتشه لليهودية هو نقد "جينالوجي" (تاريخي-أخلاقي) وليس نقداً بيولوجياً عرقياً. في جينالوجيا الأخلاق، يصف نيتشه اليهود القدامى (الكهنة) بأنهم "أخطر شعب في التاريخ" لأنهم قادوا "انتفاضة العبيد في الأخلاق".7 يرى نيتشه أنهم قلبوا المعادلة القيمية القديمة (القوي=الخير) واستبدلوها بمعادلة جديدة (الضعيف/المتواضع=الخير)، وذلك بدافع "الحقد" (Ressentiment) تجاه الأقوياء والنبلاء.33 هذا التحليل، رغم قسوته، موجه ضد الدور التاريخي في تشكيل الأخلاق المسيحية الأوروبية (التي يكرهها نيتشه أكثر)، وليس ضد السمات العرقية لليهود. في الواقع، يعترف نيتشه بعبقرية وقوة هذا الفعل "الكهنوتي" كنوع من "إرادة القوة" الروحية الهائلة.35
4.2 المديح "المحرم": اليهود كقوة أوروبية
على النقيض من النازية التي اعتبرت اليهود "طفيليات" يجب استئصالها، رأى نيتشه في اليهود المعاصرين "أقوى عرق في أوروبا" وأكثرهم نقاءً وثباتاً.28 في ما وراء الخير والشر، يمتدح نيتشه صمود اليهود وقدرتهم على البقاء رغم أسوأ الظروف، ويقترح بجرأة أن الحل لمستقبل أوروبا يكمن في دمج النخبة اليهودية مع النخبة الأرستقراطية البروسية لإنتاج طبقة حاكمة أوروبية جديدة ومتفوقة.28 هذا الاقتراح بـ "التمازج" (Miscegenation) هو النقيض المطلق لقوانين نورمبرغ النازية التي حرمت اختلاط الدم. عارض نيتشه بشدة فكرة "الأممية" الضيقة، وكان يرى نفسه "أوروبياً صالحاً" (Good European) وليس ألمانياً، محتقراً القومية الألمانية التي وصفها بـ "الجرب القومي" (national scabies).38
4.3 مفهوم "العرق" عند نيتشه
لم يكن مفهوم "العرق" (Rasse) عند نيتشه بيولوجياً داروينياً ثابتاً، بل كان مفهوماً تاريخياً ثقافياً. "العرق" بالنسبة له هو نتاج لممارسات ثقافية وتربية طويلة الأمد. يمكن "صناعة" عرق قوي من خلال الانضباط والتربية (Züchtung)، ويمكن لعرق أن ينحط. لذا، فإن عنصريته – إن جاز التعبير – كانت "عنصرية الروح" و"عنصرية الثقافة" التي تحتقر الضعف والابتذال أينما وجد (حتى بين الألمان)، وتبجل القوة والنبالة أينما وجدت (حتى بين العرب أو اليهود).6
الفصل الخامس: "المتمرد الأرستقراطي": القراءة النقدية الحديثة (نقد لوسوردو)
بعد الحرب العالمية الثانية، ساد اتجاه "تبرئة نيتشه" (مدرسة والتر كوفمان) الذي صور نيتشه كإنساني وجودي تم تشويهه بالكامل من قبل النازيين. ومع ذلك، ظهرت في العقود الأخيرة دراسات نقدية قوية، أبرزها للمؤرخ دومينيكو لوسوردو في كتابه نيتشه: المتمرد الأرستقراطي، تتحدى هذه "الهرمينوطيقا البريئة" (Hermeneutics of Innocence).
5.1 نيتشه ليس "برئيًا" تمامًا
يجادل لوسوردو بأن التركيز على تزوير إليزابيث وبويملر لا يجب أن يحجب حقيقة أن نصوص نيتشه الأصلية تحتوي على عناصر "راديكالية أرستقراطية" وفرت أرضية خصبة للفاشية، حتى لو لم يقصد نيتشه الفاشية بمعناها الحزبي.40 الدفاع عن العبودية: تشير الدراسات إلى أن نيتشه لم يستخدم "العبودية" دائماً كمجاز. في عدة نصوص، دافع عن ضرورة وجود طبقة مسحوقة تعمل لخدمة "النخبة المبدعة"، معتبراً أن "العبودية تنتمي لجوهر الثقافة".42 انتقد نيتشه الحركات التحررية (إلغاء الرق، الاشتراكية، الديمقراطية) واعتبرها علامات انحطاط وتراجع للنبالة.42 "السياسة الكبرى" (Great Politics): دعا نيتشه إلى "سياسة كبرى" تهدف لتوحيد أوروبا تحت قيادة نخبة أرستقراطية جديدة، تكون مستعدة للتضحية بالملايين من "الضعفاء" و"الفاشلين" (the botched and bungled) في سبيل خلق إنسان أرقى.44
5.2 التقاطع مع الفاشية: العداء للمساواة
بينما اختلف نيتشه مع النازية في "القومية" و"البيولوجيا"، التقى معها في "العداء للمساواة" و"احتقار الديمقراطية" و"تمجيد الحرب" (كقيمة جمالية ووجودية). يؤكد لوسوردو أن نيتشه كان فيلسوف "الثورة المضادة" بامتياز، الذي سعى لتقويض تراث الثورة الفرنسية (المساواة، الإخاء، الحرية).46 هذا العداء الجذري للمساواة وحقوق الإنسان هو الذي جعل النازيين، رغم اختلافهم مع تفاصيل نيتشه، يجدون في "روحه" العامة حليفاً قوياً ضد الليبرالية والشيوعية. النازية لم تحتج لتزوير كل شيء؛ لقد وجدت في نخبويته القاسية مادة خاماً جاهزة للاستخدام.47
5.3 "أنا آخر ألماني ضد-سياسي"
في هذا السياق، يجب فهم عبارة نيتشه "أنا آخر ألماني ضد-سياسي" (anti-political). لم يكن يعني أنه منعزل عن الشأن العام، بل كان يعني رفضه للسياسة "الصغيرة" (سياسة الأحزاب، البرلمانات، والقوميات الضيقة) لصالح سياسة "كبرى" تشكل مصير البشرية وتتجاوز الدولة القومية.42 النازية، بمفارقة ساخرة، تبنت هذا الطموح لـ "إعادة تشكيل العالم"، لكنها فعلت ذلك عبر "الدولة القومية" التي احتقرها نيتشه، وعبر "الجماهير" التي ازدراها.
الفصل السادس: الاستنتاجات والتوليف النهائي
بناءً على التحليل المفصل في الفصول السابقة، يمكننا تقديم إجابة مركبة ودقيقة على تساؤلات التقرير:
1. هل كان نيتشه بنظريته للإنسان الأعلى عنصرياً؟
من منظور البيولوجيا النازية: لا. كان "الإنسان الأعلى" مشروعاً لتجاوز الذات وخلق القيم، وكان نيتشه يسخر من فكرة النقاء العرقي الألماني ويدعو لتمازج الأعراق الأوروبية (بما في ذلك اليهود). من منظور النخبوية الأرستقراطية: نعم، بشكل مغاير. كان نيتشه "عنصرياً ثقافياً" ونخبوياً راديكالياً يؤمن بتفاوت جوهري بين البشر (سادة وعبيد) وبحق النخبة في استغلال الكثرة. هذه "العنصرية الروحية" لم تكن موجهة ضد عرق محدد، بل ضد "الدهماء" و"القطيع" من كل الأعراق.
2. هل خلقت كتبه جذور النازية في ألمانيا؟
الدور المباشر (التأسيسي): لا. لم يؤسس نيتشه النازية، وكانت فلسفته في جوهرها معادية للركائز الأساسية للنازية (القومية، الدولة، معاداة السامية، الشعبوية). الدور غير المباشر (الوظيفي): نعم. وفرت كتابات نيتشه، بلغتها الملحمية وتمجيدها للقوة واحتقارها للرحمة والمساواة، "ترسانة بلاغية" وجمالية مكنت النازيين من إضفاء طابع فلسفي عميق على همجيتهم. عامل التشويه: كان هذا "التجذير" ممكناً فقط من خلال عملية تزوير نشطة قادتها شقيقته إليزابيث ونظر لها بويملر. لولا هذا التزوير الذي حول نيتشه من "ناقد لألمانيا" إلى "نبي لألمانيا"، لما تمكنت النازية من استيعابه بسهولة. الخلاصة: لم يكن نيتشه نازياً، بل كان ضحية لأكبر عملية اختطاف فكري في القرن العشرين. ومع ذلك، لا يمكن تبرئته تماماً من المسؤولية الفكرية؛ فقد زرع في الفكر الأوروبي "ديناميت" نقد الأخلاق والمساواة، وهو الديناميت الذي استخدمه النازيون لتفجير الحضارة الأوروبية، وإن كان لأهداف لم يكن نيتشه ليوافق عليها أبداً. إن مأساة نيتشه تكمن في أن "الإنسان الأعلى" الذي حلم به كخالق للقيم، تم مسخه تاريخياً ليصبح الجلاد الذي يرتدي زي الـ SS. إخلاء مسؤولية: يستند هذا التقرير إلى تحليل المصادر التاريخية والفلسفية الواردة في مقتطفات البحث 1، ويمثل قراءة تركيبية للأدبيات الأكاديمية المتخصصة في دراسات نيتشه وتاريخ الفكر الألماني.
تمير وائل المرعب
#امير_وائل_المرعب (هاشتاغ)
Amir_Wael_Abdulamir_Murib#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انشتاين فيلسوف وليس عالم رياضيات
-
ميتافيزيقا الجمع: من البوابات المنطقية إلى مفارقات اللانهاية
...
-
علاقة حقيقة الوحي باثار الهلال الخصيب العراق والشام
-
الحتمية البايوكيميائية لانفلاق التناظر الفائق العظيم
-
مناشدة انقذوا السودان الحبيب
-
التجريد السير وراء ظل الاشياء ( مقال مشترك)
-
التجاوريات وسرعة الهدم
-
ميزان العدالة في كونٍ تحكمه الفوضى
-
وهم الامة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة
-
الشروك واعادة رسم المشهد السياسي العراقي بعد 2003
-
هل كانت توجد امة عربية حقا
-
سؤال الوجود دالة ام علاقة؟
-
انتخابات العراق
-
من سومر الى عرب الاهوار
-
نقد الفكرة غير نقد الشخص
-
تحت مشرط النقد
-
رحل وعي من لينين الى نظرية الوتار والوعي الكمي للمادة
-
حلزون الوجود - نص تاملي
-
“الصورة التي غيّرت كل شيء”
-
صفقة تيك توك: تحليل استراتيجي للسيطرة على السردية في الساحة
...
المزيد.....
-
عمليات أمريكية سورية تستهدف منشآت تخزين تابعة لتنظيم -الدولة
...
-
بابا الفاتيكان يدعو اللبنانيين إلى السير في -طريق المصالحة ا
...
-
تركيا أولا.. ما سر زيارة بابا الفاتيكان الجديد إلى أنقرة؟
-
الرئيس بزشكيان يدعو لتعزيز العلاقات والتكامل الاستراتيجي بين
...
-
الأنبا إبراهيم إسحق يشارك في اللقاء الرسمي لبابا الفاتيكان ب
...
-
بابا الفاتيكان للبنانيين: أنتم شعب لا يستسلم ويصمد أمام الصع
...
-
بعد تكهنات بتقديم نسخة من القرآن.. بري يهدي كتابا عن وجود ال
...
-
بابا الفاتيكان ليو الرابع عشر يبدأ زيارة تاريخة إلى لبنان
-
الرئيس اللبناني خلال استقباله لبابا الفاتيكان: أبلغوا العالم
...
-
قوات الاحتلال تحتجز مواطنة غرب سلفيت
المزيد.....
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
/ سامي الذيب
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
المزيد.....
|