|
انتخابات العراق
امير وائل المرعب
ماجستير هندسة كهرباء جامعة بغداد ومهتم بالادب والشعر والفلسفة والعلوم والرياضيات
(Amir Wael Abdulamir Murib)
الحوار المتمدن-العدد: 8493 - 2025 / 10 / 12 - 10:22
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المعضلة العراقية: المشاركة الانتخابية، الفصائل المسلحة، والسعي نحو دولة ذات سيادة مقدمة يواجه العراق اليوم معضلة استراتيجية عميقة، تتمثل في الصراع المحتدم بين مشروع بناء دولة حديثة ذات سيادة تحتكر استخدام القوة، وبين الواقع المتمثل في وجود فواعل مسلحة شبه دولتية، متجذرة بعمق في النسيج السياسي والاقتصادي والأمني للبلاد. وفي قلب هذا الصراع، يبرز انقسام حاد بين المواطنين العراقيين الساعين إلى الإصلاح الجذري حول الاستراتيجية المثلى لتحقيق هذا الهدف. فمن جهة، هناك دعوة للمشاركة الانتخابية الكثيفة لدعم البدائل المدنية والعلمانية، على أمل إحداث التغيير من داخل المنظومة السياسية القائمة. ومن جهة أخرى، هناك تيار يدعو إلى مقاطعة الانتخابات كوسيلة لنزع الشرعية عن النظام، ومن ثم اللجوء إلى الاحتجاجات الشعبية لفرض تغيير خارج الأطر الدستورية. لقد تأسس النظام السياسي العراقي بعد عام 2003 على مبدأ المحاصصة الطائفية والإثنية (المحاصصة)، وهو نظام أدى إلى نشوء طبقة سياسية تعتمد في بقائها على الولاءات الطائفية وشبكات المحسوبية، بدلاً من الكفاءة والبرامج الوطنية. هذا النظام لم يفشل في تقديم الخدمات الأساسية ومكافحة الفساد فحسب، بل خلق أيضاً البيئة التي ازدهرت فيها الفصائل المسلحة، لتتحول من مجرد جماعات أمنية إلى إمبراطوريات سياسية واقتصادية تنافس الدولة نفسها على مواردها وسلطتها. يسعى هذا التقرير إلى تقديم تحليل شامل وموضوعي لهذه المعضلة المعقدة. سيبدأ بفحص البدائل العلمانية والمدنية المقترحة كحل انتخابي، وتقييم برامجها وقدرتها على حشد الدعم الشعبي. بعد ذلك، سيقدم تحليلاً معمقاً لهيئة الحشد الشعبي، متجاوزاً التوصيفات الأحادية لاستكشاف وضعه القانوني، وتركيبته الديموغرافية، وانقساماته الداخلية، وقوته الاقتصادية الهائلة. ثم ينتقل التقرير لتقييم استراتيجيتي المشاركة الانتخابية والمقاطعة والاحتجاج، مستنداً إلى البيانات التاريخية ونتائج التجارب السابقة. وأخيراً، سيجمع هذه الخيوط معاً لتحليل أزمة الشرعية التي يعاني منها النظام، وكيف يتشابك الصراع الداخلي مع التأثيرات الديموغرافية والتدخلات الإقليمية والدولية، ليقدم رؤية متكاملة حول المسارات الممكنة لمستقبل العراق. القسم الأول: البديل العلماني: دراسة في برامج القوى السياسية المدنية يستعرض هذا القسم بالتحليل النقدي القوى السياسية التي تُطرح كبديل للنظام القائم، ويفحص برامجها وتاريخها وجدواها الانتخابية في مواجهة المنظومة السياسية الراسخة. تحدي نظام المحاصصة منذ تأسيس النظام السياسي الجديد بعد عام 2003، ظهرت حركات سياسية مدنية وعلمانية بشكل متكرر، حاملةً برنامجاً سياسياً ثابتاً يهدف إلى بناء دولة مواطنة غير طائفية، تقوم على أساس الكفاءة وسيادة القانون. هذا الطرح يمثل تحدياً مباشراً لنظام المحاصصة المهيمن الذي ثبت فشله وعجزه. وقد شهدت الساحة السياسية تشكيل تحالفات مثل "التحالف المدني الديمقراطي" في انتخابات 2014، والذي ضم الحزب الشيوعي العراقي وقوى ديمقراطية أخرى، وتطور لاحقاً ليشمل كيانات أوسع. وعلى الرغم من استمرارية هذا الخطاب، إلا أن هذه التحالفات واجهت صعوبات جمة في تحقيق نجاح انتخابي كبير، مما يمهد لفهم العقبات الهيكلية العميقة التي تعترض طريقها. لمحة عن تحالف "البديل" التكوين والأهداف: تشكل تحالف "البديل" كائتلاف يضم غالبية الأحزاب والقوى المدنية، بما في ذلك الحزب الشيوعي العراقي، بهدف صريح هو مواجهة "الإطار التنسيقي" الذي يمثل القوى الشيعية التقليدية ونفوذها في الدولة. يرفع التحالف شعارات نبذ الطائفية وتعزيز المواطنة والعدالة، ويسعى لتقديم مرشحين يمثلون تطلعات الشباب والطبقات المهمشة بعيداً عن قوالب المحاصصة التقليدية. الموقف من سيادة الدولة والجماعات المسلحة: يمثل هذا الجانب حجر الزاوية في برنامج التحالف. يدعو "البديل" بشكل لا لبس فيه إلى "حصر السلاح بيد الدولة" وإنهاء ظاهرة الأجنحة المسلحة للأحزاب والمكاتب الاقتصادية التابعة لها. وتؤكد تصريحات أعضاء التحالف أن وجود سلاح خارج إطار الدولة هو العائق الأساسي أمام تحقيق أي استقرار أو أمن أو تنمية أو سيادة في العراق. ومع الاعتراف بالوضع القانوني لهيئة الحشد الشعبي، يشدد التحالف على ضرورة خضوعها الكامل لسلسلة القيادة العسكرية للدولة العراقية، وأن أي حديث خارج هذا السياق هو ضرب للدستور والقانون. الاستراتيجية الانتخابية: يطمح التحالف إلى تجميع أصوات الناخبين المدنيين، بالإضافة إلى استقطاب الناخبين المحبطين من الكتل التقليدية، بما في ذلك أنصار التيار الصدري الذين قد يبحثون عن خيار بديل في ظل مقاطعة تيارهم للانتخابات. ويضع التحالف هدفاً طموحاً يتمثل في الحصول على ما يقارب 50 مقعداً برلمانياً، وهو ما سيتم تقييمه لاحقاً في ضوء الأداء التاريخي للقوى المدنية. لمحة عن تحالف "زاخو - الفاو" هوية وطنية عابرة للمناطق: يعكس اسم التحالف، الذي يربط رمزياً بين مدينة زاخو في أقصى شمال كردستان العراق وميناء الفاو في أقصى جنوبه، محاولة متعمدة لتجاوز الانقسامات الطائفية والإثنية وتقديم هوية وطنية جامعة. ويتمحور برنامج التحالف حول تشكيل "حكومة مهنية لا حكومة محاصصات"، بقيادة كفاءات وطنية بعيداً عن الأحزاب التقليدية. نقد المؤسسة السياسية: يتبنى التحالف خطاباً نقدياً حاداً ضد الأحزاب التقليدية، واصفاً إياها بـ "الفاشلة" والمسؤولة عن تحويل الدولة إلى أداة لخدمة فئات متنفذة على حساب المواطن العراقي. هذا الخطاب مصمم لجذب الناخبين الذين يشعرون بالاغتراب عن النظام السياسي القائم منذ عام 2003. الموقف من الجماعات المسلحة: يتخذ التحالف موقفاً صارماً لا يقبل المساومة، حيث يؤكد قادته أنه "لا استقرار، لا أمن، لا تنمية، لا سيادة... بوجود سلاح خارج إطار الدولة". ويمتد هذا النقد ليشمل قوات البشمركة في إقليم كردستان، حيث يرى التحالف أنها لا تلتزم دائماً بأوامر القائد العام للقوات المسلحة، مما يظهر تطبيقاً متسقاً لمبدأ حصر السلاح بيد الدولة الاتحادية، وإن كان هذا الموقف يحمل مخاطر سياسية في علاقته مع القوى الكردية. لمحة عن محمد توفيق علاوي والتكنوقراط المستقلين التاريخ السياسي والبرنامج: يتمتع محمد توفيق علاوي بتاريخ سياسي مميز، حيث شغل منصب وزير الاتصالات مرتين واستقال في كلتيهما احتجاجاً على "أجندة المحاصصة والتدخل السياسي" لرئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي. وقد بنى هويته السياسية على معارضة نظام المحاصصة، الذي يعتبره المصدر الرئيسي للفساد وانهيار الدولة. ومنذ ذلك الحين، دعا باستمرار إلى تشكيل حكومة من التكنوقراط المستقلين، بعيداً عن هيمنة الأحزاب. الموقف من الجماعات المسلحة والنفوذ الأجنبي: يعترف علاوي بالدور الذي لعبه الحشد الشعبي في هزيمة تنظيم "داعش"، لكنه يرفض رفضاً قاطعاً أي جماعة مسلحة تدين بالولاء لجهة غير عراقية، في إشارة واضحة إلى الفصائل المرتبطة بإيران. تقوم رؤيته للسياسة الخارجية على إقامة علاقات متوازنة مع جميع دول الجوار (باستثناء إسرائيل) على أساس المصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. ويقترح دمج أفراد الجماعات المسلحة في المؤسسات الأمنية الرسمية للدولة كسبيل لتحييدهم كقوى مستقلة، مما يساهم في خلق بيئة آمنة جاذبة للاستثمار الأجنبي. التحديات والتصورات: على الرغم من خطابه المناهض للمؤسسة، قوبل تكليفه بتشكيل الحكومة في عام 2020 برفض واسع من قبل محتجي "تشرين"، الذين رأوا فيه نتاجاً للصفقات السياسية التي تعقدها نفس الطبقة التي خرجوا للثورة ضدها. يسلط هذا الموقف الضوء على تحدٍ كبير يواجه شخصيات مثل علاوي، وهو صعوبة إقناع الشارع بكونهم بديلاً حقيقياً رغم امتلاكهم تاريخاً من العمل داخل النظام السياسي نفسه. يكشف تحليل هذه المنصات المدنية عن مفارقات استراتيجية عميقة. فالعديد من القادة "البدلاء"، مثل علاوي أو حتى بعض الشخصيات التي برزت من رحم حركات مثل "امتداد"، هم في الأصل شخصيات كانت جزءاً من المنظومة السياسية قبل أن تنشق عنها. هذه الخلفية تمنحهم خبرة عملية، لكنها في الوقت نفسه تخلق "عجزاً في المصداقية" في نظر جمهور واسع، وخاصة شباب انتفاضة تشرين، الذين ينظرون بعين الشك إلى كل من كان له صلة بالنظام القديم. هذا يعني أن الاستراتيجية الانتخابية التي يقودها هؤلاء قد تفشل في توليد "المشاركة الهائلة" التي ينادي بها البعض، لأنها قد لا تكون ملهمة بما يكفي للقطاعات الأكثر إحباطاً وتهميشاً من المجتمع. من ناحية أخرى، يظهر تقارب ملحوظ بين برامج تحالف "البديل" و"زاخو - الفاو" وعلاوي حول مبدأ "حصر السلاح بيد الدولة". هذا المبدأ لا يمثل مجرد شعار، بل هو الركيزة الأساسية لمشروعهم لبناء الدولة. ومع ذلك، فإن هذا المبدأ المشترك هو أيضاً أكبر عبء سياسي يواجههم، إذ يضعهم في مواجهة مباشرة مع فواعل سياسية مسلحة وقوية ومتجذرة في مفاصل الدولة. هذا يخلق حلقة مفرغة: لتنفيذ برنامجهم، يحتاجون إلى فوز انتخابي حاسم، لكن جوهر برنامجهم يضمن لهم معارضة شرسة من خصوم أقوياء قادرين على حشد قواعدهم الانتخابية، مما يحول دون تحقيق ذلك الفوز الحاسم. أخيراً، فإن وصف هذه التيارات بأنها "مع الغرب لمصلحة العراق" قد يكون سيفاً ذا حدين. فبينما قد يجذب هذا التوجه بعض شرائح الناخبين والشركاء الدوليين ، إلا أنه يعد وصمة سياسية سامة في بلد ينتشر فيه شعور قوي بالوطنية ورفض التدخل الأجنبي، خاصة بين القواعد الجماهيرية لمنافسيهم الرئيسيين. وتظهر الأدلة كيف تستخدم الفصائل الموالية لإيران خطاباً يصور الوجود الأمريكي كاحتلال. وبالتالي، يمكن للخصوم استغلال هذه التسمية لنزع الشرعية عن الحركات المدنية، وتصويرها كأدوات للنفوذ الأجنبي، مما يقوض مصداقيتها الوطنية ويعقد مهمتها في حشد إجماع وطني واسع. القسم الثاني: الحشد الشعبي: مؤسسة دولة أم سلطة موازية؟ يتناول هذا القسم تفكيك هيئة الحشد الشعبي، متجاوزاً التوصيفات النمطية لاستكشاف وضعه القانوني، وتركيبته الديموغرافية، وانقساماته الداخلية، وقوته الاقتصادية، وذلك بهدف اختبار الادعاءات المطروحة حول طبيعته ودوره. من الفتوى إلى القانون: مأسسة حركة مسلحة بدأت مسيرة الحشد الشعبي بفتوى "الجهاد الكفائي" التي أطلقها المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني في 13 يونيو 2014، رداً على اجتياح تنظيم "داعش" لمساحات واسعة من العراق. هذه الدعوة حشدت مئات الآلاف من المتطوعين، وشكلت نقطة تحول في الحرب ضد التنظيم. لاحقاً، سعت الدولة إلى إضفاء الطابع الرسمي على هذه القوة عبر سلسلة من الأوامر الديوانية، وصولاً إلى إقرار "قانون هيئة الحشد الشعبي رقم 40 لسنة 2016". ومع ذلك، فإن العلاقة بين النص القانوني والواقع العملي تكشف عن فجوة عميقة. فالقانون ينص على أن الحشد "جزء من القوات المسلحة العراقية ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة"، ويُلزم منتسبيه بـ"فك ارتباطهم عن كافة الأطر السياسية والحزبية". لكن على أرض الواقع، تحتفظ العديد من الفصائل القوية بأجنحتها السياسية التي تشارك في الانتخابات وتشغل مناصب حكومية، كما أن ولاءها الفعلي غالباً ما يكون لزعمائها السياسيين أو لجهات خارجية، بدلاً من التسلسل القيادي الرسمي للدولة. وتتجه التعديلات المقترحة على القانون في عام 2025 نحو تعميق هذه الاستقلالية، من خلال منح رئيس الهيئة رتبة وزير وصلاحيات واسعة، بما في ذلك إنشاء أكاديميات عسكرية خاصة، مما يهدد بترسيخ وجود مؤسسة عسكرية موازية على غرار الحرس الثوري الإيراني. البند الرئيسي في قانون هيئة الحشد الشعبي رقم 40 لسنة 2016 التطبيق الفعلي والتناقضات على أرض الواقع "يعد جزءاً من القوات المسلحة العراقية ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة". قيادات مجزأة؛ تتلقى العديد من الفصائل أوامرها من قادة سياسيين أو قوى خارجية (إيران) بدلاً من مكتب رئيس الوزراء. "يتم فك ارتباط منتسبي هيئة الحشد الشعبي... عن كافة الأطر السياسية والحزبية". تدير الفصائل الكبرى (مثل بدر وعصائب أهل الحق) أجنحة سياسية قوية تخوض الانتخابات وتشغل مناصب وزارية. "يخضع هذا التشكيل للقوانين العسكرية النافذة من جميع النواحي". تعمل الفصائل باستقلالية كبيرة، ولديها أجهزتها الاستخباراتية الخاصة، وتورطت في انتهاكات نادراً ما تمت محاسبة مرتكبيها بموجب القانون العسكري. "يكون إعادة انتشار وتوزيع القوات... من صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة حصراً". تنتشر الفصائل وتعمل غالباً بناءً على أهدافها الاستراتيجية الخاصة أو أهداف رعاتها، مما يتحدى سلطة الدولة في بعض الأحيان.
التركيبة الديموغرافية: قوة من الجنوب؟ تؤكد البيانات المتاحة أن التركيبة السكانية للحشد الشعبي تعكس بشكل كبير الطيف الديموغرافي العراقي، مع هيمنة واضحة للعرب الشيعة. وقد استجابت أعداد هائلة من المتطوعين لفتوى الجهاد الكفائي من المحافظات الجنوبية والوسطى ذات الغالبية الشيعية (مثل البصرة والعمارة والناصرية) والأحياء الشيعية الفقيرة في بغداد (مثل مدينة الصدر، التي كانت تُعرف بمدينة الثورة). هذا الواقع يدعم جزئياً الرواية التي تعتبر الحشد قوة متجذرة في هذه المناطق. لكن هذا التوصيف يحتاج إلى دقة أكبر. فالهيئة تضم أيضاً مكونات أخرى، وإن كانت أقل عدداً، مثل مقاتلين من العشائر السنية (المعروفين بـ"الحشد العشائري")، بالإضافة إلى مسيحيين وتركمان وأقليات أخرى مثل الشبك والإيزيديين. ورغم أن هذه المكونات تمثل أقلية داخل الهيكل العام للحشد، إلا أنه يتم تسليط الضوء عليها سياسياً لمواجهة الاتهامات بالطائفية وتقديم صورة أكثر شمولاً للهيئة كقوة وطنية. في المحصلة، فإن الحقيقة الديموغرافية هي أن الحشد يعكس التركيبة السكانية للعراق، حيث توفر المناطق ذات الأغلبية الشيعية الجزء الأكبر من المجندين. قيادة منقسمة: ولاء المرجعية أم ولاية الفقيه؟ إن النظر إلى الحشد الشعبي ككتلة متجانسة هو تبسيط مخل. فالهيئة في الواقع عبارة عن مظلة تضم عشرات الفصائل ذات الولاءات والأيديولوجيات المتباينة. يمكن تصنيف هذه الفصائل بشكل عام ضمن محورين رئيسيين: الأول هو "فصائل العتبات" التي تدين بالولاء للمرجعية الدينية العليا في النجف وللدولة العراقية، والثاني هو "فصائل المقاومة" الأكثر قوة وتنظيماً، والتي تتبنى عقيدة "ولاية الفقيه" وتدين بالولاء للمرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي. وتبرز فصائل مثل منظمة بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله كأبرز ممثلي هذا المحور الأخير، حيث ترتبط بعلاقات عضوية مع الحرس الثوري الإيراني على مستويات التدريب والتسليح والأيديولوجيا. تلعب مرجعية النجف دوراً محورياً ومعقداً. فبينما كانت فتوى السيد السيستاني هي السبب المباشر في تأسيس الحشد، إلا أنه دعا مراراً وتكراراً إلى ضرورة دمج هذه القوة بالكامل في مؤسسات الدولة وحصر السلاح بيدها. تمثل المرجعية مصدراً أساسياً للشرعية الدينية والشعبية للحشد، لكنها في الوقت نفسه تعمل كقوة ضبط وكبح لجماح الفصائل الموالية لإيران، التي تتحدى أحياناً توجيهات النجف أو تتجاهلها. هذا الشرخ الأيديولوجي الداخلي يمثل نقطة ضعف هيكلية وساحة صراع رئيسية داخل المشهد السياسي الشيعي والعراقي ككل. اقتصاد الظل: وقود السلطة السياسية يعتمد الحشد الشعبي على بنية اقتصادية مزدوجة ومعقدة. فمن جهة، يتلقى ميزانية ضخمة من الدولة العراقية تقدر بمليارات الدولارات سنوياً (حوالي 3.4 مليار دولار في عام 2024)، وهي ميزانية تفتقر إلى آليات رقابة وتدقيق فعالة. ومن جهة أخرى، تدير فصائله المهيمنة "اقتصاد ظل" واسع النطاق يدر عليها أرباحاً طائلة. تشمل آليات هذا الاقتصاد الموازي السيطرة على المنافذ الحدودية ونقاط التفتيش والطرق التجارية، مما يسمح بعمليات تهريب واسعة وفرض ضرائب ورسوم غير قانونية. كما أن هذه الفصائل متغلغلة بعمق في قطاع الطاقة، حيث تنشط في تهريب الوقود المدعوم والتحكم في عقود الكهرباء ومستودعات النفط. وقد امتد نفوذها الاقتصادي لتأسيس إمبراطوريات تجارية في قطاعات المقاولات والنقل والعقارات، مستخدمةً شركات واجهة وأدوات مالية حديثة لغسيل الأموال. ويأتي تأسيس "شركة المهندس العامة"، على غرار الذراع الاقتصادي للحرس الثوري الإيراني "خاتم الأنبياء"، ليضفي طابعاً مؤسسياً على هذا التوسع الاقتصادي الهائل. إن التحليل العميق لهيكلية الحشد الشعبي يكشف أن قانون عام 2016، الذي كان يهدف ظاهرياً إلى إخضاع الحشد لسيطرة الدولة، قد أدى بشكل عكسي إلى تسهيل عملية "أسر الدولة" من الداخل. فمن خلال منح الحشد وضعاً قانونياً وميزانية رسمية ضخمة ، وفر القانون غطاءً من الشرعية ومصدراً هائلاً للموارد، استغلته الفصائل الأقوى الموالية لإيران لتعزيز نفوذها داخل مؤسسات الدولة وتفريغها من مضمونها. وبهذا، لم يدمج القانون الميليشيات في الجيش، بل أدمج ميزانية الدولة في المحفظة المالية للميليشيات، مما يفسر كيف يمكن للحشد أن يكون كياناً حكومياً قانونياً وفي الوقت نفسه أكبر تحدٍ لسيادة الدولة. علاوة على ذلك، فإن التركيبة الديموغرافية للحشد، المتجذرة في جنوب العراق، قد تحولت إلى سلاح سياسي. بالنسبة للفصائل، يمثل هذا العمق الديموغرافي مصدراً للشرعية الشعبية، حيث تقدم نفسها على أنها الممثل الحقيقي للشعب الذي ضحى لهزيمة "داعش". أما بالنسبة لخصومها، فيُنظر إلى هذا الصعود الديموغرافي كتهديد لنظام الدولة المدنية، مما يحول حقيقة ديموغرافية إلى انقسام سياسي، ويغذي خطاباً يصور الصراع ليس كصراع بين الدولة والميليشيا، بل بين رؤيتين متنافستين لهوية العراق. وأخيراً، ورغم أن القوة العسكرية للحشد هي أبرز سماته، تشير الأدلة بقوة إلى أن إمبراطوريته الاقتصادية هي مركز ثقله الحقيقي والعقبة الأكبر أمام أي إصلاح. إن نزع سلاح الفصائل ليس مجرد تحدٍ أمني، بل هو تحدٍ اقتصادي بالدرجة الأولى، إذ يعني تفكيك مشروع تجاري بمليارات الدولارات يوفر الوظائف والمحسوبية والثروة. هذه القوة الاقتصادية تخلق دورة مستدامة: فالأموال تمول الحملات السياسية، التي تضمن الحصول على مناصب حكومية، والتي بدورها تتيح الوصول إلى المزيد من العقود والموارد الحكومية. وبالتالي، فإن أي استراتيجية إصلاح ناجحة لا يمكن أن تركز على "السلاح" فقط، بل يجب أن تعالج المنظومة السياسية-الاقتصادية المتكاملة التي تغذي هذه الجماعات. القسم الثالث: صندوق الاقتراع أم الشارع: استراتيجيات التغيير السياسي يقيم هذا القسم الاستراتيجيتين الرئيسيتين للتغيير اللتين يدور حولهما الجدل في العراق، مستخدماً البيانات التاريخية والتحليلات لتقييم جدوى كل منهما وإخفاقاته. تاريخ من تراجع المشاركة: أزمة الثقة في الديمقراطية تكشف البيانات الإحصائية للانتخابات البرلمانية العراقية عن اتجاه واضح ومقلق: تراجع مستمر في نسبة مشاركة الناخبين. فبعد أن سجلت الانتخابات الأولى في يناير 2005 نسبة مشاركة عالية بلغت حوالي 80%، شهدت الدورات الانتخابية اللاحقة انخفاضاً تدريجياً وحاداً، لتصل النسبة إلى ما يقارب 41-43% فقط في انتخابات عام 2021. سنة الانتخابات الناخبون المسجلون (تقريبي) الأصوات المدلى بها (تقريبي) نسبة المشاركة الرسمية (%) السياق السياسي الرئيسي يناير 2005 14.7 مليون 8.5 مليون 58.32 ما بعد الغزو، مقاطعة سنية واسعة ديسمبر 2005 15.6 مليون 12.4 مليون 79.63 بعد إقرار الدستور، مشاركة سنية 2010 19.0 مليون 11.5 مليون 60.67 صعود القوائم الوطنية العابرة للطائفية 2014 21.5 مليون 13.0 مليون 60.53 أجريت مع صعود تنظيم "داعش" 2018 غير متاح غير متاح 44.52 أول انتخابات بعد هزيمة "داعش"، أدنى نسبة مشاركة 2021 22.1 مليون 9.6 مليون 43.54 انتخابات مبكرة بعد احتجاجات تشرين
المصادر: يرتبط هذا الانحدار بشكل مباشر بحالة الإحباط وخيبة الأمل الواسعة لدى الجمهور العراقي تجاه نظام سياسي يُنظر إليه على أنه فاسد، وغير مستجيب لاحتياجات المواطنين، وعاجز عن توفير الخدمات الأساسية والأمن. إن الفشل المتكرر في تحقيق تغيير ملموس عبر صناديق الاقتراع قد أدى إلى تآكل الثقة في العملية الانتخابية كأداة للمساءلة والتغيير. جدوى المقاطعة: استراتيجية ذات عوائد متناقصة؟ تقوم استراتيجية مقاطعة الانتخابات على منطق واضح: حرمان العملية الانتخابية والحكومة المنبثقة عنها من الشرعية الشعبية، بهدف إحداث أزمة سياسية قد تفتح الباب أمام تغيير جذري في النظام. لكن تقييم التجارب التاريخية للمقاطعة في العراق، بما في ذلك مقاطعة أجزاء واسعة من المكون السني لانتخابات 2005، والمقاطعات المتكررة للتيار الصدري، يظهر أن هذه الاستراتيجية أثبتت فشلها بشكل كبير. فالمقاطعة لا تمنع تشكيل حكومة، بل تؤدي في المقام الأول إلى تهميش القوى المقاطِعة وفقدانها لنفوذها السياسي، بينما يتمكن خصومها من تعزيز سيطرتهم على مفاصل الدولة بقاعدة انتخابية أصغر ولكنها كافية قانونياً. هذا الاستنتاج يدعم بشكل مباشر الحجة الرئيسية التي يطرحها البعض ضد خيار المقاطعة. إرث تشرين: من الاحتجاج إلى السياسة مثلت انتفاضة تشرين في أكتوبر 2019 أكبر حراك شعبي في تاريخ العراق ما بعد 2003. تركزت مطالب المحتجين، الذين كان غالبيتهم من الشباب، حول إنهاء الفساد والبطالة والنفوذ الأجنبي (خاصة الإيراني)، والدعوة إلى إصلاح شامل للنظام السياسي. وقد لخص شعار "نريد وطن" هذا التوق العميق إلى دولة ذات سيادة وفاعلة. قوبلت هذه الاحتجاجات السلمية بقمع وحشي من قبل قوات الأمن و"طرف ثالث" مجهول الهوية - يُعتقد على نطاق واسع أنه يمثل فصائل مسلحة موالية لإيران - مما أسفر عن مقتل أكثر من 600 متظاهر وإصابة الآلاف. هذه الدماء حطمت ما تبقى من ثقة بين الشارع والدولة. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات نجحت في إجبار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على الاستقالة والدفع باتجاه إقرار قانون انتخابي جديد ، إلا أنها فشلت في تحقيق هدفها الأسمى المتمثل في التغيير الجذري للنظام. كما أن محاولة الحراك ترجمة زخمه الشعبي إلى قوة سياسية عبر أحزاب ناشئة مثل "امتداد" حققت نتائج محدودة، حيث تم لاحقاً استقطاب بعض نوابها أو انشقاقهم عن الحركة. هذه التجربة المريرة تؤكد صعوبة تحويل طاقة الشارع إلى نفوذ سياسي حقيقي داخل منظومة محصنة بالمحسوبية والسلاح. "النموذج المصري": تقييم جدوى الحكم العسكري في العراق يحذر البعض من أن الدعوة إلى الاحتجاجات تهدف إلى التحريض على انقلاب عسكري على غرار ما حدث في مصر. لكن تقييماً نقدياً لهذا السيناريو يكشف عن استحالة تطبيقه في السياق العراقي لعدة أسباب هيكلية: دولة أمنية متعددة المراكز: على عكس الجيش المصري الموحد تاريخياً، يتسم المشهد الأمني العراقي بالتشرذم العميق. فالسلطة العسكرية موزعة بين الجيش العراقي، وجهاز مكافحة الإرهاب، والشرطة الاتحادية، وهيئة الحشد الشعبي، وقوات البشمركة الكردية. لا توجد مؤسسة واحدة تحتكر القوة بشكل كافٍ لتنفيذ انقلاب ناجح والسيطرة على البلاد بأكملها. تاريخ من "التحصين ضد الانقلابات": قام نظام البعث السابق بشكل منهجي بـ"تحصين" النظام ضد الانقلابات العسكرية من خلال خلق هياكل أمنية موازية وتغذية التنافس بينها، وهو إرث من التجزئة لا يزال قائماً حتى اليوم. الفيتو الخارجي: تمثل المصالح المتنافسة للولايات المتحدة وإيران عاملاً خارجياً قوياً يمنع أي طرف من الاستيلاء على السلطة منفرداً. فلكل من واشنطن وطهران علاقات عميقة مع مكونات مختلفة من القطاع الأمني، ومن المرجح أن تتدخلا لمنع أي تغيير جذري يضر بمصالحهما. إن أي محاولة لإقامة حكم عسكري من قبل طرف واحد ستؤدي على الأرجح إلى حرب أهلية متعددة الأطراف، وليس إلى نظام جديد مستقر. تكشف هذه التحليلات عن حلقة مفرغة ومدمرة. إن فشل النظام السياسي في معالجة المظالم الشعبية، كتلك التي عبرت عنها انتفاضة تشرين ، يؤدي إلى تراجع المشاركة الانتخابية. وهذا التراجع بدوره يمكّن الأحزاب ذات الكتل التصويتية المنضبطة، سواء كانت أيديولوجية أو قائمة على المحسوبية (أي الأحزاب الطائفية التقليدية وفصائل الحشد)، لأن قواعدها تخرج للتصويت بينما يبقى الجمهور العام في منزله. الحكومة التي تشكلها هذه الأحزاب تكون بعد ذلك أقل رغبة وقدرة على تنفيذ الإصلاحات، مما يعمق السخرية العامة ويدفع المشاركة إلى مزيد من الانخفاض في الدورة التالية. المقاطعة ليست سبباً لهذه المشكلة، بل هي عرض من أعراض مرحلتها النهائية. وفي هذا السياق، تظهر "مفارقة تشرين" بوضوح. لقد كانت الحركة نجاحاً باهراً في بعد واحد: فقد حطمت حاجز الخوف وخلقت وعياً وطنياً عابراً للطوائف يطالب بدولة مدنية. لكنها كانت فشلاً استراتيجياً في بعد آخر: لم تستطع ترجمة هذه السلطة الأخلاقية إلى سلطة سياسية ملموسة. لقد أظهر القمع الوحشي أن القوة القسرية للنظام تتفوق على القوة الأخلاقية للشارع. والنجاح الانتخابي المحدود للأحزاب المنبثقة عن تشرين يوضح أن رفع الوعي لا يترجم تلقائياً إلى أصوات في نظام تهيمن عليه المحسوبية والنفوذ المسلح. وهذا يشير إلى أن الاحتجاج وحده، مثل المقاطعة وحدها، استراتيجية غير كافية. أما الخوف من "نموذج مصري" فهو في غير محله لأسباب بنيوية. إن تحليل القطاع الأمني المجزأ في العراق والرعاية المتنافسة من قبل الولايات المتحدة وإيران يقود إلى استنتاج حاسم: العراق ليس دولة لديها جيش، بل هو أرض بها جيوش متعددة. الانقلاب العسكري هو ضرب من الخيال لأنه لا يوجد "جيش" واحد لتنفيذه. أي محاولة من قبل أحد أركان الأمن (مثل الجيش) للاستيلاء على السلطة ستواجه على الفور من قبل الآخرين (مثل الحشد الشعبي)، ومن المرجح أن يكون ذلك بدعم من رعاتهم الخارجيين. هذا يجعل حكومة عسكرية موحدة أمراً مستحيلاً من الناحية الجيوسياسية والداخلية، مما يجعل التحذير من هذا السيناريو المحدد غير واقعي، على الرغم من أن النقطة الأساسية حول مخاطر العمل خارج الدستور تظل صحيحة. القسم الرابع: أزمة الشرعية والمسار إلى الأمام يجمع هذا القسم الختامي نتائج التقرير لمعالجة الحجج الأساسية المتعلقة بالشرعية، والديموغرافيا، والاستراتيجية، وتقديم رؤية متكاملة للمشهد العراقي. مسألة الـ 21%: الشرعية القانونية مقابل المصداقية السياسية من الناحية القانونية البحتة، فإن أي حكومة تنبثق عن انتخابات معترف بها، حتى لو كانت نسبة المشاركة فيها منخفضة جداً (على سبيل المثال 21%)، تمتلك السلطة القانونية لإدارة الدولة واستخدام القوة لحماية مؤسساتها. هذا الجانب من الحجة صحيح من الناحية الشكلية. ولكن، تعاني مثل هذه الحكومة من "عجز هائل في الشرعية" والمصداقية السياسية. فعندما تفتقر إلى تفويض شعبي واسع، تصبح قدرتها على الحكم الفعال شبه معدومة. لا يمكنها اتخاذ قرارات صعبة ولكنها ضرورية، مثل مكافحة الفساد المستشري أو تفكيك نفوذ الميليشيات، لأنها لا تملك رأس المال السياسي الكافي لتحمل ردود الفعل العنيفة. هذا الضعف يجعلها، بشكل متناقض، أكثر اعتماداً على دعم الفصائل المسلحة القوية لضمان بقائها، مما يؤدي إلى ترسيخ المشكلة التي من المفترض أن تحلها. إنها حكومة قانونية على الورق، لكنها مشلولة في الواقع. التحول الديموغرافي: بين الواقع والخطاب إن الادعاء بأن معارضة النظام الحالي هي محاولة "لتدمير السلطة المتصاعدة" للديموغرافيا الجنوبية (ما يشار إليه بـ"الشروك المعدان") يحمل جزءاً من الحقيقة ولكنه يستخدم في سياق خطاب مضلل. لا شك أن فترة ما بعد 2003 شهدت تحولاً ديموغرافياً وسياسياً كبيراً، حيث أصبحت المكونات السكانية الشيعية التي كانت مهمشة تاريخياً، خاصة من محافظات الجنوب، لاعباً مركزياً في المشهد السياسي والأمني، إلى حد كبير من خلال هيئة الحشد الشعبي. ومع ذلك، فإن تأطير الصراع بهذه المصطلحات هو استراتيجية خطابية تهدف إلى تبسيط قضية معقدة وتحويلها إلى صراع هوياتي. فالمعارضة الحقيقية ليست موجهة ضد مجموعة ديموغرافية بحد ذاتها، بل ضد المنظومة السياسية-العسكرية (المحاصصة وسلطة الميليشيات) التي ارتبطت بصعود هذه المجموعة. إن مطالب انتفاضة تشرين، التي انطلقت من قلب المدن الجنوبية، كانت تطالب بدولة مدنية لجميع العراقيين، وليس بإخضاع مجموعة لأخرى. وبالتالي، فإن هذا الخطاب، رغم استناده إلى حقيقة ديموغرافية، يعمل على استقطاب النقاش وتصوير الدعوات المشروعة لإصلاح الدولة على أنها هجوم طائفي أو مناطقي. اليد الخفية: تأثير الفواعل الخارجية لا يمكن فهم المعضلة العراقية دون إدراك أنها تتشكل إلى حد كبير بفعل التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة وإيران. النفوذ الإيراني: تقدم إيران دعماً مالياً وعسكرياً وأيديولوجياً للفصائل الرئيسية في الحشد الشعبي وأجنحتها السياسية، حيث تعتبر العراق عمقاً استراتيجياً حيوياً في إطار استراتيجية "الدفاع المتقدم". هذا الدعم هو الممكن الرئيسي لوجود هيكل السلطة الموازي للدولة. النفوذ الأمريكي: في المقابل، تقدم الولايات المتحدة مساعدات أمنية ضخمة لمؤسسات الدولة العراقية الرسمية (الجيش وجهاز مكافحة الإرهاب)، وتستخدم نفوذها الدبلوماسي والاقتصادي لدعم عراق ذي سيادة ومستقر لا تهيمن عليه إيران. كما أن دعم واشنطن للمجتمع المدني ومبادرات مكافحة الفساد يعزز بشكل غير مباشر البديل العلماني. هذه الديناميكية تجبر أي زعيم عراقي على السير على حبل مشدود، محاولاً الموازنة بين علاقاته مع القوتين. وهذا يعني أيضاً أن القضايا الداخلية المحورية، مثل نزع سلاح الفصائل، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالجيوسياسة الإقليمية، مما يجعل حلها عبر الوسائل المحلية البحتة أمراً شبه مستحيل. لقد أدت الأزمة المستمرة إلى انقلاب في مفهوم السيادة. بالنسبة لبناة الدولة والعلمانيين، تعني السيادة دولة موحدة تحتكر القوة وتتمتع بسياسة خارجية مستقلة. أما بالنسبة للفصائل المسلحة القوية، فغالباً ما يتم استخدام مصطلح "السيادة" كأداة خطابية للمطالبة بطرد القوات الأمريكية ، وهو إجراء من شأنه في الواقع أن يزيد بشكل كبير من نفوذ إيران ويقلل من سيادة العراق الفعلية. إن اختطاف اللغة الوطنية هذا هو استراتيجية سياسية متطورة تعقد النقاش العام وتخفي الولاءات العابرة للحدود لهذه الفصائل. بالنظر إلى الصورة الكاملة، يمكن تحليل الحجة القائلة بضرورة المشاركة الانتخابية كخيار استراتيجي عقلاني ضمن نظام معيب للغاية. فبالنظر إلى الفشل الواضح للمقاطعة والاحتجاجات في الشوارع ، واستحالة حدوث انقلاب عسكري ، يمكن استنتاج أن المسار الانتخابي هو "المسار الوحيد المتبقي"، مهما كان ضيقاً وصعباً. هذه الحجة ليست بالضرورة تعبيراً عن إيمان كبير بالانتخابات، بل هي نتيجة لعملية استبعاد منطقية، حيث أن جميع السبل الأخرى تؤدي إما إلى الفشل أو إلى الفوضى. وهذا يعيد تأطير الجدل ليس ك مجرد رأي، بل كخلاصة استراتيجية وليدة الإحباط والتقييم الواقعي للبدائل الفاشلة. خاتمة وتوصيات استراتيجية يؤكد هذا التقرير صحة التقييم الاستراتيجي القائل بأن المشاركة في الانتخابات تمثل مساراً أكثر جدوى من المقاطعة أو اللجوء إلى إجراءات خارجة عن الدستور. ومع ذلك، فإن هذا الاستنتاج يجب أن يُقرأ في ضوء العقبات الهيكلية الهائلة التي تجعل من انتصار القوى الإصلاحية مهمة شاقة للغاية. وتشمل هذه العقبات القوة الاقتصادية والسياسية للفصائل المسلحة، وأزمة الثقة العميقة بين المواطن والنظام السياسي، والتأثير الحاسم للقوى الخارجية. يجد العراق نفسه عالقاً في معضلة حقيقية: فالأدوات اللازمة لتفكيك النظام الموازي (حكومة قوية وشرعية تتمتع بتفويض شعبي واسع) هي بالضبط ما تم تصميم هذا النظام الموازي لمنع ظهورها. إن كسر هذه الحلقة المفرغة يتطلب استراتيجية متعددة الأوجه وطويلة الأمد. توصيات: للمجتمع المدني والأحزاب الإصلاحية: يجب تجاوز الشعارات العامة والتركيز على التنظيم الشعبي على مستوى القاعدة لإعادة بناء الثقة، وتشجيع تسجيل الناخبين، وتقديم برنامج موحد وواقعي يقدم حلولاً ملموسة للتحديات الاقتصادية والإدارية. إن بناء جسور الثقة مع الشرائح المحبطة من المجتمع هو الشرط المسبق لأي نجاح انتخابي مستقبلي. للحكومة العراقية: يجب اتخاذ خطوات جادة وفورية لتطبيق إجراءات الشفافية في المالية العامة، لا سيما فيما يتعلق بميزانيات القطاع الأمني والعقود الحكومية. إن استهداف الجذور الاقتصادية لسلطة الميليشيات عبر تجفيف منابع الفساد والتهريب هو خطوة حاسمة لا يمكن تأجيلها. للفواعل الدولية (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي): يجب الاستمرار في تقديم الدعم الفني لضمان نزاهة الانتخابات ودعم مبادرات مكافحة الفساد. كما يجب ربط المساعدات الأمنية المقدمة لمؤسسات الدولة الرسمية بالتقدم المحرز في إصلاح القطاع الأمني وتطبيق آليات المساءلة. وفي الوقت نفسه، ينبغي الانخراط في دبلوماسية نشطة تهدف إلى خفض التوترات الإقليمية، مما يمنح القادة العراقيين مساحة أكبر للمناورة ومتابعة الإصلاحات الداخلية بعيداً عن ضغوط الاستقطاب الخارجي.
#امير_وائل_المرعب (هاشتاغ)
Amir_Wael_Abdulamir_Murib#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من سومر الى عرب الاهوار
-
نقد الفكرة غير نقد الشخص
-
تحت مشرط النقد
-
رحل وعي من لينين الى نظرية الوتار والوعي الكمي للمادة
-
حلزون الوجود - نص تاملي
-
“الصورة التي غيّرت كل شيء”
-
صفقة تيك توك: تحليل استراتيجي للسيطرة على السردية في الساحة
...
-
خطة لتطوير العراق
-
الرياضيات اصلها عدم وهي اكتشاف وليس ابتكار
-
الوعي مراة كاربونية معقدة للتناظرات الرياضية للكون
-
التردد الكهروكيميائي والديالكتيك الدماغي وانعكاس وصراع الفكر
...
-
السيمفونية الكونية: تحقيق في التناغم الفيثاغوري ونظرية الأوت
...
-
العدد - ملخص كتاب بروفيسور جون ماكليش
-
المعنى في الوجود الصفري - حوار
-
المحرك الكمومي: من الفيزياء النظرية إلى إعادة تشكيل البشرية
-
زياد الذي غيرني
-
شهاب جيكور
-
الكون الواعي: بحث في الضبط الدقيق، والواقع الكمومي، وطبيعة ا
...
-
العراق عبر العصور 10 الاف عام من الحضارة والصراعات
-
المادة والوعي
المزيد.....
-
قادة العالم في الجولة الأخيرة من محادثات الخطوة التالية في غ
...
-
غزة: عودة مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى بيوتهم المهدّمة رغم
...
-
أنظار العالم تتجه لشرم الشيخ.. قمة دولية بحضور ترامب للتوقيع
...
-
بدء تطبيق نظام الحدود الرقمية في الاتحاد الأوروبي.. فما هو؟
...
-
وعود فشلت كبرى الشركات التقنية في تنفيذها
-
كوبا تنفي المشاركة في حرب أوكرانيا
-
قادة إسرائيليون سابقون: الحرب انتهت وحماس حصلت على ما تريد
-
هؤلاء القادة والزعماء سيحضرون -قمة شرم الشيخ للسلام- [محدّث]
...
-
الهلال الأحمر المصري: 400 شاحنة مساعدات في طريقها إلى غزة
-
سفينة -مسكونة-.. هل تجرؤ على خوض أكثر الجولات رعبًا على متنه
...
المزيد.....
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
المزيد.....
|