امير وائل المرعب
ماجستير هندسة كهرباء جامعة بغداد ومهتم بالادب والشعر والفلسفة والعلوم والرياضيات
(Amir Wael Abdulamir Murib)
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 08:52
المحور:
قضايا ثقافية
من سومر إلى الأهوار: تاريخ جيني وثقافي وسياسي لعرب الأهوار في العراق
مقدمة: أهوار الزمن - هوية تشكلت في مهد الحضارة
تُعتبر أهوار بلاد الرافدين (الأهوار) منظراً طبيعياً ذا أهمية تاريخية وبيئية هائلة، فهي ليست مجرد واحدة من أكبر أنظمة الدلتا الداخلية في العالم فحسب، بل هي أيضاً قلب الحضارة السومرية، أولى الحضارات التي طورت المراكز الحضرية والكتابة والمجتمعات المعقدة. ويؤكد إدراج هذه المنطقة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي على أهميتها العالمية الفريدة.
تطرح هذه الدراسة فرضية مركزية مفادها أن عرب الأهوار، الذين تعرضوا لحملات تشويه وصفتهم بأنهم دخلاء أجانب، يمثلون في حقيقة الأمر نموذجاً استثنائياً للاستمرارية التاريخية العميقة، وهم الأقرب لأن يكونوا الأحفاد الحقيقيين للسومريين القدماء. هذا الادعاء، الذي كان يستند طويلاً إلى شواهد ثقافية، أصبح اليوم مدعوماً بأدلة متضافرة من علم الوراثة الحديث وعلم الآثار والإثنوغرافيا.
تؤطر هذه الدراسة قصة عرب الأهوار كصراع من أجل الهوية في مواجهة محو ممنهج. هذا الصراع يضع واقعهم الثقافي المعاش وإرثهم الجيني في مواجهة حملة سياسية ممنهجة من التهميش والعنف، بلغت ذروتها في الإبادة البيئية التي رعتها الدولة في تسعينيات القرن الماضي.
سيرسم هذا التقرير مساراً واضحاً عبر الأدلة العلمية، والتوازيات الثقافية، والتفكيك السياسي للروايات المسيئة، وتاريخ الاضطهاد، وصولاً إلى الإنصاف الذي قدمه العلم. وسيتم تسليط الضوء على الدور المحوري الذي لعبته دراسة جينية أُجريت عام 2011 في ترسيخ هذه السردية التاريخية بأكملها.
القسم الأول: البصمة الجينية - فك شفرة آلاف السنين من التاريخ في الجينوم البشري
يشكل هذا القسم الركيزة العلمية للتقرير، حيث يقدم تحليلاً مفصلاً للدراسة الجينية التي أُجريت عام 2011 وتداعياتها العميقة.
1.1 الدراسة الفارقة: "بحثاً عن البصمات الجينية للسومريين"
في عام 2011، نُشرت ورقة بحثية علمية فارقة في مجلة BMC Evolutionary Biology من قبل فريق بقيادة ناديا الظاهري وزملائها، شكلت نقطة تحول في فهم أصول سكان جنوب العراق. كان الهدف الأساسي للدراسة هو استقصاء الأصول الأبوية (من خلال كروموسوم واي) والأمومية (من خلال الحمض النووي للميتوكوندريا) لعرب الأهوار، بهدف توضيح علاقتهم بالسومريين القدماء ودحض الروايات الشعبية والسياسية التي صورتهم كمجموعة أجنبية مجهولة الأصل.
اعتمدت الدراسة منهجية علمية دقيقة، حيث تم جمع عينات من 143 ذكراً من عرب الأهوار لا تربطهم صلة قرابة، معظمهم من أهوار الحويزة، بالإضافة إلى مجموعة ضابطة مكونة من 154 شخصاً من عموم سكان العراق للمقارنة. وقد تم التركيز على تحليل كروموسوم واي (Y-DNA)، الذي يُورث من الأب إلى الابن ويتتبع السلالة الذكورية، والحمض النووي للميتوكوندريا (mtDNA)، الذي يُورث من الأم إلى جميع أبنائها ويتتبع السلالة الأنثوية، وهي طريقة راسخة لإعادة بناء تاريخ المجموعات السكانية.
1.2 النتائج الرئيسية: المجمع الجيني الأصلي لبلاد الرافدين
كانت النتيجة الأبرز للدراسة هي أن المجمع الجيني لعرب الأهوار يتكون بشكل ساحق من "مكونات شرق أوسطية أصيلة" (autochthonous) لكل من السلالات الذكورية والأنثوية. هذه النتيجة تدحض بشكل مباشر السردية ذات الدوافع السياسية التي زعمت أنهم من أصل هندي أو أصول أجنبية أخرى.
لقد دحضت الدراسة بشكل قاطع "نظرية الأصل الهندي". فقد أوضحت النتائج أن إدخال جاموس الماء وزراعة الأرز، وهي ممارسات يُحتمل أنها جاءت من شبه القارة الهندية، "أثر بشكل هامشي فقط على المجمع الجيني للسكان الأصليين في المنطقة". هذا الدحض العلمي يمثل نقطة حاسمة في تفكيك الدعاية التي استخدمها نظام البعث لتبرير اضطهادهم.
ركز التحليل على الانتشار الملحوظ لمجموعة الهابلوغروب (السلالة الجينية) الذكورية -$-J1-$-، التي تمثل أكثر من 80% من المجمع الجيني الذكوري لعرب الأهوار. وتعتبر هذه السلالة إحدى السلالات الرئيسية في الشرق الأوسط، ويعود تاريخها إلى حوالي 30,000 عام.
أما الاكتشاف الأكثر أهمية، فكان تحديد فرع معين من هذه السلالة، وهو -$-J1-Page08-$-. كشفت الدراسة أن هذا الفرع يُظهر "توسعاً محلياً يتزامن تقريباً مع فترة دول المدن السومرية". يقدم هذا الاكتشاف رابطاً زمنياً قوياً، مما يشير إلى وجود صلة أسلاف مباشرة بين عرب الأهوار والسكان الذين ازدهروا في جنوب بلاد الرافدين قبل 5,000 عام.
إن هذه النتائج العلمية لا تمثل مجرد توضيح أكاديمي، بل هي بمثابة إنصاف سياسي. فقد كانت قيمتها الأساسية تكمن في دحضها التجريبي المباشر لحملة مراجعة تاريخية رعتها الدولة، مصممة لتجريد عرب الأهوار من إنسانيتهم وتصويرهم كـ "آخرين"، وبالتالي تبرير اضطهادهم. لقد قام نظام البعث بترويج رواية مفادها أن عرب الأهوار من أصل أجنبي، وتحديداً هندي، لإنكار وضعهم كشعب أصلي وحقهم في الأرض. استُخدمت هذه الرواية لتبرير سياسات التهجير والعنف، وتصويرها على أنها إزالة لسكان غرباء. جاءت دراسة الظاهري وزملائها لتختبر هذه الفرضية بشكل منهجي، ووجدت مساهمات "ضعيفة من جنوب غرب آسيا" وخلصت إلى أن التأثير الجيني لإدخال زراعة الأرز وجاموس الماء (أساس النظرية الهندية) كان "هامشياً". وبذلك، فإن الاستنتاج العلمي للدراسة يعمل كحجة مضادة سياسية قوية ومباشرة، تفكك الكذبة الأساسية التي بُنيت عليها حملة الاضطهاد وتعيد لعرب الأهوار حقهم في كونهم السكان الأصليين للأرض.
كما أن العزلة النسبية للأهوار، التي جعلتها ملاذاً للمعارضين السياسيين، حولتها أيضاً إلى ملاذ جيني. هذه العزلة حافظت على بصمة جينية قديمة بدقة أكبر من المجموعات السكانية الأخرى الأكثر اختلاطاً في بقية أنحاء العراق، مما يجعلهم نافذة فريدة على الماضي السحيق لبلاد الرافدين. توصف الأهوار تاريخياً بأنها منطقة نائية ويصعب الوصول إليها، وكانت ملجأ للثوار والهاربين من السلطة المركزية. غالباً ما تؤدي العزلة الجغرافية والثقافية إلى تقليل تدفق الجينات من المجموعات السكانية الخارجية. وتشير الدراسة إلى "تجانس ذكوري أعلى من الأنثوي" في المجمع الجيني لعرب الأهوار، مما يوحي بوجود عوامل اجتماعية وثقافية قوية (مثل الإقامة في موطن الزوج) تحد من المدخلات الجينية الخارجية وتحافظ على السلالات الذكورية. سمحت هذه العزلة للطبقات الجينية القديمة، وتحديداً العلامة -$-J1-Page08-$- المرتبطة بالفترة السومرية، بالبقاء بتردد عالٍ بشكل استثنائي (أكثر من 72%). وهكذا، فإن نفس العوامل التي جعلت عرب الأهوار هدفاً سياسياً، جعلتهم أيضاً ذوي قيمة لا تقدر بثمن في دراسة التاريخ الجيني، حيث حافظوا على سلالة ربما تكون قد تلاشت في أماكن أخرى. إنهم "سكان بقايا" بالمعنى الثقافي والجيني على حد سواء.
1.3 تداعيات أوسع: إعادة كتابة تاريخ سومر
تتجاوز نتائج الدراسة أهميتها بالنسبة لعرب الأهوار لتتناول الجدل الطويل حول أصول السومريين أنفسهم: هل هاجروا من الهند أم كانوا سكاناً أصليين في بلاد الرافدين؟.
تقدم الدراسة استنتاجاً عميقاً: "إذا كان عرب الأهوار من نسل السومريين القدماء، فإن السومريين أنفسهم كانوا على الأرجح من السكان الأصليين وليسوا من أصل هندي أو جنوب آسيوي". إن الاستمرارية الجينية الملحوظة في عرب الأهوار تقدم أقوى دليل حتى الآن على أن مؤسسي أول حضارة في العالم قد انبثقوا من السكان المحليين لبلاد الرافدين.
السلالة الجينية / الفرع
التردد لدى عرب الأهوار (%)
الأهمية والارتباط الزمني
كروموسوم واي (Y-DNA)
-$-J1-$- (الإجمالي)
81.1
سلالة شرق أوسطية رئيسية، تشير إلى أصل محلي عميق في المنطقة.
-$-J1-Page08-$-
72.7
يُظهر توسعاً سكانياً محلياً يتزامن مع فترة دول المدن السومرية (حوالي 4,000-5,000 سنة مضت). يعتبر "العلامة السومرية" الرئيسية.
-$-J1-M267*-$-
7.0
يمثل خلفية أقدم مشتركة مع شمال بلاد الرافدين.
-$-E1b1b-$-
6.3
سلالة شائعة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
الحمض النووي للميتوكوندريا (mtDNA)
غرب أوراسيا (الإجمالي)
77.8
يشير إلى أن الأصول الأمومية هي في الغالب من الشرق الأوسط وأوروبا.
جنوب غرب آسيا (الإجمالي)
10.4
مساهمة محدودة من مناطق مثل شبه القارة الهندية.
أفريقيا جنوب الصحراء وشمال/شرق أفريقيا
7.7
مساهمة أفريقية ضعيفة، وأكثر وضوحاً في السلالات الأمومية.
المصدر: البيانات مجمعة من دراسة الظاهري وآخرون، 2011، والمصادر المقتبسة منها.
القسم الثاني: أصداء سومر - الاستمرارية الثقافية والمادية في الأهوار
يؤكد هذا القسم أن الرابط الجيني مدعوم بثروة من الأدلة الإثنوغرافية والأثرية، مما يثبت وجود تقليد ثقافي مستمر يمتد عبر خمسة آلاف عام.
2.1 آثار حية: شهادة الثقافة المادية
إن الاستمرارية الملحوظة في الثقافة المادية لعرب الأهوار ليست مجرد موازية لاستمراريتهم الجينية؛ بل هي على الأرجح سبب لها. إن نمط الحياة المتخصص للغاية، والمتكيف تماماً مع بيئة الأهوار، خلق حدوداً ثقافية قوية حالت دون الهجرة إلى الخارج أو الهجرة الكبيرة إلى الداخل، مما حافظ على المجمع الجيني القديم. يتطلب نمط حياة عرب الأهوار مجموعة فريدة وواسعة من المعارف البيئية التقليدية للبقاء والازدهار. هذه المهارات المتخصصة ليست قابلة للنقل بسهولة إلى البيئات القاحلة أو الحضرية المحيطة، مما يخلق رادعاً لعرب الأهوار عن المغادرة. وعلى العكس من ذلك، يجد الغرباء الذين لا يملكون هذه المعرفة صعوبة في الاندماج في اقتصاد ومجتمع الأهوار. يخلق هذا التخصص الثقافي والاقتصادي حلقة تغذية راجعة: الثقافة الفريدة تعزز التماسك الاجتماعي والعزلة، مما يحد بدوره من تدفق الجينات مع المجموعات الخارجية. لذلك، يرتبط الحفاظ على الثقافة المادية من العصر السومري (القوارب، والمنازل) ارتباطاً مباشراً بالحفاظ على البصمة الجينية من العصر السومري. لقد كانت الثقافة هي الوعاء الذي حمل الجينات.
عمارة القصب (المضيف): تفصّل هذه الفقرة بناء بيوت القصب المقوسة الشهيرة (المضيف والرابة)، وهي ممارسة فريدة من نوعها لدى عرب الأهوار. تربط هذه الدراسة هذا التقليد الحي مباشرة بالصور السومرية القديمة لهياكل متطابقة وُجدت على أختام أسطوانية وألواح طينية تعود إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد. وهذا يخلق رابطاً بصرياً وملموساً عبر 5,000 عام.
النقل المائي (المشحوف): يصف التقرير القوارب النحيلة المطلية بالقار (المشحوف أو الطرادة) المستخدمة في النقل في الأهوار. ويتم مقارنة ذلك بالاكتشافات الأثرية لنماذج قوارب سومرية قديمة، مما يوضح أن التصميم والمواد (القصب والقار) وطريقة الدفع (باستخدام أعواد طويلة من الخشب أو القصب تسمى المردي) ظلت متسقة بشكل ملحوظ.
الأدوات التقليدية وسبل العيش: يغطي التحليل الأدوات التقليدية المذكورة في طلب المستخدم، مثل رمح صيد الأسماك الخماسي الشُعب (الفالة) والهراوة ذات الرأس المصنوع من القار (المكوار). ويشير التقرير إلى أنه على الرغم من استخدام مواد حديثة في بعض الأحيان، فإن أشكال ووظائف هذه الأدوات تعكس الممارسات القديمة المصورة في الفن الرافديني. إن الاقتصاد المعيشي بأكمله - القائم على صيد الأسماك، وتربية جاموس الماء، وزراعة الأرز - هو استمرار للأنماط القديمة المتكيفة مع البيئة الرطبة الفريدة.
2.2 السجل الإثنوغرافي: "عرب الأهوار" لويلفريد ثيسيجر
يعتمد هذا الجزء بشكل كبير على أعمال المستكشف ويلفريد ثيسيجر، الذي يقدم كتابه الصادر عام 1964 بعنوان "عرب الأهوار" لمحة لا تقدر بثمن عن حياة الأهوار في الخمسينيات من القرن الماضي، قبل الحملات التدميرية لنظام البعث. تُستخدم أوصاف ثيسيجر لـ "بيئة خالدة" و"عالم لم يعرف محركاً قط" للتأكيد على الطبيعة العميقة والمتجذرة لما قبل الحداثة للثقافة التي لاحظها.
على الرغم من أن ثيسيجر لم يكن عالم وراثة، إلا أنه كان مراقباً دقيقاً أدرك الطابع القديم للحياة من حوله. يسلط التقرير الضوء على ملاحظاته حول أوجه التشابه بين بيوت القصب والقوارب التي رآها وتصويرها السومري. يعمل كتابه كجسر حاسم، يوثق الاستمرارية الثقافية التي سيؤكدها علم الوراثة الحديث لاحقاً على المستوى البيولوجي.
على مر التاريخ، خلقت صعوبة الوصول المادي إلى الأهوار "فضاءً خارج سيطرة الدولة"، كان من الصعب على الإمبراطوريات المركزية (من الأكاديين إلى العثمانيين والبعثيين) السيطرة عليه بالكامل. هذا التهميش السياسي، على الرغم من أنه أدى في كثير من الأحيان إلى الفقر والإهمال، كان مفتاح الحفاظ على ثقافتهم ووراثتهم. تصف السجلات التاريخية الأهوار بأنها "ملاذ آمن للثوار" ومنطقة ظلت "مهمشة" عن السلطة المركزية لقرون. غالباً ما تتضمن مشاريع بناء الدولة فرض ثقافة ولغة وهوية مهيمنة، مما يؤدي إلى استيعاب مجموعات الأقليات. ولأن عرب الأهوار كانوا يعيشون إلى حد كبير خارج السيطرة المباشرة للدولة، فقد كانوا أقل عرضة لضغوط الاستيعاب هذه. وقد سمح لهم ذلك بالحفاظ على أسلوب حياتهم الفريد ولهجتهم وهياكلهم الاجتماعية. يمكن اعتبار حملة البعث لتجفيف الأهوار تتويجاً عنيفاً لهذا التوتر التاريخي: لقد كانت محاولة أخيرة ووحشية للقضاء على هذا الفضاء الخارج عن سيطرة الدولة ودمج سكانه قسراً في الرؤية القومية العربية المركزية للعراق. لقد كانت الإبادة البيئية عملاً من أعمال بناء الدولة.
القسم الثالث: سياسات التغريب - تفكيك سردية "الشروك"
يقوم هذا القسم بتحليل لغوي وسياسي لمصطلح "شروك"، كاشفاً إياه كأداة للتجريد من الإنسانية ومستعيداً معناه الأصلي المحتمل.
3.1 تسليح الكلمة: الدلالة المهينة
يشرح التقرير المعنى الشائع والمهين لكلمة "شروك" (الشروگ) بمعنى "الشرقيون". ويفصل كيف استخدمت القبائل السنية في الفرات الأوسط هذا المصطلح، ثم ضخمته دولة البعث لاحقاً، لوصم عرب الأهوار ذوي الأغلبية الشيعية بأنهم "آخرون" غرباء وليسوا عراقيين حقيقيين.
ارتبطت هذه السردية بادعاءات كاذبة بأن عرب الأهوار هم من نسل رعاة جاموس هنود وصلوا مع الجيش البريطاني عام 1918، أو مجموعات أجنبية أخرى مثل الزط. وقد خدم هذا الغرض السياسي المتمثل في تجريدهم من حقوقهم الأصلية في الأرض ومواردها.
3.2 استعادة الهوية: الأصل الرافديني
يقدم التقرير الحجة المضادة القوية بأن لكلمة "شروك" جذوراً عميقة في بلاد الرافدين. ويحلل الارتباط بالاسم الأكادي للملك سرجون الكبير، Šarru-kīn، والذي يعني "الملك الصادق/الشرعي".
يستكشف التقرير تفسير Šarru-kīn والمصطلحات ذات الصلة على أنها تعني "المواطن الأصلي" أو "ابن البلد الأصلي" (shuro-kin في السومرية). في هذا السياق، فإن كلمة "شروك" أو "شروكي" تعني "الشعب الأصلي" أو "أتباع الملك الشرعي"، وهي علامة هوية ذات أصالة متجذرة.
يخلص التحليل إلى أن نظام البعث انخرط على الأرجح في عمل متعمد من القلب الدلالي - أخذ كلمة تدل على الأصالة وتحريفها إلى شتيمة تعني "أجنبي". إن التلاعب بكلمة "شروك" هو مثال نموذجي على التجريد اللغوي من الإنسانية الذي يسبق ويصاحب في كثير من الأحيان أعمال الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي. من خلال إعادة صياغة السكان الأصليين لغوياً كغزاة أجانب، تخلق الدولة التبرير الأخلاقي والسياسي لإزالتهم العنيفة. تتطلب أعمال العنف الجماعي أن تنظر المجموعة المرتكبة إلى المجموعة الضحية على أنها أقل من إنسان أو كتهديد وجودي. واللغة هي أداة أساسية لبناء هذه "الآخرية". كان نظام البعث بحاجة إلى التغلب على حقيقة أن عرب الأهوار عاشوا في جنوب العراق لآلاف السنين. من خلال الترويج لسردية "شروك = شرقي/أجنبي" وقمع الأصل اللغوي الأصلي، قام النظام بفصل عرب الأهوار لغوياً عن المشهد والتاريخ العراقي. هذه إعادة الصياغة سهلت تصوير تجفيف الأهوار ليس على أنه تدمير لوطن أصلي، بل على أنه "استصلاح" للأراضي من محتلين أجانب. كانت الحملة اللغوية مقدمة نفسية وسياسية ضرورية للحملة المادية للإبادة البيئية.
القسم الرابع: الإبادة البيئية والإبادة الجماعية - حملة لمحو شعب ومكان
يقدم هذا القسم سجلاً مفصلاً للاضطهاد المنهجي الذي تعرض له عرب الأهوار، محدداً الدوافع المعقدة والأساليب المدمرة التي استخدمها نظام البعث.
4.1 مبررات التدمير: السياسة والطائفية والنفط
لم يكن اضطهاد عرب الأهوار مدفوعاً بعامل واحد، بل بثالوث قوي ومترابط من الدوافع: السيطرة السياسية، والتفوق الطائفي، واستخراج الموارد. هذا الإطار متعدد الأسباب ضروري لفهم الوحشية والشمولية المطلقة للحملة. فقد وفر الدافع السياسي (سحق انتفاضة 1991) التبرير الفوري والإلحاح. وقدم الدافع الطائفي (هيمنة السنة على الشيعة) الإطار الأيديولوجي الذي جرد الضحايا من إنسانيتهم وجعل العنف مقبولاً. أما الدافع الاقتصادي (الوصول إلى النفط) فقد وفر الحافز الاستراتيجي والمالي طويل الأجل، مما يضمن أن يكون التدمير دائماً وألا يُسمح للسكان بالعودة. لقد عززت هذه الدوافع الثلاثة بعضها البعض. فعقاب المتمردين الشيعة أدى أيضاً إلى تمهيد الأرض للتنقيب عن النفط. والاستيلاء على الأرض للأمة "العربية" أدى أيضاً إلى تأمين مواردها للنخبة الحاكمة. هذا التآزر يفسر سبب شمولية الحملة، التي لم تستهدف الناس فحسب، بل بيئتهم بأكملها.
العقاب السياسي: كان الدافع الأساسي للتدمير المتسارع للأهوار هو انتفاضة الشيعة عام 1991 في أعقاب حرب الخليج الأولى، والتي شارك فيها العديد من عرب الأهوار. سعى النظام إلى القضاء على الأهوار كـ "ملجأ للمنشقين والمهربين وغيرهم من غير المرغوب فيهم" ومعاقبة السكان على تمردهم.
العداء الطائفي: كان الاضطهاد متجذراً أيضاً في التمييز الطائفي طويل الأمد ضد الأغلبية الشيعية في العراق من قبل نظام البعث الذي يهيمن عليه السنة. تم استهداف عرب الأهوار، كونهم شيعة في الغالب، كجزء من حملة قمع أوسع.
الجشع الاقتصادي: حتمية النفط: كان الدافع الحاسم، والذي غالباً ما يتم تجاهله، اقتصادياً. يؤكد التقرير أن الأهوار تقع فوق بعض أكبر وأثمن احتياطيات النفط في العراق. لم يكن تجفيف الأهوار مجرد عمل انتقامي سياسي؛ بل كان خطوة استراتيجية لتمهيد الأرض للتنقيب عن النفط واستغلاله في المستقبل، وإزالة السكان الأصليين الذين كانوا يقفون في الطريق.
اسم حقل النفط
الموقع
الأهمية والتداخل مع الأهوار
الرميلة (شمال وجنوب)
جنوب وغرب البصرة، تحت أهوار الحمار التاريخية.
أحد أكبر حقول النفط العملاقة في العالم، يقع مباشرة تحت الأراضي التي كانت جزءاً من نظام الأهوار.
غرب القرنة
شمال البصرة، بالقرب من التقاء نهري دجلة والفرات.
حقل نفط عملاق يقع على حافة الأهوار المركزية التاريخية.
الزبير
جنوب غرب البصرة.
حقل كبير يقع بالقرب من الحدود الجنوبية الغربية لأهوار الحمار.
مجنون
شمال البصرة، بالقرب من الحدود الإيرانية.
حقل عملاق يقع مباشرة تحت أهوار الحويزة التاريخية.
صُبّة
بالقرب من الناصرية.
حقل يقع بالقرب من الامتداد الغربي لأهوار الحمار.
المصدر: البيانات مجمعة من مصادر متعددة تشير إلى مواقع حقول النفط في جنوب العراق وتداخلها مع الخرائط التاريخية للأهوار.
4.2 أساليب الإبادة
إن التدمير المتعمد للنظام البيئي للأهوار لم يكن نتيجة ثانوية للصراع؛ بل كان السلاح الأساسي. من خلال تدمير البيئة التي تعتمد عليها ثقافة واقتصاد ومجتمع عرب الأهوار بالكامل، كان النظام يفرض عمداً "ظروف حياة تهدف إلى تدميرهم المادي كلياً أو جزئياً"، وهو ما يتوافق مع تعريف الإبادة الجماعية بموجب اتفاقية عام 1948. إن هوية عرب الأهوار مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنظام البيئي للأهوار. لقد فهم النظام هذا الاعتماد. كان تجفيف الأهوار يهدف صراحة إلى "تدمير قدرة عرب الأهوار على الاستمرار في العيش في وطنهم". يتناسب هذا الفعل مباشرة مع تعريف الإبادة الجماعية في المادة الثانية (ج) من اتفاقية الإبادة الجماعية. وقد صرحت البارونة إيما نيكولسون صراحة بأن تدمير الأهوار "يندرج بوضوح ضمن اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948". لذلك، يجب تحليل الحملة ليس فقط كانتهاك لحقوق الإنسان أو كارثة بيئية، بل كعمل استُخدمت فيه الإبادة البيئية كآلية لارتكاب إبادة جماعية.
الإبادة البيئية: تجفيف الأهوار: تفصل هذه الفقرة المشاريع الهندسية الضخمة - القنوات والسدود والحواجز - التي تم تنفيذها في التسعينيات لتحويل مياه دجلة والفرات بعيداً عن الأراضي الرطبة. أدى هذا العمل من الإبادة البيئية، الذي وصفته الأمم المتحدة بأنه "كارثة إنسانية وبيئية مأساوية"، إلى تقليص مساحة الأهوار بأكثر من 90% بحلول عام 2000، محولاً نظاماً بيئياً نابضاً بالحياة إلى صحراء ملحية قاحلة.
جرائم ضد الإنسانية: رافق التجفيف حملة عسكرية وحشية. يستشهد التقرير بأدلة من هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية على قصف وحرق القرى، والاعتقالات الجماعية، والتعذيب، والاختفاء القسري، والإعدامات بإجراءات موجزة. تشكل هذه الهجمات المنهجية على السكان المدنيين جرائم ضد الإنسانية.
مزاعم التسميم: يتناول التقرير الادعاء بأن النظام استخدم السموم، وتحديداً الثاليوم، ضد معارضيه. ويستشهد بتقارير عن استخدام الثاليوم كأداة مفضلة لدى الشرطة السرية لصدام حسين وأدلة على استخدامه في حوادث تسميم. على الرغم من أن الأدلة المباشرة على استخدامه على نطاق واسع في الأهوار نادرة في المواد المتاحة، فإن سياق الأساليب المعروفة للنظام يجعل الادعاء ذا مصداقية ويستحق الإدراج.
4.3 التكلفة البشرية: نزوح وتدمير أسلوب حياة
أدت الحملة إلى انخفاض كارثي في عدد سكان عرب الأهوار، من ما يقدر بـ 400,000-500,000 نسمة في الخمسينيات إلى ما بين 20,000-40,000 فقط بقوا في وطنهم الأصلي بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
أُجبر مئات الآلاف على الفرار، ليصبحوا نازحين داخلياً في العراق أو لاجئين في إيران المجاورة. وقد أدى ذلك إلى تحطيم نسيجهم الاجتماعي وتدمير أسلوب حياة فريد استمر لأكثر من 5,000 عام.
القسم الخامس: إنصاف إرث - التداعيات الاجتماعية والسياسية للاكتشاف
يحلل هذا القسم تأثير الدراسة الجينية لعام 2011 على مجتمع عرب الأهوار والمجتمع العراقي الأوسع، مستكشفاً كيف يتقاطع الدليل العلمي مع سياسات الهوية المعاصرة.
5.1 استعادة الكرامة
قدمت دراسة الظاهري وزملائها مصادقة علمية قوية ومعترف بها دولياً على التاريخ الشفهي والهوية الثقافية لعرب الأهوار. لقد كانت بمثابة دحض موضوعي لعقود من التشهير الذي رعته الدولة، مما أعاد إحساساً بالفخر والشرعية التاريخية.
سلحت الدراسة مجتمع عرب الأهوار ومناصريهم بأدلة تجريبية لإعادة صياغة قصتهم من قصة مجموعة مهمشة "أجنبية" إلى قصة أقدم شعوب العراق الأصليين.
5.2 تاريخ متنازع عليه: ردود الفعل والمقاومة
في حين أن الدراسة الجينية قدمت إثباتاً قوياً، إلا أنها تخاطر أيضاً بإدخال شكل جديد من أشكال الحتمية البيولوجية في مشهد سياسي مجزأ بالفعل. يمكن أن يتحول النقاش من المواطنة المشتركة إلى ادعاءات متنافسة حول "من هو الأكثر أصالة"، مما قد يخلق خطوطاً جديدة من الانقسام. تقدم الدراسة أساساً علمياً لادعاء عرب الأهوار بأنهم "السكان الأصليون". في بلد يضم مجموعات عرقية ودينية متعددة (عرب، أكراد، آشوريون، تركمان، إلخ)، لكل منها ادعاءاتها التاريخية الخاصة، يمكن اعتبار هذا تأكيداً حصرياً على الأسبقية. تظهر النقاشات عبر الإنترنت هذا التوتر، حيث يشكك بعض الآشوريين أو غيرهم في النتائج أو يرونها كخطوة سياسية من قبل العرب. يكمن الخطر في أن الهوية تصبح محددة بمجموعات الهابلوغروب بدلاً من الثقافة والجنسية المشتركة. العلم ذاته الذي يعيد الكرامة لمجموعة واحدة يمكن أن يستخدم لتغذية الانقسام و"سياسات الدم"، وهي ظاهرة عالمية حديثة تتجلى الآن في السياق العراقي.
بينما احتفل عرب الأهوار بالنتائج، قوبلت بالشك أو العداء من قبل مجموعات أخرى في العراق تتحدى رواياتها القومية أو الطائفية هذا الاكتشاف. يحلل التقرير المناقشات عبر الإنترنت (على سبيل المثال، على Reddit و Quora) كنموذج مصغر لهذا النقاش الأوسع. ويظهر كيف ينظر البعض إلى هذا الادعاء على أنه "محاولة لإضفاء الشرعية على الوجود العربي في العراق"، بينما يسيء آخرون استخدام الدراسة أو يسيئون تفسيرها لدعم مفاهيمهم المسبقة. وهذا يوضح أن الحقائق العلمية يتم استيعابها على الفور والطعن فيها ضمن المشهد السياسي القائم.
يمثل تأكيد الدراسة على وجود سلالة سومرية مميزة قبل العرب لجزء كبير من سكان جنوب العراق تحدياً للأيديولوجيات القومية العربية الشمولية. إنه يسلط الضوء على التاريخ العميق والمتعدد الأعراق والطبقات لبلاد الرافدين، وهو تعقيد تجده بعض الفصائل السياسية غير مريح.
إن إنصاف الوضع الأصلي لعرب الأهوار يخلق ضرورة أخلاقية وسياسية جديدة لاستعادة الأهوار. ومع ذلك، فإن هذه الضرورة تتعارض بشكل مباشر مع الدافع الاقتصادي لاستغلال احتياطيات النفط الهائلة تحتها. وبالتالي، فإن مستقبل المنطقة هو ساحة معركة بين نموذجين متعارضين: الحفاظ على تراث ثقافي وبيئي فريد مقابل استخراج الوقود الأحفوري. تعزز الأدلة الجينية والثقافية قضية حماية الأهوار كموقع تراث عالمي، ليس فقط لتنوعها البيولوجي ولكن لثقافتها البشرية الفريدة. تتواصل جهود إعادة غمر الأهوار بالمياه واستعادتها منذ عام 2003. ومع ذلك، فإن نفس المصادر التي توثق الاضطهاد تسلط الضوء مراراً وتكراراً على وجود رواسب نفطية ضخمة كعامل رئيسي. تعتمد الدولة العراقية بشكل كبير على عائدات النفط من أجل بقائها وإعادة إعمارها. لذلك، يوجد صراع أساسي. تتطلب استعادة الأهوار المياه وتحد من النشاط الصناعي. ويتطلب استغلال النفط التجفيف والبنية التحتية ويحتمل أن يسبب التلوث. يضيف الإثبات العلمي لعرب الأهوار كورثة لسومر وزناً كبيراً لجانب "التراث" في هذا الصراع، لكن القوة الاقتصادية لجانب "الهيدروكربونات" لا تزال هائلة. إن مستقبل عرب الأهوار مرتبط بنتيجة هذا الصراع.
خاتمة: من قصب سومر إلى الحلزون المزدوج - مستقبل متجذر في الماضي
تلخص هذه الخاتمة التقاء الأدلة القوي الذي قدمه التقرير. وتؤكد مجدداً كيف أن البيانات الجينية من الحلزون المزدوج تصادق على الذاكرة الثقافية المحفوظة في قصب المضيف، مما يخلق سلسلة هوية غير منقطعة تمتد إلى 5,000 عام.
تؤطر هذه الدراسة تاريخ عرب الأهوار ليس كقصة ضحية، بل كقصة صمود استثنائي. لقد نجوا من سقوط الإمبراطوريات، وتغير مجاري الأنهار، وحملة حديثة من العنف الإبادي، متمسكين بهوية وأسلوب حياة فريدين.
ترتقي الخاتمة بالقصة إلى ما هو أبعد من العراق، وتقدمها كدراسة حالة عالمية حول أهمية العلم في استعادة التواريخ المكبوتة، والقوة الدائمة للهوية الأصلية، والنضال المستمر لحماية التراث الثقافي والبيئي في مواجهة القمع السياسي واستخراج الموارد. وتنتهي بنظرة مستقبلية، متأملة في التحديات والآمال لمستقبل عرب الأهوار ووطنهم الأم.
#امير_وائل_المرعب (هاشتاغ)
Amir_Wael_Abdulamir_Murib#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟