أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - امير وائل المرعب - علاقة حقيقة الوحي باثار الهلال الخصيب العراق والشام















المزيد.....


علاقة حقيقة الوحي باثار الهلال الخصيب العراق والشام


امير وائل المرعب
ماجستير هندسة كهرباء جامعة بغداد ومهتم بالادب والشعر والفلسفة والعلوم والرياضيات

(Amir Wael Abdulamir Murib)


الحوار المتمدن-العدد: 8533 - 2025 / 11 / 21 - 09:18
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الطبقات الجيولوجية للوحي: دراسة نقدية شاملة حول السياقات الرافدينية والشامية لنشأة التوراة والتلمود
مقدمة تنفيذية: جدلية الحقيقة والتأثر الثقافي
إن السؤال حول "حقيقة" التوراة والتلمود في مقابل "تأثرهما" بحضارات العراق والشام لا يمثل مجرد استفسار تاريخي عابر، بل يغوص في عمق آليات التكون الثقافي والديني في الشرق الأدنى القديم. إن الطرح القائل بأن "التأثر" ينفي "الحقيقة" هو طرح يتجاوزه البحث الأكاديمي الحديث؛ إذ تشير الأدلة الأثرية والنصية المتراكمة على مدى قرن ونصف إلى أن هذه النصوص المقدسة لم تنشأ في فراغ، بل كانت نتاج حوار حيوي، وجدلي، وأحيانًا صدامي، مع الإمبراطوريات العظمى التي هيمنت على الهلال الخصيب.
يكشف هذا التقرير، المستند إلى تحليل دقيق للنصوص المسمارية والآرامية والعبرية، أن التوراة تمثل وثيقة "شامية" (كنعانية) في لغتها وجذورها، ولكنها "رافدينية" (عراقية) في تحريرها النهائي وهيكليتها القانونية والكونية. فالروايات التأسيسية في سفر التكوين تحمل بصمات سومر وأكد، والتشريعات في سفر الخروج والتثنية تعكس القوانين البابلية والآشورية. أما التلمود البابلي، فهو أثر عراقي بامتياز، نضج في ظل الإمبراطورية الساسانية، وتشكلت منطقيته القانونية عبر التفاعل مع الفقه الفارسي والديانة الزرادشتية.
يقدم هذا التقرير تحليلًا شاملًا لهذه الطبقات الحضارية الأربع في العراق (سومر، أكد، آشور، بابل) والسياق الشامي (أوغاريت/كنعان)، موضحًا كيف أُعيد صياغة هذه التأثيرات لإنتاج منظومة التوحيد اليهودي.
الجزء الأول: التوراة وظل بلاد الرافدين (العراق القديم)
1. التاريخ البدائي والركيزة السومرية-الأكدية
تشكل الفصول الأحد عشر الأولى من سفر التكوين (Genesis 1-11)، المعروفة باسم "التاريخ البدائي"، المنطقة الأكثر كثافة في الأدلة على الارتباط العضوي بين النص التوراتي والموروث العراقي القديم. هذه السرديات—الخلق، الطوفان، الأنساب طويلة العمر، وبرج بابل—لا تشبه الأساطير الرافدينية فحسب، بل تشترك معها في حمض نووي أدبي ومفاهيمي يشير إلى تراث ثقافي مشترك انتقل عبر آلاف السنين من الهيمنة السومرية والأكدية.
1.1. صراع الكوزموغونيا: "الإينوما إليش" وسفر التكوين 1
أدى اكتشاف "الإينوما إليش" (Enuma Elish)، ملحمة الخلق البابلية، في أطلال نينوى، إلى تغيير جذري في فهمنا للنص التوراتي. هذه الملحمة الأكدية، التي يعود تاريخها المحتمل إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، تصف صعود الإله "مردوق" إلى زعامة مجمع الآلهة. إن التشابهات مع الإصحاح الأول من سفر التكوين ليست عرضية، بل هي تشابهات هيكلية تشير إلى أن المؤلفين التوراتيين استخدموا قالبًا أدبيًا معروفًا لتأسيس "لاهوت مضاد".
يشير العلماء إلى أن سفر التكوين لا يقوم بعملية "نسخ" بالمعنى السطحي، بل بعملية "سجال" (Polemic). فبينما تصور الأسطورة البابلية الخلق كنتيجة لصراع عنيف، يقدم التوراة الخلق كعمل سيادي هادئ، مستخدمًا نفس المفردات البابلية ولكن بقلب معناها اللاهوتي.
جدول مقارن: التحليل الهيكلي واللغوي بين الخلق البابلي والتوراتي
العنصر
في الإينوما إليش (بابل)
في سفر التكوين 1 (التوراة)
التحليل الأكاديمي والنقدي
الحالة الأولية
فوضى مائية مشخصة في الإلهة "تيامات" (Tiamat).
غمر مائي عميق يُسمى "تهوم" (Tehom).
لغويًا، اللفظة العبرية Tehom هي قريب لغوي (Cognate) للفظة الأكدية Tiamat. الفارق الجوهري هو نزع الصفة الألوهية والأسطورية؛ فـ"تهوم" في التوراة هي مياه غير عاقلة وليست إلهة تتصارع.
آلية الخلق
صراع إلهي؛ مردوق يقتل تيامات ويشطر جثتها ليشكل السماء والأرض.
أمر إلهي ("وقال الله")؛ الله يفصل المياه ليشكل الجلد.
النص التوراتي يقمع فكرة "الصراع" الكوني (الموجودة كأصداء في المزامير وإشعياء تحت اسم "لوياتان" أو "رهب") للتركيز على السيادة المطلقة لله دون منازع.
خلق النور
النور ينبعث من الآلهة ذاتها.
النور هو أول المخلوقات، منفصل عن الأجرام السماوية (الشمس/القمر) التي خُلقت لاحقًا.
كلا النصين يميزان بين "جوهر النور" وبين "حاملات النور" (الكواكب)، مما يعكس فهمًا كونيًا مشتركًا في الشرق الأدنى القديم.
الغاية من الإنسان
خُلق من دماء إله متمرد (كينغو) لخدمة الآلهة وإعفائهم من العمل الشاق.
خُلق على "صورة الله" (Imago Dei) ليكون سيدًا على الخليقة ووكيلًا لله.
هذا هو التباين اللاهوتي الأعمق: الإنسان الرافديني "عبد" للآلهة، بينما الإنسان التوراتي يحمل "كرامة ملكية".

تشير الدراسات إلى أن كتاب التوراة، ولا سيما المصدر الكهنوتي (Priestly Source)، كانوا على دراية عميقة باللاهوت البابلي، ربما نتيجة للسبي البابلي. لقد اعتمدوا الهيكل السردي البابلي (تسلسل الأيام، البدء من الفوضى المائية) ليقولوا للمسبيين اليهود: "إن إلهكم يهوه، وليس مردوق، هو ضابط الكل، وإن الفوضى (تهوم) هي مادة طيعة وليست وحشًا مرعبًا".
1.2. الطوفان العظيم: ملحمة جلجامش وأتراحاسيس ونوح
لعل الدليل الأقوى والأكثر إقناعًا على التأثر المباشر بالحضارة الرافدينية هو رواية الطوفان. النسخ السومرية (زيوسودرا)، والأكدية (أتراحاسيس)، والنسخة البابلية القياسية في اللوح الحادي عشر من "ملحمة جلجامش"، تسبق النص التوراتي بقرون عديدة. التشابهات هنا تتجاوز الأفكار العامة لتصل إلى تفاصيل دقيقة لا يمكن تفسيرها إلا بالاعتماد الأدبي.
في "ملحمة جلجامش"، يروي "أوتنابيشتيم" (نوح البابلي) قصته للبطل جلجامش. التفاصيل التالية تظهر تطابقًا مذهلاً مع سفر التكوين:
الأمر الإلهي: في كلا النصين، يقوم إله (إيا في جلجامش، يهوه في التوراة) بتحذير البطل وتوجيهه لبناء فلك بسبب قرار مجمع الآلهة بإفناء البشرية.
تقنيات البناء: يحدد النصان أبعادًا دقيقة للفلك ويشترطان طلائه بـ"القار" (Bitumen) من الداخل والخارج. استخدام القار هو تفصيل عراقي محلي، حيث كانت هذه المادة متوفرة في بلاد الرافدين ومستخدمة في العزل المائي، بخلاف بلاد الشام الصخرية.
إطلاق الطيور: هذه الجزئية تعد بمثابة "البصمة الوراثية" للنص. في جلجامش، يطلق أوتنابيشتيم حمامة، ثم سنونو، ثم غرابًا. الغراب لا يعود، مما يدل على انحسار الماء. في التكوين، يطلق نوح غرابًا، ثم حمامة (عدة مرات). هذا التطابق في نوعية الاختبار (استخدام الطيور الاستكشافية) يؤكد وحدة المصدر.
الذبيحة والرضا الإلهي: عند الخروج من الفلك، يقدم كلا البطلين ذبيحة. يصف نص جلجامش المشهد: "شمت الآلهة الرائحة؛ شمت الآلهة الرائحة الزكية؛ تجمعت الآلهة كالذباب حول مقدم الذبيحة". وفي سفر التكوين 8: 21: "فتنسم الرب رائحة الرضا".
التحليل المقارن للعمق اللاهوتي: على الرغم من التطابق السردي، يظهر الاختلاف الجذري في "الدافع". في ملحمة "أتراحاسيس" وجلجامش، ترسل الآلهة الطوفان لأن البشر أصبحوا "صاخبين جدًا" وأقلقوا نوم الآلهة (دافع نزوي/كابريسي). أما في التوراة، فالطوفان هو حكم أخلاقي على "ظلم" وعنف البشر (دافع عدالة). إذن، استعار التوراة "القالب القصصي" العراقي، لكنه ملأه بمحتوى أخلاقي توحيدي جديد.
1.3. برج بابل: نقد التمدن الرافديني
تمثل قصة برج بابل (التكوين 11) نقدًا إثنولوجيًا لحضارة العراق القديم. يحدد النص الموقع في "أرض شنعار" (سومر)، ويصف تقنية البناء بدقة: "هلم نصنع لبنًا ونشويه شيًا... وكان لهم اللبن مكان الحجر، والحمر (القار) مكان الطين". هذا الوصف دقيق جيولوجيًا لسهل العراق الرسوبي الذي يفتقر للأحجار ويعتمد على الطوب المشوي والقار، في تباين واضح مع تقنيات البناء الحجري في كنعان.
البرج نفسه هو بلا شك "الزقورة" (Ziggurat)، المعابد المدرجة الشهيرة في سومر وبابل. يسخر النص التوراتي من الادعاء البابلي بأن معابدهم تصل إلى "السماء" (الاسم البابلي للزقورة هو Etemenanki أي "بيت أساس السماء والأرض"). وبينما رأى البابليون مدينتهم كـ"باب-إيلي" (باب الإله)، حول التوراة الاسم عبر تلاعب لفظي إلى "بابل" من الجذر العبري "بلل" (خلط/شوش)، محولًا ذروة الهندسة الدينية العراقية إلى نصب تذكاري للغطرسة البشرية والتشويش الإلهي.
2. الطبقة القانونية: في ظل حمورابي وتشريعات إشنونا
عندما اكتُشفت مسلة حمورابي في شوشان عام 1901، أحدثت زلزالًا في الدراسات التوراتية، وأطلقت موجة "القومية البابلية الشاملة" (Pan-Babylonianism). حمورابي، الذي حكم بابل في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وضع قوانين تسبق الزمن الموسوي بقرون، وتظهر تشابهات لا يمكن إنكارها مع "كتاب العهد" في سفر الخروج (21-23).
2.1. القانون الشرطي (Casuistic Law) ومبدأ المعاملة بالمثل
يستخدم جوهر التشريع التوراتي في سفر الخروج نفس الصياغة "الشرطية" (Casuistic) الموجودة في قانون حمورابي وقوانين إشنونا. تتبع هذه الصياغة هيكل: "إذا قام رجل بـ... فإن عقوبته تكون...".
العين بالعين (Lex Talionis): هذا المبدأ المشهور صريح في قانون حمورابي (§196: "إذا فقأ رجل عين رجل آخر، تفقأ عينه")، ويقابله حرفيًا في الخروج 21: 24.
الثور النطاح: يتضمن كلا القانونين تشريعًا محددًا بخصوص الثور الذي ينطح إنسانًا، مع التمييز الدقيق بين الثور الذي ليس له سوابق والثور المعروف بأنه "نطاح" ولم يضبطه صاحبه (حمورابي §250-251 مقابل الخروج 21: 28-32).
التباين الاجتماعي والأخلاقي: رغم وحدة "الشكل القانوني"، تختلف الفلسفة الكامنة. قانون حمورابي طبقي بامتياز؛ فعقوبة إيذاء النبيل تختلف عن إيذاء العامي أو العبد. أما الشريعة الموسوية، فتميل (في قضايا النفس) إلى المساواة بين المواطنين الأحرار، وترفض التعويض المالي في جرائم القتل، مؤكدة على قدسية الحياة بطريقة تختلف عن البراغماتية البابلية.
3. سفر التثنية والقرن الآشوري: المعاهدات السياسية كنموذج ديني
إذا كان سفر التكوين ينظر إلى سومر وبابل القديمة، فإن سفر التثنية يعكس الرعب الجيوسياسي للإمبراطورية الآشورية الحديثة (911–609 ق.م)، الحضارة الثالثة الكبرى في العراق.
3.1. معاهدات الولاء لأسرحدون (Vassal Treaties of Esarhaddon - VTE)
يعد اكتشاف أوجه الشبه بين سفر التثنية ومعاهدات الولاء الآشورية من أهم منجزات الدراسات الكتابية الحديثة. هذه المعاهدات، التي فرضها الملك أسرحدون في القرن السابع قبل الميلاد لضمان ولاء الأتباع لابنه أشوربانيبال، تقدم الهيكل الدقيق الذي بُني عليه سفر التثنية.
التوازي الهيكلي الصارم: يتبع كلا النصين (التثنية والمعاهدة الآشورية) تسلسلًا سداسيًا محددًا:
ديباجة التعريف.
مقدمة تاريخية.
الاشتراطات (القوانين).
إيداع النص وقراءته.
الشهود (في آشور: الآلهة؛ في التوراة: السماء والأرض).
اللعنات والبركات.
الاستعارة الانقلابية: تصل التشابهات في قسم اللعنات (تثنية 28) إلى حد التطابق اللفظي مع لعنات معاهدة أسرحدون (مثلاً: "تكون سماؤك نحاسًا وأرضك حديدًا" ووباء العمى والتشتت). يفسر العلماء ذلك بأن سفر التثنية هو وثيقة "مقاومة تخريبية". في القرن السابع ق.م، وفي ذروة الهيمنة الآشورية، قام كتبة يهوذا (ربما في عهد يوشيا) بتبني "صيغة المعاهدة" التي يفرضها الإمبراطور الآشوري، لكنهم استبدلوا "الملك السيد" (أسرحدون) بـ "يهوه". بذلك، كان النص يعلن رسالة سياسية ولاهوتية خطيرة: الولاء المطلق والحب (بالمعنى السياسي للكلمة) لا يجوز لملك نينوى، بل لله وحده. إن "التأثر" هنا هو استخدام لأدوات المستعمر لنزع شرعيته.
4. هل كُتبت التوراة في العراق؟ (السبي البابلي والتحرير النهائي)
يسأل المستخدم صراحة عما إذا كانت التوراة قد كُتبت في العراق. الجواب، وفقًا للإجماع النقدي الأكاديمي، هو: نعم، في صياغتها النهائية.
4.1. السبي البابلي كبوتقة للصهر (586-539 ق.م)
كان تدمير القدس وسبي النخبة اليهودية إلى بابل (العراق) هو الحدث المؤسس للديانة اليهودية بصيغتها الكتابية. في بابل، وجد المنفيون أنفسهم بلا هيكل ولا أرض، مما استدعى تدوين التراث الشفهي والمكتوب للحفاظ على الهوية.
المصدر الكهنوتي (Priestly Source - P): ينسب علماء النقد المصدري جزءًا كبيرًا من التوراة (سفر اللاويين، وأجزاء من التكوين والخروج) إلى "المصدر الكهنوتي". يتميز هذا المصدر بالتدقيق في الأنساب، والتركيز على "السبت" والختان—وهي طقوس يمكن ممارستها في المنفى (العراق) لتمييز اليهود عن البابليين. يتفق معظم العلماء على أن هذا المصدر تبلور في بابل.
ألواح "الياهودو" (Al-Yahudu Tablets): كشفت المحفوظات المكتشفة حديثًا في العراق (مجموعة ألواح الياهودو) عن حياة المنفيين اليهود في بابل. تظهر الألواح مجتمعًا يحمل أسماء يهودية (مركبة مع "ياهو")، منخرطًا في الزراعة والتجارة، ولكنه حافظ على تماسكه الاجتماعي. هذا الاستقرار النسبي وفّر البيئة المناسبة للكتبة لجمع وتدقيق النصوص.
عزرا الوراق: تشير التقاليد اليهودية والتحليل التاريخي إلى شخصية "عزرا" الذي جاء من بابل إلى القدس (حوالي 458 ق.م) حاملاً معه "شريعة موسى". يُعتقد أن عزرا، أو المدرسة التي يمثلها، هو من قام بدمج المصادر المختلفة (J, E, D, P) في التوراة الموحدة التي نعرفها اليوم، وذلك في بابل قبل رحلة العودة.
الخلاصة حول مكان الكتابة: بينما تعود جذور القصص والتقاليد إلى فلسطين (بلاد الشام)، فإن عملية "التأليف" و"التحرير" و"إخراج الكتاب" بشكله النهائي تمت بمرجح عالٍ جداً في العراق (بابل).
الجزء الثاني: البعد الشامي (الكنعاني/الأوغاريتي)
لا يمكن اختزال التوراة في بعدها العراقي فقط، فالنص في لغته وروحه ينتمي إلى "بلاد الشام" (كنعان). يشير المستخدم إلى التأثر بحضارة الشام، وهو ما تؤكده الاكتشافات في "أوغاريت" (رأس شمرا في سوريا).
1. أوغاريت والأصل الكنعاني للغة والصورة
اكتشاف نصوص أوغاريت عام 1929 قدم "الحلقة المفقودة" بين الديانة الإسرائيلية والثقافة الكنعانية. كُتبت هذه النصوص في القرن الرابع عشر قبل الميلاد بلغة سامية شمالية غربية قريبة جدًا من العبرية.
المزامير ودورة "بعل": المزمور 29 يعتبره العلماء مثالاً كلاسيكياً لنص كنعاني أُعيد توظيفه لـ "يهوه". أوصاف "صوت الرب" الذي يكسر الأرز ويُرعد فوق المياه هي ذاتها الأوصاف المستخدمة للإله "بعل" إله العاصفة الكنعاني في صراعه مع "يم" (البحر).
راكب السحاب: لقب "الراكب على السحابات" في المزمور 68 هو لقب حصري لبعل في نصوص أوغاريت، وقد نقله الكتاب التوراتيون إلى يهوه لتأكيد سيادته على وظائف الخصب والمطر التي كان الكنعانيون ينسبونها لبعل.
مجمع الآلهة (Divine Council): فكرة "أبناء الله" (بني إلوهيم) ومجمع القديسين في المزمور 82 وسفر أيوب هي انعكاس مباشر لمجمع الإله "إيل" الكنعاني وأبنائه السبعين.
نظام الذبائح: المصطلحات التقنية للذبائح في سفر اللاويين (مثل كليل، شلاميم، منحة) وجدت مستخدمة في طقوس أوغاريت قبل قرون من تدوين التوراة، مما يؤكد أن "الشكل الطقسي" للعبادة الإسرائيلية هو جزء من النسيج الحضاري الشامي.
الجزء الثالث: التلمود والنصب التذكاري العراقي (الحقبة الساسانية)
إذا كانت التوراة نصاً شامياً حُرر في بابل القديمة، فإن التلمود البابلي (Talmud Bavli) هو نتاج عراقي خالص، وليد الحضارة الرابعة المذكورة في السياق: الإمبراطورية الفارسية الساسانية التي حكمت العراق.
1. أكاديميات النهرين والسياق الجغرافي
أُلّف التلمود بين القرنين الثالث والسادس الميلاديين في الأكاديميات اليهودية الكبرى في العراق: سورا، فمبديثا (الأنبار)، ونهرديعا. النص مشبع بجغرافية العراق: قنوات الري، زراعة النخيل، التجارة النهرية، والطقس الرافديني. اللغة المستخدمة هي الآرامية البابلية اليهودية، وهي لهجة شرقية تختلف عن آرامية فلسطين، ومليئة بالكلمات المقترضة من الفارسية والأكدية.
2. التأثير الساساني: القانون واللاهوت
عاش حاخامات التلمود في ظل الإمبراطورية الساسانية (224-651 م)، وتفاعلوا بعمق مع ثقافتها وقوانينها وديانتها (الزرادشتية).
2.1. التشريع المدني وقاعدة "شريعة الملك شريعة"
صاغ الحاخام البابلي "صموئيل" (المقرب من الملك شابور الأول) القاعدة الشهيرة "دينا دملخوتا دينا" (شريعة المملكة هي الشريعة الملزمة)، مما سمح لليهود بالاندماج في النظام القانوني الساساني. أظهرت الدراسات المقارنة (مثل أبحاث ياكوف إيلمان وشاي سيكوند) تطابقاً مذهلاً بين قوانين التلمود وقوانين الفقه الساساني في مجالات:
قوانين الكفالة والضمان: التفاصيل الدقيقة حول مسؤولية الكفيل وحقوق الدائن في التلمود تعكس القوانين الفارسية المعاصرة.
تصنيف النوايا: التطور في الفقه الجنائي التلمودي حول "نية الفاعل" وتصنيف حالات القتل (العمد، الخطأ، وشبه العمد) يوازي تطورات مماثلة في الفقه الزرادشتي، وهو تعقيد لم يكن موجوداً في القانون الروماني أو الفقه اليهودي الفلسطيني السابق.
2.2. الاشتباك اللاهوتي مع الزرادشتية
الطهارة والنجاسة: يلاحظ العلماء أن التلمود البابلي يبدي هوساً بقوانين الطهارة (مثل طهارة المرأة الحائض Niddah) يفوق ما ورد في التوراة. يُعزى ذلك إلى البيئة الزرادشتية التي تعتبر الحيض والموت مصادر تلوث شيطانية قوية.
علم الشياطين (Demonology): بينما تتحفظ التوراة في الحديث عن الشياطين، يزخر التلمود البابلي بعالم مكتظ بالشياطين (مثل "أشموداي" و"ليليث"). هذا التضخم في عالم الأرواح الشريرة يعكس الثنوية الكونية الإيرانية (الصراع بين أهورامزدا وأهريمان).
الثيوديسيا (عدالة الله): نقاشات التلمود حول "لماذا يتألم الصالحون" تظهر وعياً بالإجابات الثنوية الفارسية، وتدخل في سجال معها لتثبيت التوحيد رغم صعوبة تفسير الشر.
الخاتمة: جدلية الأصالة في بوتقة الحضارات
بناءً على المسح الشامل للأدلة النصية والأثرية، يمكننا صياغة الإجابات النهائية التالية:
هل التوراة والتلمود "حقيقة" أم تأثرت؟ إن السؤال بحد ذاته يفترض تعارضاً غير ضروري. التوراة والتلمود نصوص تاريخية حقيقية، بمعنى أنها نتاج حقيقي لتفاعل العقل الديني اليهودي مع محيطه. "التأثر" بالحضارات الأربع للعراق (سومر في الأساطير، أكد في اللغة، آشور في الهيكل السياسي، بابل في التحرير النهائي) وبحضارة الشام (في اللغة والطقوس) هو الآلية التي تشكلت بها هذه الكتب. لم تنزل هذه النصوص في كبسولة معزولة، بل استخدمت أدوات عصرها—من ملاحم الخلق إلى المعاهدات السياسية—لصياغة رسالة توحيدية متميزة. الحقيقة هنا تكمن في "إعادة التوظيف" و"السجال" وليس في الانعزال.
هل كُتبت التوراة والتلمود في العراق؟
التوراة: نعم، بصيغتها النهائية الموحدة. بينما نشأت التقاليد الشفهية والمصادر الأولية في بلاد الشام، فإن عملية الجمع، والتحرير، والصياغة النهائية (خاصة المصدر الكهنوتي) تمت في بابل (العراق) خلال فترة السبي (القرن السادس ق.م) على يد نخب يهودية متأثرة بالثقافة البابلية.
التلمود: نعم، بشكل قاطع. التلمود البابلي هو صرح أدبي وقانوني عراقي، شُيّد في مدن العراق القديم (سورا، فمبديثا) تحت الحكم الفارسي، وهو يعكس في كل صفحة من صفحاته واقع الحياة في بلاد الرافدين في العصور القديمة المتأخرة.
إن هذه النصوص، بهذا المعنى، هي جسور ثقافية عملاقة ربطت بين وادي الرافدين وساحل الشام، وصهرت ميراث تلك الحضارات العظمى في بوتقة التوحيد الذي استمر حتى اليوم.



#امير_وائل_المرعب (هاشتاغ)       Amir_Wael_Abdulamir_Murib#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحتمية البايوكيميائية لانفلاق التناظر الفائق العظيم
- مناشدة انقذوا السودان الحبيب
- التجريد السير وراء ظل الاشياء ( مقال مشترك)
- التجاوريات وسرعة الهدم
- ميزان العدالة في كونٍ تحكمه الفوضى
- وهم الامة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة
- الشروك واعادة رسم المشهد السياسي العراقي بعد 2003
- هل كانت توجد امة عربية حقا
- سؤال الوجود دالة ام علاقة؟
- انتخابات العراق
- من سومر الى عرب الاهوار
- نقد الفكرة غير نقد الشخص
- تحت مشرط النقد
- رحل وعي من لينين الى نظرية الوتار والوعي الكمي للمادة
- حلزون الوجود - نص تاملي
- “الصورة التي غيّرت كل شيء”
- صفقة تيك توك: تحليل استراتيجي للسيطرة على السردية في الساحة ...
- خطة لتطوير العراق
- الرياضيات اصلها عدم وهي اكتشاف وليس ابتكار
- الوعي مراة كاربونية معقدة للتناظرات الرياضية للكون


المزيد.....




- العاب التضامن الاسلامي: ايران تحصد 4 ميداليات ذهبية وفضية وا ...
- واشنطن تدرس معاقبة نيجيريا ومشاركة البنتاغون بخطة لحماية الم ...
- مطالب بتصنيف -الإخوان- في السودان -تنظيما إرهابيا-
- مصرع مواطنين بحادث سير في سلفيت
- يهود أميركيون زاروا سوريا.. وهذا ما خرجوا به
- صحف عالمية: الوضع في غزة كارثي والضفة تشهد إرهابا يهوديا
- صحف عالمية: الوضع في غزة كارثي والضفة تشهد إرهابا يهوديا
- الاحتلال يقتحم قرية سرطة غرب سلفيت ويداهم المجلس القروي
- بعد تكساس.. هل يمتد -حظر الإخوان- لباقي الولايات الأميركية؟ ...
- كايروس الثانية: حين تواجه الكنيسة العالم بضميره المفقود


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - امير وائل المرعب - علاقة حقيقة الوحي باثار الهلال الخصيب العراق والشام