أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - امير وائل المرعب - ميزان العدالة في كونٍ تحكمه الفوضى















المزيد.....

ميزان العدالة في كونٍ تحكمه الفوضى


امير وائل المرعب
ماجستير هندسة كهرباء جامعة بغداد ومهتم بالادب والشعر والفلسفة والعلوم والرياضيات

(Amir Wael Abdulamir Murib)


الحوار المتمدن-العدد: 8508 - 2025 / 10 / 27 - 08:11
المحور: قضايا ثقافية
    


إن مفهوم "العدالة" (Justice)، في جوهره الفيزيائي، ليس إلا مرادفاً "للنظام" (Order) أو "الانساق" (Pattern). إنه حالة منخفضة العشوائية (Low Entropy)، تمثّل الترتيب في مواجهة الفوضى. لكن المعضلة تكمن في أن القانون الأساسي الذي يحكم هذا الكون، وهو القانون الثاني للديناميكا الحرارية (Second Law of Thermodynamics)، ينص على أن الطبيعة تميل، حتماً وعشوائياً، نحو الفوضى العارمة والاضمحلال.
تنشأ من هذا التوتر "فوضى خلاقة"؛ فمصادر الطاقة غير موزعة بالتساوي، مما يجبر الكائنات الحية — وهي بحد ذاتها ترتيبات جينية نادرة ومعقدة — على خوض صراع مرير للبقاء. كل مخلوق يحمل "شريطاً جينياً" (ما يُعرف بـ "الجين الأناني") ويسعى لنشره، ضامناً استمرار هذا الترتيب النادر.
هذا الصراع من أجل الحفاظ على "الترتيب" هو أصل "التعدي" البيولوجي. فالبقاء يتطلب طاقة، والطاقة تُنتزع. يقوم المفترس بافتراس الفريسة للحصول على بروتين غني بالطاقة بأقل جهد، وفي عالم البشر، قد يلجأ الإنسان للقتل أو الاستغلال للحصول على الموارد التي تضمن له "حياة أفضل" وانتشاراً أوسع لترتيبه الجيني.
الخط الوهمي للحرية
حاول الفلاسفة، مثل جان جاك روسو، رسم خط فاصل لهذه العدالة، فكان تعريفه الشهير: "حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين". لكن هذا الخط، على نُبله، هو مجرد تجريد فلسفي لا وجود فيزيائي له.
لنأخذ مثال النملة: أنت، كإنسان، تحتاج إلى مساحة لتمارس حياتك (الأكل، التكاثر، نشر شريطك الجيني) داخل بيتك المريح. والنملة، بدورها، تحتاج إلى ذات المساحة للغرض نفسه. عندما يعبر النمل هذا "الخط الفاصل" إلى مساحتك، فإنك تسحقه بالمبيد. هذه "إبادة" بيولوجية. من منظور الطبيعة المحايد، لا فرق قيمي بينك وبين النملة؛ كلاكما "ترتيب" نادر يحاول الحفاظ على نفسه.
كلانا، الإنسان والنملة، كمن ربح بطاقة يانصيب كونية نادرة جداً — بطاقة "قلة الأنتروبية" (Negentropy) — ونحن نتشبث بها، رافضين أن يبعثر أحد أرقامها الفائزة. ولأن هذا الخط الفاصل بين مساحات "الترتيب" غير موجود فيزيائياً، فإن القانون السائد هو "الصراع من أجل الوجود": البقاء للأقوى، أو بعبارة أدق، البقاء للأكثر "موائمة" مع المتغيرات، فيما يُعرف بالانتخاب الطبيعي.
أوهام العدالة: القانون والدين والداروينية
أمام هذه الحقيقة القاسية، حاول الإنسان بوعيه أن "يفرض" قانونه الخاص (كنظام منخفض العشوائية) على الطبيعة، مستخدماً أوامر صارمة تنهي حياة من يخرق هذا "الترتيب" المصطنع. لكن من وجهة نظر الديناميكا الحرارية، يظل هذا القانون البشري وهماً عابراً، فالأشياء ستميل حتماً لإعادة الترتيب نحو العشوائية.
ولكي يرضي الإنسان ضميره وهو يمارس الافتراس (سواء باستهلاك مليارات الحيوانات أو بقتل ملايين من أبناء جنسه)، اخترع فكرة "الدين"؛ أي "العدالة المؤجلة" لما بعد فناء الترتيب. لقد كان الدين هو الصمغ الأيديولوجي الذي يبرر الاستيلاء على الموارد، ويشرعن التفوق العرقي أو الطائفي، ويجمع الناس في جماعات تفرض قوانين الطبقة الأقوى على أنها "العدالة" المطلقة.
وهنا فشلت "الماركسية". لقد كانت الماركسية محاولة أخلاقية نبيلة لفرض عدالة حقيقية على الأرض، عبر توزيع الموارد ومساحات الحرية بالتساوي. لكنها اصطدمت بحقيقة أن "الحرية" في مفهومها الغربي الرائج، هي ذاتها مبدأ "القوي يأكل الضعيف" الذي يسمح للفرد بتوسيع مساحة حريته على حساب الآخرين.
هذه هي "الداروينية الاجتماعية" (Social Darwinism) التي تبنتها الرأسمالية الأمريكية. إنها تتوائم تماماً مع قوانين الطبيعة الفيزيائية، لكنها، على عكس الماركسية التي حاولت بناء جنة على الأرض، تفتقر لأي نبل أخلاقي. (ولو وُجدت جنة في السماء، لكانت بالضرورة اشتراكية).
لذلك، يجب أن نقبل بقوانين البشر، فهذا "الحد الأدنى من العدالة" هو ما توصلنا إليه بعد مليارات الضحايا. لا تنتظروا عدالة من "رب" يسمح لسرطان العظام أن يفتك بطفل. الطبيعة غير عادلة بسبب ذلك القانون "الحقير"، القانون الثاني للديناميكا الحرارية. الطبيعة هي أول من استخدم "الأضحية"؛ حين تتراكم الأخطاء الجينية، تختار الطبيعة أحد المواليد وتراكم فيه تلك الأخطاء، فتقتله قبل التكاثر للتخلص من "أخطاء الترتيب"، وهي فكرة استنسخها البشر دينياً.
إنني ماركسي لسبب أخلاقي، وملحد لسبب أخلاقي أيضاً، قبل أن أكون ملحداً لسبب فيزيائي. فلا يقولن أحد أن الدين قانون يرتب المجتمع؛ بل اسألوا الرب الذي يسمح للأسد بالتهام أطفال الغزالة، وللقرش بأكل الأسماك، وللمرض بقتل الجميع بالتساوي. اسألوا عن عدم عدالة توزيع الحظوظ والقابليات الذهنية.
لغة الكون: الرياضيات والتناظر
إن فهمنا لهذا كله يتطلب لغة تتجاوز الكلمات، وهذه اللغة هي "الرياضيات". لم تُدرَّس لنا الرياضيات بشكلها الصحيح؛ هي ليست قوانين صارمة لحل الامتحانات، بل هي "لغة" تصف كيف تتكرر الأنساق والأنماط بطريقة تقود إلى غاية ما. لم يدرسونا "التجاوريات" (Combinatorics) وكيفية تكرارها، بل اكتفوا بالقوانين الصارمة.
نجد هذه اللغة في تناظر أوراق الزهرة، أو في تماثل نجمة البحر، أو حتى في تناظرات الجسم البشري. إن "التناظر" (Symmetry) هو الفكرة الأهم، بل ربما الفكرة الوحيدة في الوجود. إنه الحد الفاصل بين "الوجود" و"العدم"، ومنه نشأت كل قوانين الفيزياء.
كأن قوانين الوجود نشأت عن "العدم" نفسه، عن طريق انقسام "التناظر الفائق" (Super-symmetry) إلى تناظرات أصغر وأنماط متكررة، كل نمط منها يتلاءم مع بيئة وظرف معين. حتى قوى الطبيعة الأربعة ما هي إلا انعكاس "للتناظر العدمي" — ونعني هنا "العدم الفيزيائي" (Physical Void)، وليس "العدم الفلسفي" الذي لا وجود له.
فالطبيعة/المادة خالدة وأزلية. هذه حقيقة أدركها فلاسفة اليونان والفرس والمسلمون. لكن قسماً منهم أضاف فرضية زائدة، وهي وجود قوة خارقة مستقلة أسموها "الإله". هذه فكرة لا حاجة لها، بل إنها تزيد المشهد تعقيداً.
إن تصور "فكر مستقل" عن المادة، لا يحيطه زمان ولا مكان، وأوجد نفسه من لا شيء، هو أصعب على العقل من تقبل العوالم "دون الذرية" (Quantum Realm) التي لا تعترف بالسببية (Causality) خطاً لها. فكيف ينبثق الواقع الملموس من "غيمة احتمالات"؟
يمكن فهم الأمر من زاوية "سوق الأسهم". يعطينا السوق "معدلاً حقيقياً" (قيمة سهم) بناءً على ملايين الاحتمالات غير المكتملة وغير المعروفة. هذه هي فائدة الإحصاء: إيجاد قيمة واقعية من قيم كثيرة غير واضحة. إننا نحصل على واقع ملموس (سوف تمطر اليوم) من افتراضات احتمالية. هكذا يجب أن ننظر إلى نشوء الكون.



#امير_وائل_المرعب (هاشتاغ)       Amir_Wael_Abdulamir_Murib#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وهم الامة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة
- الشروك واعادة رسم المشهد السياسي العراقي بعد 2003
- هل كانت توجد امة عربية حقا
- سؤال الوجود دالة ام علاقة؟
- انتخابات العراق
- من سومر الى عرب الاهوار
- نقد الفكرة غير نقد الشخص
- تحت مشرط النقد
- رحل وعي من لينين الى نظرية الوتار والوعي الكمي للمادة
- حلزون الوجود - نص تاملي
- “الصورة التي غيّرت كل شيء”
- صفقة تيك توك: تحليل استراتيجي للسيطرة على السردية في الساحة ...
- خطة لتطوير العراق
- الرياضيات اصلها عدم وهي اكتشاف وليس ابتكار
- الوعي مراة كاربونية معقدة للتناظرات الرياضية للكون
- التردد الكهروكيميائي والديالكتيك الدماغي وانعكاس وصراع الفكر ...
- السيمفونية الكونية: تحقيق في التناغم الفيثاغوري ونظرية الأوت ...
- العدد - ملخص كتاب بروفيسور جون ماكليش
- المعنى في الوجود الصفري - حوار
- المحرك الكمومي: من الفيزياء النظرية إلى إعادة تشكيل البشرية


المزيد.....




- مع اشتداد إعصار -ميليسا-.. جامايكا تستعد لتهديد من أسوأ عاصف ...
- ترامب يُعلق على اختبار روسيا لصاروخ يحمل رؤوسا نووية.. ويرد ...
- لولا يتوقع -حلا نهائيا- للأزمة التجارية بين البرازيل والولاي ...
- عمار سردار.. العقل المدبر لهجمات إيرانية على أهداف إسرائيلية ...
- فنزويلا: مناورات أميركا في ترينيداد وتوباغو استفزاز لبدء حرب ...
- هجمات بمسيّرات تستهدف العاصمة الروسية.. وإغلاق مطارين
- لغز في بحر الصين الجنوبي.. حادث مزدوج يهز البحرية الأميركية ...
- نار -تشتعل- بين الحريديم وسموتريتش.. غليان في إسرائيل
- خلف ركام غزة.. نشاط إسرائيلي -غامض- يثير المخاوف
- -سفاح الوجوه- يرعب نيويورك.. هجمات غامضة بلا دافع


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - امير وائل المرعب - ميزان العدالة في كونٍ تحكمه الفوضى