أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حكمت الحاج - رسالة فلسفية شعرية.. تراكتاتوس فيلوسوفيكو بويتيكوس















المزيد.....

رسالة فلسفية شعرية.. تراكتاتوس فيلوسوفيكو بويتيكوس


حكمت الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 8525 - 2025 / 11 / 13 - 23:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تراكتاتوس فيلوسوفيكو- بويتيكوس: من منطقية العالم إلى شعرية الوجود.. *
قراءة في Tractatus Philosophico-Poeticus لسِيغْنهْ يِسّينغْ، مع مختارات من ديوانها ..
بقلم: حكمت الحاج *
[أهدي هذه المحاولة إلى سِيغنهْ، وإلى علي بن نخي، بطبيعة الحال]
# تمهيد:/
في ديوانها "رسالة فلسفية–شعرية"، تنطلق الشاعرة الدانماركية "سِيغنهْ يِيسنغ" من العمل الفلسفي الشهير للفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين بعنوان "رسالة منطقية–فلسفية"، أو ما يُتعارف عليه بــ "التراكتاتوس"، وتبني من خلال قضايا في علم المنطق، شعراً يتكوّن من عبارات خَلّاقة في ذاتها، قائمة على النشوة واللذة والإحساس كأساس.
وبينما كان فيتغنشتاين يسعى إلى ابتكار لغة منطقية خالصة، ويرغب في الجمع بين المنطق والفلسفة، تسعى سيغنه ييسنغ إلى الجمع بين الفلسفة والشعر. فهي تُعيد استخدام نظام فيتغنشتاين الذي تُرتّب فيه الجمل ترتيباً رياضياً متسلسلاً بعضها تحت بعض، لغايات شعرية.
إذن، القصيدة - الديوان "رسالة فلسفية–شعرية" (Tractatus Philosophico-Poeticus) هي إعادة كتابة شعرية لكتاب لودفيغ فيتغنشتاين الفلسفي "رسالة منطقية–فلسفية" (Tractatus Logico-Philosophicus). لقد استخدمت الشاعرة من جديد نظام فيتغنشتاين الذكي الذي سعى من خلاله إلى ابتكار لغة منطقية ذات بنية رياضية مُرتّبة في قضايا متسلسلة، مثل الخطاطة التالية:
العبارة 1.01 هي تعليق على العبارة 1.
العبارة 1.011 هي تعليق على التعليق على العبارة 1.
العبارة 1.1 هي الفكرة التالية المُملاة والمشتقة من الفكرة 1.
أما العبارة 2 فهي فكرة جديدة كلياً، لكنها تتبع منطقياً العبارة 1.
تقول الشاعرة في مقدمة ديوانها هذا:
"كان فيتغنشتاين يريد أن يَجمع بين المنطق والفلسفة في رسالته. أما أنا فأريد أن أُوَحِّد بين الفلسفة والشعر، وأن أُنشئ قضايا تكون خَلّاقة في ذاتها، على شاكلة الشعر، ولكن بصرامة منطقية فلسفية. وكما كان فيتغنشتاين مهتماً في عمله بـ «الحدّ» الذي يُشكّل البنية المهيمنة لرسالته، فإنني أنطلق من «النشوة» كأساس لعملي الشعري– وهو ما يختلف عن فيتغنشتاين الذي افترض النشوة كإمكانية خارج النص، بينما أراد هو من خلال نصه أن يُعيد إنتاج الحدّ ذاته لما يمكن قوله".
وتواصل الشاعرة سيغنه ييسنغ قائلة في مقدمتها: "إن الأبيات المفردة في قصيدتي مركبة بحيث تحاول النطق بما لا يمكن النطق به. إنها تنطلق من وحدات كونية لتواجه ما يأتي بعد كل شيء، وما لا ينبغي أن يُقال أصلاً. وهكذا يتم التماهي بين "اللاممكن قوله" وبين "المتعالي"، ليُكتب حَدّ "المعنى" متداخلاً مع حَدّ "الكمّ". فإذا ما نُظر إلى القصيدة ككتلة من الوحدات المنطقية المتراكمة، فإن «القضية» التي تلي مفهوم «العالم» يجب أن تكون غير قابلة للنطق، لأن العالم يُعطى معنى عبر «كل ما هو موجود»، ومن ثمّ، تتألف القصيدة من تعديل لفكرة الكلية، كأنَّ المنطوق يقف في علاقة توتّر مع اللامنطوق، إذ إن ما يُقال من خلال البنية المنطقية للقصيدة يقع، منذ البداية، خارج مفهوم «الكلّ»، إذا أُردنا النظر إلى المعنى كـ«هيكل منطقي»، مثلما أن يُدرَك المعنى كما لو كانت القصيدة بمثابة «سقالة أو آلة منطقية» بالمعنى الذي يقصده فيتغنشتاين (انظر التراكتاتوس Tractatus 3.42)".
تعمل القصيدة على النشوة أو اللذة بوصفها شرطاً لانوجاد العالَم. فإمكانية العالم تُمنح أسبقية أنطولوجية، من حيث كونها نقطة الانطلاق التي يتجاوزها العالم عند تحققه. إن طابع العالم كإمكانية يعني أن إمكانيات العوالم المتعددة تُعدّ ملزمة منطقياً. ويُنظر إلى العالم كظاهرة في ضوء "نظرية المجموعات" الرياضية التي تقول إن العناصر التي لا تُشكّل أجزاءً من مجموعةٍ ما، هي عناصر مستحيلة ليس إلا.
يمتدّ بناء القصيدة على مدار تخيّلٍ لولادة عالمٍ ما، ثم حضوره النشوي اللّذّوي أو اللذائذي، وانتهائه النهائي إلى العدم.
جدير بالذكر أن فيتغنشتاين نفسه كان قد استعار فكرة عنوان رسالته من رسالة الفيلسوف باروخ سبينوزا المعروفة "رسالة لاهوتية–سياسية" (Tractatus Theologico-Politicus) والتي ترجمها د. حسن حنفي سابقا بعنوان "رسالة في اللاهوت والسياسة"!
والآن معاً، إلى قراءة هذا الديوان:/
---
# في مطلع القرن العشرين صاغ لودفيغ فيتغنشتاين مشروعه اللغوي في كتابه Tractatus Logico-Philosophicus بهدف إقامة حدٍّ نهائي بين ما يمكن قوله وما يجب السكوت عنه. لقد أراد أن يجعل اللغة مرآة صافية للواقع، لا ميدانًا للتعبير عن الذات أو الخيال. وبعد قرنٍ تقريبًا تأتي الشاعرة الدانماركية سيغنه يِسّينغ لتقلب المبدأ رأسًا على عقب في ديوانها Tractatus Philosophico-Poeticus، فتكتب ما لا يمكن قوله، وتجعل من منطق فيتغنشتاين مادةً جمالية تتوهّج بالدهشة والوجود.
هكذا يتحوّل الصمت الذي ختم به فيتغنشتاين كتابه إلى موسيقى لغوية، ويتحوّل العالم من منظومة منطقية إلى قصيدة تتنفّس. ما تقوم به يِسّينغ ليس محاكاة للمنطق، بل تأويل شعري له؛ فهي تُعيد إنتاج البنية الرقمية نفسها (1، 1.1، 1.11…) ولكنها تملؤها بالحياة، وتجعل من كل رقم درجةً في سلّم الوعي والكينونة.
كان العالم عند فيتغنشتاين بنيةً من الوقائع، والعلاقة بين اللغة والعالم علاقة تطابق. كل جملة هي “صورة” لواقعة، وما لا يُصوَّر لا يُقال. غير أن هذا التصوّر ينهض على مفارقة صامتة: فما لا يمكن قوله هو عين ما يهب الوجود معناه.
تستثمر يِسّينغ هذه المفارقة نفسها لتؤسّس عليها شعرها. المنطق عندها ليس غاية بل إطار احتواء لما يتفلّت من المعنى. ما يهمّها ليس ما "يُقال" بل ما "يُلامَس" أو "يُحَس"؛ ولذلك فإن الأرقام التي تنسّق مقاطعها تعمل كعلامات على طريق الكشف، لا كترتيب هندسي. من داخل لغة فيتغنشتاين الصارمة تولد لغة جديدة تمزج المحدود باللامحدود، لتعلن أن العالم ليس كلّ ما هو حاصل، بل كلّ ما يمكن تخيّله.
---
# التحوّل الشعري، من المنطقي إلى الوجودي:/
العبارة الشعرية الأولى في ديوانها تقول: «العالم يتلفّت حوله، ثم ينشأ، متخذاً وضعه»، تشكّل لحظة انبعاث. فالعالم لم يعد ثابتًا في شبكة الوقائع، بل كائنٌ يلتفت ويدرك نفسه. يتحوّل المنطق هنا إلى حركة حسّية، ويصبح الوجود فعلَ وعيٍ مستمرّ.
> العالم يتلفّت حوله، ثم ينشأ، متخذاً وضعه.
هذه العبارة الشعرية الافتتاحية تتنفس كأنها إعادة خلق للفقرة الافتتاحية في تراكتاتوس فيتغنشتاين:
> "العالم هو كل ما هو حاصل."
لكن يِسّينغ تمنح العالم وعياً بنفسه: العالم هنا “ينظر حوله”، يتأمل ذاته، ثم “يتخذ وضعاً” ككائن حيّ.
هنا المنطق يتحوّل إلى حيوية. الفلسفة تتحوّل إلى مشهد شعري لولادة الكون.
بهذه الطريقة تنقل يِسّينغ اللغة من كونها أداة تمثيل إلى كونها فضاء توليد. العالم لا يُعطى للغة، بل يتكوَّن داخلها. إنها تنفّذ ما يمكن تسميته "التحوّل الأنطولوجي للغة" حيث الكلمة ليست انعكاسًا لشيء، بل سببٌ في وجوده.
هذا الانعطاف يجعل من الشعر نوعًا من التجريب الوجودي، يوازي التجريب المنطقي عند فيتغنشتاين، ولكن بنبرة وجدانية صافية. فالمنطق عندها ليس قيدًا بل طريقًا نحو البهاء.
---
# يحافظ النص على ترقيم فيتغنشتاين كهيكل عظمي، لكن الجسد الذي يكسوها شعري. كل رقم يحمل توترًا بين النظام والانفلات. العبارات قصيرة، متوازنة، أشبه بومضات تأمل. الكلمات تتراوح بين الحسيّ والمجرّد: "الورود" ، "النجوم" ، "الحرير" ، "العالم" ، "الوجود" . هذه المفردات تخلق شبكة رمزية تجمع المادي بالميتافيزيقي.
إن ما تفعله يِسّينغ هو تحويل الرياضيات إلى موسيقى. الترتيب العددي يصبح إيقاعًا داخليًا، والانتظام المنطقي يتحوّل إلى تنغيم. هنا تلتقي الفلسفة بالشعر كما يلتقي العلم بالغناء: كلاهما يسعى إلى التناسق، لكن أحدهما يعقله والآخر يشعره.
---
# القارئ بين المنطق والانفعال:/
يمنح هانز روبرت ياوس في نظريته للتلقي موقعًا مركزيًا للقارئ، بوصفه من ينجز العمل الفني في لحظة الفهم. بناءً على هذا التصوّر، تشكّل قصيدة يِسّينغ تحدّيًا لأفق التوقّع أو ما يسميه البعض "أفق الانتظار".
القارئ الذي يدخل النص من باب المنطق يجد نفسه في متاهة المجاز؛ يتوقّع برهانًا فيصادف استعارة. لكن هذا الانزياح أو العدول لا يُربكه، بل يدعوه إلى المشاركة في صناعة المعنى. اللغة لا تشرح، بل تفتح أفق مشاركة حسّي_معرفي بين النص وقارئه.
وبهذا يتحقّق شرط ياوس الجمالي: انكسار الأفق القديم، وولادة أفق جديد يتّسع لما لم يكن متوقَّعًا أو منتَظَرًا. فالتجربة "التلقّوية"، إن صَحَّ التعبير، هنا ليست تواصلاً أحاديًا، بل لقاءً علائقيًا بين منطقٍ يتداعى وشعرٍ يتشكّل.
---

# القصيدة كعلاقة لا ككيان:/
يرى "نيكولا بوريو" أن الفن الحديث لم يعد موضوعًا معزولًا، بل علاقة مفتوحة بين الذوات والأشياء. ما يهمّ ليس المنجز، بل الحدث الذي يقع في "الما_بين". هذا بالضبط ما تمارسه يِسّينغ: القصيدة عندها ليست نصًّا مكتفيًا بذاته، بل فضاء تفاعلي بين اللغة والعالم.
حين تقول إن الوجود “يعد العوالم الممكنة بالكثير”، فهي تصوغ وعدًا علائقيًا لا يتحقّق إلا بعبوره إلى القارئ. القصيدة إذن حدث تواصلي، شبكة ارتجاف بين الممكن والمتحقّق.
بفضل هذا البعد "العلائقي" تتحرّر القصيدة من التمركز حول الذات، وتتحوّل إلى نظام مشاركة جمالي يشبه “المعمل” الذي وصفه بوريو: مختبر صغير تُجرَّب فيه العلاقات الإنسانية والمعرفية، لا لتُثبَت، بل لتُعاش.
---
# الاختلاف والأثر، والمعلم دريدا:/
يُدخل جاك دريدا مفهوم différance (الاختلاف والإرجاء) بوصفه قلب الدينامية اللغوية. فالمعنى لا يكتمل، بل يتأجّل دائمًا ويترك أثرًا في الذي يليه.
في Tractatus Philosophico-Poeticus تتجسّد هذه الحركة بوضوح: كل رقم يولّد رقمًا لاحقًا، وكل عبارة تُرجئ معناها نحو التالية. فالمعنى لا يقيم في عبارة واحدة، بل في الفاصل بين العبارات، في الفراغ المضاء بين الكلمات.
هكذا يصبح الترقيم ذاته بنية تفكيكية: ما يبدو منظمًا هو في الحقيقة انفتاح دائم. وما يبدو منطقًا هو أثر متناقص للامعنى. يِسّينغ تكتب الشعر كما يكتب دريدا الفلسفة: عبر الهدم الإبداعي للثبات.
بهذا المعنى، قصيدتها ليست نصًا، بل سلسلة من آثار اللغة على نفسها، تعلن أن الفكر لا يسكن المفهوم، بل يسكن رحلته نحو اللامفهوم.
---
# للنص لذائذه بينما المؤلف ميت:/
حين تحدث رولان بارت عن "موت المؤلف"، أراد تحرير النص من السلطة الأحادية للذات الكاتبة. يِسّينغ تمارس هذا التحرير بوعي جمالي كامل: لا نسمع صوت الشاعرة، بل صوت اللغة نفسها وهي تفكّر.
إلى جانب ذلك، يستعيد النص مفهوم "اللذة" عند بارت. فبعد برودة المنطق، تعود الحرارة الحسية إلى اللغة: الوردة، الحرير، النجوم، كلّها رموز جسدية تُعيد للعقل ملمس الجسد. هنا تتّحد اللذة بالفكر، فيتولّد ما يمكن تسميته بـ إيروس المنطق؛ أي المتعة التي تنبع من التفكير حين يصير جسدًا. القصيدة بهذا المعنى لا تُقرأ بالعقل وحده ولا بالعاطفة وحدها، بل بالاثنين معًا في لحظة تجاوز، حيث الفكر يتلذّذ بقدرته على أن يكون محسوسًا.
---
# نظرة من الفينومينولوجيا نحو الأنطولوجيا:/
يمكن أيضًا قراءة تجربة يِسّينغ من منظور فينومينولوجي قريب من هايدغر وميرلو-بونتي. فالعالم ليس معطًى موضوعيًا، بل يُعاش كظهورٍ في اللغة. إن "العالم الذي يتلفّت" عندها هو وعيٌ بالعالم بوصفه حضورًا متجددًا، لا كيانًا مكتملًا. تلتقي هنا الفينومينولوجيا بالشعر، إذ يصبح القول نوعًا من "الإقامة في اللغة" كما قال هايدغر. والقصيدة بيت هذا السكن، فيها يقيم الإنسان لا باعتباره كائنًا منطقيًا، بل ككائنٍ شاعر. وهكذا يُعاد تعريف الحقيقة: فالحقيقة ليست تطابقًا بين الجملة والواقع، بل انفتاحًا للكينونة على أفقها اللغوي. الشعر هو إذن شكل الوجود حين يعي ذاته.
---
يصل الكتاب الشعري هذا إلى ذروته في الإقرار بأن العالم "كلّ ما هو متخيَّل"، لا "كل ما هو حاصل" . بهذا المعنى تتبدّل فلسفة اللغة إلى ميتافيزيقا الإمكان.
العالم هنا ليس ثابتًا، بل طيفًا يتشكّل كلّ مرة تُقال فيها كلمة. الشعر لا يصفه، بل يخلقه. وهنا تلتقي يِسّينغ مع تراثٍ صوفي_فلسفي_هرمسي_غنوصي عالمي، من هيراقليطس إلى ابن عربي والملا صدرا الشيرازي، في اعتبار الكلمة هي أصل الوجود. فكل جملة في كتابها هي ومضة خلق صغيرة، تُعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والعالم، بين اللغة والصمت، بين العقل والحلم. المنطق لم يُلغَ، بل تحوّل إلى آلة للانبهار؛ ما يبرّره العقل يستعيده الخيال كفرحٍ خالص بالوجود.
---
نختم بالمسك فنقول:/
إذا كان فيتغنشتاين قد ختم كتابه الفلسفي بقوله "ما لا يمكن الحديث عنه ينبغي نبذه أو الصمت حياله"، فإن سيغنه يِسّينغ تفتتح كتابها الشعري بما يفترض نقيضه: "ما لا يمكن الحديث عنه يجب أن يُغنّى شِعراً". لقد حولت الصمت إلى لغة، والمنطق إلى إيقاع، والفكر إلى تجربة وجدانية. وفي ذلك يتحقق اللقاء بين المقتربات الجمالية الأربع التي اعتمدناها: عند ياوس: يتحقق النص في القارئ الذي يُعيد بناءه كل مرة. عند بوريو: تنشأ القصيدة كعلاقة بين الذوات لا ككائن مكتمل. عند دريدا: يتجلى المعنى في الاختلاف والأثر لا في التحديد. عند بارت: تنبع لذة النص من انفتاحه على الجسد والاحتمال.
كلّ هذه الرؤى تتقاطع في مشروع يِسّينغ الذي يمكن تلخيصه بعبارة واحدة: الشعر هو استمرار للفلسفة بوسائل الجمال.
فالعالم الذي أراده فيتغنشتاين منظومًا في قضايا منطقية، جعلته يِسّينغ يعيش من جديد في قصائد تتنفّس. والمنطق الذي كان حدًّا صار طريقًا نحو اللامحدود.
هكذا ينتقل الفكر من صرامة البناء إلى حرية الحلم، ليكتشف أن اللغة ليست مرآة للعالم، بل مرآة للدهشة التي تخلق العالم.



# هامشان ضروريان:/
* هذا المقال يشكل الحلقة الرابعة من سلسلتي النقدية التي دأبت على نشرها تحت عنوان "الفلسفة والشعر: ما العلاقة!" وتجدون الحلقات جميعها منشورة على موقع "مجلة كناية الرقمية الثقافية المستقلة" وموقع "الحوار المتمدن".
* سيغنه ييسنغ أو سينه غيسينغ Signe Gjessing [من مواليد 1992 في فيست همرلاند] شاعرة دانماركية. صدر ديوانها الأول عام 2014 [نُشر بالسويدية بعنوان Ut i det olösa عام 2016]، وقد حاز على أكبر جائزة دانماركية للكتاب الشباب. أما ديوانها الثاني [الأحداث المثالية، 2017 فقد ترجم إلى السويدية عام 2019].
ديوانها " رسالة فلسفية – شعرية" (Tractatus Philosophico-Poeticus) هو رابع مجاميعها الشعرية، قامت بنقله للسويدية: الشاعرة هيلينا بوبرغ، وصدر عن دار النشر مودرنيستا، في ستوكهولم عام 2021.


# ملحق// مختارات من:
Signe Gjessing’s Tractatus Philosophico-Poeticus
(الترجمة إلى العربية: حكمت الحاج)

* نعيد للقاريء تأكيد الملاحظة هنا حيث تُرقّم الجمل كأطروحات منطقية، لكن هنا تُستعمل اللغة لقول ما لا يمكن قوله بالمنطق وحده.. الوجود وقد صار ذاتًا تتأمل نفسها في الشعر.

1
العالم يتلفّت حوله،
ثم ينشأ، فاتناً، متخذاً وضعه.

1.01
ها هو العالم.

1.011
الواقع يلوح قليلاً هنا.

1.0111
تكتشف الإمكانياتُ الطريقَ المختصرةَ للواقع: فينشأ العالَم.

1.1
العالم هو كل ما يمكن تصوّره.

1.11

الوجود يتوقّع العالَم، هذا هو كل شيء.

1.12
يَعِدُ الوجودُ العوالم الممكنة بأكثر مما ينبغي: العالَم.

1.121
الورود ربما أنيقة أكثر من اللازم مقارنةً بالنجوم.

1.1211
نجوم الورود؟ النجوم ستفكّر في الأمر أثناء نومها.

1.2
عالمٌ واحد يُفضي إلى اضطرابات.

1.3
ينبغي النظر إلى العالم بوصفه تقديراً، تخميناً.

1.31
ينفر الكون من أن يعمِّم نفسه بصرامةٍ مفرطة،
ما دام الصيف يعمِّمه بكل حرّيته.

1.311
قد يُشبه الكونُ مغامرةً عشوائيةً حين يفقد قدرته على التركيز.

1.312
ليس ثمة حاجة إلى كثيرٍ من الحرير من أجل «كوننةٍ» جديدة.

1.4
يمكن تعزيز الإحساس بالوجود في العالم بقليلٍ من الوجود، إن أراد المرء ذلك.


2
الوجود يتجاوز هنا ما هو أكثر وضوحًا.

2.1
هناك يكمن الكائن الوحيد.

2.2
لا، لا، الوجود لا يزعج على الإطلاق.

2.3
الوجود لا ينتمي إلى أحد.

2.4
الوجود ظرفٌ مخفِّف: العدم. ومع ذلك.

2.41
يشير الكون إلى السكون حين "يكون".

2.5
يستطيع الوجود مسبقًا أن يرى متى يريد شيء ما أن يُوجَد،
لأنه يدور حول نفسه،
ويقول إنه سيصير خالدًا.
---
(انتهى المقال والمختارات والهوامش)



#حكمت_الحاج (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرواية العراقية ما بعد الغزو
- قصة المصعد.. قصة الدقيقة الواحدة
- صديق البحر الأخير
- تعاويذُ وَلُقى
- الميتا-لغة والشعر والما-صدق بحسب فيتغنشتاين
- حينما يفكر المعلم في لحن شارد: مرثية إلى زياد
- النص اليتيم وتداعياته
- قسطنطين كافافي في قصيدتين لهُ نُشرتا بعد وفاته
- دعاء الطلسم
- أروندهاتي روي وزيرة للسعادة القصوى والحداثة الفائقة
- في انتظار جائزة نوبل للآداب لهذا العام 2025..
- ما هو الله؟ خمس ترجمات لقصيدة واحدة
- ثلاثية الجنوب
- قبل موعد القتل بقليل
- مولع بفتغنشتاين
- داس كابيتال
- أنا نقطة في بحرك
- يناير 1904 قصيدة لقسطنطين كافافي نشرت بعد وفاته
- سبتمبر: قصيدة مترجمة لكافافي
- أربع أغنيات


المزيد.....




- افتتاح منتزه -بيست لاند- الترفيهي في السعودية
- ميشيل يوه تلفت الأنظار بإطلالة -مستقبلية- في سنغافورة
- رغم تدمير معظم مستشفيات غزة.. إسرائيل تخطط لترحيل مرضى فلسطي ...
- الإمارات تعلن نتائج تحقيقات بقضية محاولة -تمرير عتاد عسكري- ...
- نائب رئيس -المؤتمر-: التاريخ يبرر -مخاوف التطرف- في السودان ...
- إحباط محاولة اغتيال مسؤول روسي رفيع في مقبرة.. أجهزة الأمن ا ...
- اقتحم السجادة الحمراء.. معجب يندفع فجأة نحو أريانا غراندي وس ...
- كيت بلانشيت تدعم الموضة المستدامة بإطلالة -ريش نباتي- في ميو ...
- سامي حمدي الصحفي البريطاني الذي احتجزته دائرة الهجرة بأمريكا ...
- ليس عملاً سهلاً… لماذا قد يرغب أي شخص في أن يصبح المدير العا ...


المزيد.....

- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حكمت الحاج - رسالة فلسفية شعرية.. تراكتاتوس فيلوسوفيكو بويتيكوس