عبير خالد يحيي
الحوار المتمدن-العدد: 8523 - 2025 / 11 / 11 - 16:56
المحور:
الادب والفن
بقلم الناقدة د.عبير خالد يحيي
مقدمة
في مثل هذا اليوم، الحادي عشر من نوفمبر، وُلد فيودور ميخايلوڤيتش ديستوفسكي (1821–1881)، أحد أعظم من أنجبت روسيا والعالم من الروائيين الذين نقلوا الأدب إلى عمق النفس الإنسانية. لم يكن ديستوفسكي مجرد كاتب روائي، بل كان عالمَ نفسٍ بالفطرة، بلغة الأدب، يستنطق الظلّ في أعماق الإنسان أكثر مما يصف السطح. امتزجت حياته الصاخبة بالعذاب والمنفى والمرض، لتنتج أدبًا يلتقي فيه الفلسفة بالدين، والعقل بالعاطفة، والذنب بالخلاص.
أولًا: ديستوفسكي وعلم النفس
سبق ديستوفسكي علم النفس الحديث في توصيف ظواهره وتحليلها الأدبي. شخصياته ليست مجرد أدوات للحبكة، بل مختبرات بشرية تتفاعل فيها العقد النفسية والهواجس الداخلية والتجارب الوجودية.
في رواية «الجريمة والعقاب»، نجد البطل راسكولنيكوف يعيش صراعًا داخليًا بين "الفكرة" و"الضمير"، بين الإرادة الحرة وحدود الأخلاق، في حالة تحليل نفسي لم تعرفها الرواية قبله. أما في «الأبله»، فيرسم صورة عن النقاء المفرط الذي يصطدم بالشر الإنساني، فينتج المرض العقلي والروحي. وفي «الإخوة كارامازوف»، يبلغ عمق التحليل النفسي ذروته، إذ تتجسد الثنائية الأبدية بين الإيمان والإنكار، وبين الأبوة والذنب.
لقد استبق ديستوفسكي ما سيقوله فرويد ويونغ بعقود؛ إذ وصف بدقة الصراع بين ال هو وال أنا، وفصّل في علاقة الإنسان بالذنب والعقاب، وبحث في طبيعة الإيمان كعلاج نفسي للقلق الوجودي. يرى بعض النقاد أن التحليل النفسي الفرويدي ليس سوى “قراءة متأخرة في نصوص ديستوفسكي”.
ثانيًا: خصائص أدبه
يُجمع النقاد على أن أدب ديستوفسكي يتميز بعدّة سمات فريدة جعلته حجر زاوية في الرواية الحديثة:
1. التحليل النفسي والوجداني:
يصور أبطاله في لحظات الذروة العاطفية والاضطراب الداخلي، فتغدو كل شخصية مرآةً للوعي الإنساني الممزق بين الخير والشر.
2. تعدد الأصوات (البوليفونية):
كما بيّن باختين، لا صوت واحدًا في رواياته، بل تتعدد وجهات النظر المتصارعة لتخلق حوارية فكرية عميقة بين الأيديولوجيات والضمائر.
3. البنية الفلسفية والدينية:
سؤاله الأبرز هو:
"هل يمكن أن يكون الإنسان أخلاقيًا بلا إله؟"
وهو سؤال يتكرر في أعماله جميعًا، ضمن جدلية بين الإيمان والتمرد.
4. الواقعية النفسية:
ليست واقعيته تصويرًا خارجيًا، هي واقعية داخلية تتعامل مع الدوافع، الأحلام، الهلوسات، والذنب كحقائق نفسية أكثر من كونها مواقف اجتماعية.
5. التوتر الدرامي والرمز:
رواياته تُبنى على أفعال صادمة (كجريمة القتل في «الجريمة والعقاب») تمثل مدخلًا إلى تفكيك البنية النفسية للإنسان.
ثالثًا: شهادات نقدية عليه
سيغموند فرويد كتب عن ديستوفسكي قائلًا: "هو الأعظم بين الكتّاب، لأنه استطاع أن يصف ما يختبئ في اللاوعي الإنساني قبل أن يُكتشف التحليل النفسي ذاته."
ألبير كامو اعتبره من "الأنبياء الأخلاقيين"، وقال:
"كل الأدباء بعد ديستوفسكي يعيشون في ظله."
نيتشه قال عنه: "ديستوفسكي هو الوحيد الذي علّمني شيئًا عن النفس البشرية."
تولستوي وصفه بأنه "كاتب العذاب المقدّس"، بينما رأى (هيرمان هِسّه) أن شخصياته "تحيا في عالم بين الجنون والتنوير، كأنها انعكاس للإنسان في أقصى حدود وعيه".
رابعًا: أثره في الأدب الحديث
أثر ديستوفسكي امتد إلى الأدب الأوروبي والعالمي: من كافكا وبروست إلى سارتر وفوكنر، وصولًا إلى الرواية النفسية الحديثة. بل إن المدارس الوجودية والعبثية كلها مدينة له؛ إذ كان أول من جعل الإنسان مركزًا للتساؤل لا للجواب.
وفي العالم العربي، تأثر به كتّاب كـ نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن منيف، الذين اقتربوا من التحليل النفسي والاجتماعي للشخصيات المتأزمة.
خامسًا:
أثر ديستوفسكي في النقد العربي الحديث
لم يكن حضور ديستوفسكي في الثقافة العربية مجرد ترجمةٍ لأعماله، بل كان تحولًا في الوعي النقدي وتبدلًا في فهم الأدب بوصفه علمًا للنفس والإنسان.
منذ بدايات القرن العشرين، ومع دخول ترجمات «الجريمة والعقاب» و«الأبله» و«الإخوة كارامازوف» إلى العربية، بدأت تتشكل طبقة من القراء والنقاد ترى في الأدب مساحة للتحليل النفسي والاجتماعي، لا مجرد سردٍ للوقائع.
1. ديستوفسكي والنقد النفسي العربي
مع ازدهار النقد النفسي في النصف الثاني من القرن العشرين، أصبح ديستوفسكي مادةً خصبةً للتحليل.
رأى د. مصطفى سويف ود. شاكر عبد الحميد في أدبه نموذجًا يُجسّد التوتر بين الغريزة والأخلاق، وبين الشعور بالذنب والبحث عن الخلاص.
وقد أشار شاكر عبد الحميد في كتابه الدراسة النفسية للأدب إلى أن روايات ديستوفسكي تمثل "تحليلًا عميقًا لما قبل فرويد"، لأنها تقدم شخصيات تُفكّر باللاشعور وتتحرك بدوافع لا يمكن السيطرة عليها.
أما يوسف نوفل وغالي شكري فقد وجدا فيه الكاتب الذي جعل الرواية ساحةً لصراع الذات مع ضميرها، وهو ما سيظهر لاحقًا في الرواية العربية ذات النزعة النفسية.
2. أثره في الرواية العربية
امتد أثر ديستوفسكي إلى الروائيين العرب الكبار:
نجيب محفوظ في «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» استلهم منه فكرة “الذنب والعقاب” والبحث عن الخلاص.
توفيق الحكيم اقترب من فكرته حول "الجنون والعقل" في «يوميات نائب في الأرياف».
وفي أدب عبد الرحمن منيف وغسان كنفاني وإلياس خوري، تتجلى الرؤية الديستوفسكية في رسم الإنسان المقهور الباحث عن معنى وجوده في عالم ينهار أخلاقيًا وسياسيًا.
3. ديستوفسكي والمنهج الذرائعي
من منظور النقد الذرائعي العربي المعاصر، يُعَدّ ديستوفسكي نموذجًا تطبيقيًا مبكرًا للمنهج الذي يقوم على تحليل النص من داخل التجربة الإنسانية الكاملة.
فهو يحقق مستويات النظرية الذرائعية في آنٍ واحد:
المستوى الأخلاقي :
إذ يجعل الخير والشر محور كل سرد، ويطرح سؤال الضمير في صميم الفعل الروائي.
المستوى النفسي:
إذ يعرض البنية اللاشعورية للشخصيات في تفاعلها مع العالم الخارجي.
المستوى الإيحائي : حيث يخلق فضاء رمزيًا متعدد الطبقات، يجعل القارئ شريكًا في التأويل.
المستوى التجريبي: لأنه ينطلق من تجربة الكاتب الشخصية (السجن، المرض، الفقد) ليفهم بها الآخرين.
بهذا المعنى، يمكن القول إن ديستوفسكي هو “الذرائعي قبل الذرائعية”، لأنه كتب من داخل الضمير الإنساني، ومن داخل التجربة، وليس من خارجها.
خاتمة:
من روسيا القرن التاسع عشر إلى النقد العربي المعاصر، ظلّ ديستوفسكي مرآةً للإنسان في أقصى درجات ضعفه ووعيه.
إنّ كل مقاربة نقدية جادّة تبحث في التكوين النفسي للشخصيات، أو في علاقة النص بالضمير، تجد جذورها لديه.
ولذلك، فإن الاحتفاء بذكراه ليس مجرد تذكّرٍ لكاتب عظيم، بل هو عودة إلى جوهر الأدب نفسه: أن يضيء عتمة النفس، ويحوّل العذاب إلى وعيٍ بالجمال والمعنى.
المصادر والمراجع
استندت هذه الدراسة إلى مجموعة من المراجع العالمية والعربية التي تناولت شخصية فيدور ديستوفسكي وأثره في علم النفس والأدب الحديث. من أبرزها:
موسوعة بريتانيكا التي قدّمت سيرة دقيقة للكاتب وتطوّر تجربته الأدبية والفكرية،
وموقع Mad in America الذي تناول الجانب العلاجي والنفسي في أدبه،
ومقالات Middlebury College التي حلّلت البنية النفسية لشخصياته ضمن مقاربة أكاديمية،
إلى جانب دراسات عربية مرجعية مثل كتاب الدراسة النفسية للأدب للدكتور شاكر عبد الحميد الذي ربط بين التحليل النفسي والأدب،
وكتاب الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية لعبد الرزاق عودة الغالبي وعبير خالد يحيى، الذي أضاء على المستويات الذرائعية (الأخلاقي، النفسي، الإيحائي، التجريبي) في النصوص الأدبية، وهي المستويات التي جسّدها ديستوفسكي بوعيٍ فنيّ سابق لزمنه.
بهذه المراجع والدلالات المقارنة، حاولت الدراسة أن تجمع بين الرؤية النفسية والمنهج الذرائعي في قراءة ديستوفسكي، لتُظهر كيف تحوّل أدبه إلى مرجع تأسيسي لتحليل الضمير الإنساني بوصفه بنيةً فنيةً وأخلاقيةً في آنٍ واحد.
المراجع
Britannica. (2024). Fyodor Dostoyevsky: Russian novelist and philosopher. Retrieved from https://www.britannica.com/biography/Fyodor-Dostoyevsky
CliffsNotes. (2024). Fyodor Dostoevsky Biography. Retrieved from https://www.cliffsnotes.com/literature/c/crime-and-punishment/fyodor-dostoevsky-biography
Cana Academy. (2023). Fyodor Dostoevsky: A Brief Biography. Retrieved from https://www.canaacademy.org/blog/fyodor-dostoevsky-a-brief-biography
Mad in America. (2023, October). Dostoevsky the Psychologist: Exploring Trauma and Healing through Literature. Retrieved from https://www.madinamerica.com/2023/10/dostoevsky-psychologist
Middlebury College. (n.d.). Psychology and Dostoevsky’s Characters. Retrieved from https://community.middlebury.edu/~beyer/courses/previous/ru351/studentpapers/Psychology.shtml
Fyodor-Dostoevsky.com. (2023). Features of Dostoevsky’s Work: Psychologism, Polyphony, Detective Plots. Retrieved from https://fyodor-dostoevsky.com/articles/features-of-dostoevskys-work
Bookishelf. (2023). The Psychology of Dostoevsky: Exploring Human Nature Through Literature. Retrieved from https://www.bookishelf.com/the-psychology-of-dostoevsky-exploring-human-nature-through-literature
عبد الحميد، شاكر. (1998). الدراسة النفسية للأدب. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
سويف، مصطفى. (1984). الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة. القاهرة: دار المعارف.
نوفل، يوسف. (2005). النقد الأدبي الحديث: اتجاهاته ومناهجه. القاهرة: دار الفكر العربي.
الغالبي، عبد الرزاق عودة، ويحيى، عبير خالد. (2019). الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية. طنطا: دار النابغة للنشر والتوزيع.
#عبير_خالد_يحيي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟