أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم اليوسف - غيابة نرمين في يومي الحزين في رحيل ابنة صديقي د. برزو محمود















المزيد.....

غيابة نرمين في يومي الحزين في رحيل ابنة صديقي د. برزو محمود


إبراهيم اليوسف

الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 16:58
المحور: الادب والفن
    


غيابة نرمين في يومي الحزين
في رحيل ابنة صديقي د. برزو محمود

إبراهيم اليوسف


لقد غدا اليوم الذي ظننته يوماً للذكرى، لا للرحيل، يوماً غيّر مسار الذاكرة كلّها. جدد فيه الألم، ومنحني ألماً من نوع آخر، بسبب عدوى ألم المحيط الذي يشكل أديماً روحياً. استيقظت وأنا أتهيأ للحديث مع إخوتي وأخواتي في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل أبي- كما أفعل ذلك منذ أكثر من عقدين- فإذا بأخي أحمد يهتف إلي فور استيقاظي، بصوتٍ أعرف ما يحمله من نذرٍ ثقيل: "الفنان سعد فرسو نشر في صفحته نبأ رحيل ابنة شقيقته نرمين". تجمّد الصباح في يدي، كأن الهاتف تحوّل إلى حجر مجمر. كنت أعلم أن نرمين مريضة، لكني كنت أعلّق قلبي بعبارات الأطباء في دمشق الذين كانوا يسوغون ويصنعون دواعي الأمل، ويؤكدون أن ما أصابها عارض يمكن تجاوزه، على سنة أطباء شرقنا، لا وفق برود وجلافة أطباء الغرب الذي يتعامل مع الناس، في مواقف عديدة، خارج معجم الرأفة رغم بذخ إنسانية ثقافة المكان وأهله!

مضت سنوات من الصبر الطويل، كانت فيها الأسرة كلّها تعيش على ضوءٍ خافتٍ من الرجاء. مرّت الشهور كأنها امتحان للتحمّل، وكان صدجيقي المربي د. برزو عمر، والدها، يرافقها إلى دمشق لمتابعة العلاج، فيما والدتها لا تفارقها إلا لتلتقط أنفاسها. الأطباء كانوا يبدّلون تشخيصاً بتشخيص، ويغذّون مصباح التفاؤل النائس كلّ مرة ب" زيت"عبارة جديدة. ومع ذلك، ظلّ المرض عنيداً، يتقدّم على مهل حتى غلب الجسد.
لم أكن أجرؤ على السؤال المباشر عن حالها، لأن السؤال نفسه كان يثقل الحلق، ولأن الإجابة مهما جاءت كانت جارحة. كنت أسمع من والدتها ما يطمئن، من خلال اتصالاتنا العائلية، ومن عمتها الشاعرة كجا كرد ما يفتح نافذة صغيرة نحو التعافي، لكنّ داخلي كان يدرك أن الزمن لا ينتظر أحداً. كان بعض الأصدقاء في أوروبا قد سعوا مع الأسرة لإيجاد طريقٍ لعلاجها خارج سوريا، غير أن العوائق الإدارية والحدود الصمّاء أحبطت كل محاولة.
أتذكرها منذ أن كانت تحبو، كانت الطفلة التي أعلنت مجيئها صرخة فرح في الشارع، حين صاح والدها بي من بعيد، حيث بيننا مسافة هي عرض الشارع الموحل في ذلك اليوم الشتوي، وبصوت عال: " إبراهيم! لقد رزقنا بطفلة"، ليشاركني بهجة وغبطة حضور المولود الأول. كانت نرمين المنتظرة بعد سنواتٍ من الزواج، الطفلة التي أعادت إلى البيت أنفاسه الأولى. ذهبت يومها مع أم أيهم لنبارك لهما، ولا أزال أذكر ملامح الفرح التي غمرت وجهَي والديها. كانت ثمرة حلمٍ تأخر، وكانت كأنها وعدٌ بحياةٍ أوسع من حدود الحيّ الذي وُلدت فيه.
لم يكن لبرزو ورفيقة دربه إلا طفلان صغيران أميران ووليا عهد: كاردو ونرمين. ظلّ كاردو على تواصل دائم معي بعد وصوله إلى ألمانيا، وكنت أتابع عبره أخبار الأسرة، التي لم تنقطع صلتي بها رغم المسافات الطويلة. كانت نرمين قريبة من قلب أمها، صديقتها في تفاصيل الحياة اليومية، تساندها، وتتعلم منها، وتتهيأ لأن تمارس التعليم كما رأت والديها طوال عمرها.
كانت على وشك أن تبدأ حياتها العملية، أن تبني بيتها الصغير الذي حلمت به، وأن تستقبل طلابها في صفٍّ تخيّلته أكثر من مرة،، كما والديها الصديقين والزميلين المربيين، لكنها لم تملك الوقت الكافي لكل ذلك. لقد زُفّت طبعاً، وأيّ زفاف مرّ بها. زُفّت إلى الغياب، لا إلى الحياة. كان وداعها زفافاً من نوعٍ آخر، فيه دموع الأمهات بدل الأغاني، وصورٌ مؤطّرة بدل الحضور، وصمتٌ ثقيل يخيّم على بيتٍ كان يتهيأ لاستقبال فرحٍ مؤجل.
قال لي زميلي المدرس صالح عمر (أبو كاوا) حين التقيته، إنها نحفت كثيراً، وغدت جسداً أنهكه الألم. كانت تقاوم حتى آخر لحظة، كما لو أنها تحرس الحياة عن نفسها. لم يكن في وجهها ما يدلّ على الاستسلام، بل على كبرياءٍ هادئٍ لا يُفهم إلا ممن ذاقوا الوجع وصمتوا.
في تلك الأيام، كانت الأخبار تصلني متقطّعة، وكان كل اتصال يترك في قلبي فراغاً جديداً. عرفت أن والدها كان يرافقها في رحلات العلاج، وأن أمها كانت تكتب الدعاء على جدران قلبها. حاول كاردو وعمتها كجا كرد، وأسرة برزو في الخارج، أن يجدوا لها مكاناً للعلاج في أوروبا، لكن الأبواب بقيت مغلقة، وكأن القدر سبقهم بخطوة.
حين وصلني خبر رحيلها، أحسست أن الأب الذي فقدته منذ ثلاثةٍ وعشرين عاماً رحل من جديد، وأن اليوم الذي خُصّص لتذكاره صار يوماً لرحيلٍ آخر. غاب الأب، ثم غابت الابنة الوحيدة لصديقي، وتداخل الحزنان في ذاكرة واحدة. لم أستطع أن أكون قربهما في تلك اللحظة، ولم أستطع أن أقرع باب البيت الذي لم أدخله منذ عشرين سنة، حيث نصبت خيمة العزاء واحتشد الأصدقاء. بقيت بعيداً، في مهجري البارد، أراقب الصمت الذي لا يفرّق بين بلدين، وأشعر بأن كل خطوة كانت ستبدو قليلة أمام الغياب.
الحي الغربي كله حزين في يومه الأول هذا من دون الملاك نرمين. قامشلي حزينة بأحيائها وساحاتها وبيوتها التي تعرف هذه العائلة منذ عقود. أسرة برزو الكبرى حزينة، طلابه القدامى الذين تعلّموا منه في الفصول الدراسية، زملاؤه المدرسون، والكتّاب والمثقفون الذين عرفوا هذا الرجل المخلص للغته وقضيته. برزو ابن العائلة الوطنية، الذي عاش حياته في خدمة التعليم واللغة، وعاشق لغته الأم، الخبير بها والعارف بأسرارها، والذي عمل في صحافتها وأنتج فيها كتباً وبحوثاً ودراسات وأمليات جامعية، حمل في صمته الطويل تاريخاً من العطاء والتفاني.
أم نرمين ابنة الأسرة المبدئية التي ناضلت مع من ناضلوا من الشيوعيين في الدفاع عن الناس، وكانت معلمةً تربّت أجيالٌ على يديها، تعرف معنى المسؤولية وتعيشها بصدقٍ. التقت العائلتان على درب واحد، درب التربية والالتزام والموقف، وحين رحلت نرمين، شعرت المدينـة كلها أن جزءاً من روحها قد انكسر.
كانت نرمين ابنةً وحيدة، وأباها أباً وحيداً بعدها. رحلت وهي على عتبة الحياة، قبل أن تبني بيتها، قبل أن تُدرّس درسها الأول، قبل أن تعرف كيف يبدو المستقبل حين يبتسم. لقد كانت تربيتها امتداداً لروح ورؤى أبويها المربيين، وكانت مدار حلمهما في أن تستمر المهنة في البيت كإرثٍ من النور، لكن المرض أنهى ذلك الحلم بصمتٍ موجع.
اليوم، حين أستعيد صورها، أرى الطفلة في مهدها كما لو أنها ما كبرت قطّ. أرى الأب الذي صاح من الفرح يوم وُلدت، ثم جلس مطرقاً في الخيمة التي ودّعها فيها. وأرى الأم التي كانت تبكي وتبتسم في وقتٍ واحد، كأنها تودّع جزءاً من نفسها.
البيت الذي حلمت نرمين ببنائه ظلّ حلماً على الورق. السبورة التي أرادت أن تكتب عليها أحرفها الأولى بقيت بيضاء، والصوت الذي كان يمكن أن يملأ الصفّ بالشرح لم يُسمع قطّ. كانت تنتظر الغد، والغد تأخر عنها، كما تأخر عن آلافٍ مثلها.
رحلت نرمين برزو محمود، ابنة بيتٍ عرف فحوى القضية. العلم و التعليم، رحلت قبل أن تكتب أول سطر في حياتها العملية، وقبل أن ترى ثمرة صبر والديها. تركت وراءها صورةً، ووردةً على نعشها، ووجوهاً شاحبةً لم تتعلم بعد كيف تُغلق أبواب الرحيل. ماتت قبل تحقيق حلمها، قبل أن تُمارس التعليم على طريقة والديها المربيين المدرسين، وقبل أن تعرف أن بعض الأحلام تموت واقفة، كما تموت الشجرة التي لم تثمر بعد.
سلاماً لروحها التي واجهت الألم بلا شكوى، وسلاماً لوالديها اللذين يعيشان اليوم في فراغٍ لا يُملأ، ولسريرها الذي لم يبرد بعد من أثر غيابها. كانت نرمين وعداً بالحياة، ثم أصبحت درساً في الصبر، وستبقى صورتها شاهداً على زمنٍ يسرق منّا الأجمل من دون إنذار.



#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دستور الفيرومونات النحل وكيمياء النظام وسقوط الخطاب!
- الدجاجة المستديكة مسرحية قصيرة للأطفال
- شاهين سويركلي إننا نحزن عليك، إننا نحزن علينا
- على هامش فصل الكاتب حسن م يوسف دعوة إلى التسامح مع أصحاب الر ...
- سيرة بين السبورة والصحيفة والقضية: توفيق عبدالمجيد مناضل لم ...
- رهبة الوداع في هانوفر مزكين حسكو تعبر إلى الضفة الأُخرى من ا ...
- الشاعرة مزگين حسكو: حكاية الحرف صفر وبياض الحلم والانطلاقة
- مزكين حسكو... في أمسية- دوكر- هذه الليلة!
- مزكين حسكو: القصيدة في دورتها الأبدية!
- نداء إلى الكتّاب والمثقفين والإعلاميين والمختصين من أجل مئوي ...
- المثقف الكردي والسياسي ثنائية الكلمة والسلطة
- إنهم يقتلون أحفاد المكزون السنجاري: مجازر في قرى كردية في ال ...
- مزكين حسكو تتنفس برئتي الكتابة والحلم
- ثنائية الشجاعة والتهور على حافة الوعي واللاوعي
- البنية المزدوجة في نص زكريا شيخ أحمد من النَفَس الملحمي إلى ...
- بطاقات الصباح جسور ضد العزلة والشتات
- الكرد والظاهرة الصوتية تحت تأثير ثقافة الشركاء
- الإعتاميون: حين يتحول الإعلام إلى منبر للكراهية
- مزكين حسكو إبداع وروح لا تهدآن كلما ضاقت المساحات
- قارعو طبول الإبادة وأبواق الفتن والقتل والدمار مشروع تفكيك ا ...


المزيد.....




- بمناسبة مرور 100 عام على ميلاده.. مهرجان الأقصر للسينما الأف ...
- دراسة علمية: زيارة المتاحف تقلل الكورتيزول وتحسن الصحة النفس ...
- على مدى 5 سنوات.. لماذا زيّن فنان طائرة نفاثة بـ35 مليون خرز ...
- راما دوجي.. الفنانة السورية الأميركية زوجة زهران ممداني
- الجزائر: تتويج الفيلم العراقي -أناشيد آدم- للمخرج عدي رشيد ف ...
- بريندان فريزر وريتشل قد يجتمعان مجددًا في فيلم -The Mummy 4- ...
- الكاتب الفرنسي إيمانويل كارير يحصد جائزة ميديسيس الأدبية
- -باب البحر- في مدينة تونس العتيقة لا يطل على البحر
- -طاعة الزوج عبادة-.. فنانة خليجية تشعل جدلا بتعليق
- لغة الدموع الصامتة


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم اليوسف - غيابة نرمين في يومي الحزين في رحيل ابنة صديقي د. برزو محمود