أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم اليوسف - شاهين سويركلي إننا نحزن عليك، إننا نحزن علينا














المزيد.....

شاهين سويركلي إننا نحزن عليك، إننا نحزن علينا


إبراهيم اليوسف

الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 02:59
المحور: الادب والفن
    


شاهين سويركلي
إننا نحزن عليك، إننا نحزن علينا

نشر الأديب والشاعر والمترجم الكردي شاهين سويركلي على صفحته نداءً موجعاً، لا يشبه إلا أصوات أولئك الذين يكتبون من عمق التجربة والوجع معاً. قال فيه إنّ ما تبقّى من أرشيفه مهدّد بالضياع، وإنّ مئات التسجيلات والرسائل والكتب التي جمعها على مدى عمرٍ كامل لم تعد تجد مكاناً في بيته، ولا من يتسلّمها بعده. كتب بوضوحٍ قاطع: " انقذوا ما تبقّى من أرشيفي قبل أن يُدفن معي"
لم يكن يطلب نجدةً شخصية، بل يرفع إنذاراً في وجه صمتٍ طويلٍ أحاط بالذاكرة الكردية، إذ تموت الذاكرة في الغربة حين لا أحد يمدّ يده إليها.
أطلق نداءه من منفاه الأسترالي، بعد حياةٍ امتدت من كوباني حتى أطراف سيدني. كتب وهو يشعر أنّ الأرشيف الذي وثّق تاريخ الثقافة الكردية في المنافي يتبدّد، وأنّ الرسائل التي احتفظ بها عقوداً تضيع الواحدة تلو الأخرى، وأنّ غياب المؤسسات الثقافية الكردية القادرة على الحفظ جعل المثقف المنفي وحيداً في مواجهة الزمن. في نبرته خيبة، لا من القدر، بل من الهجر الثقافي الذي يصيب الأمم الصغيرة حين لا تمتلك أرشيفها.
تحدث في منشوره عن كتبه التي رافقته طوال حياته، وعن الجهد الذي بذله في بناء مكتبةٍ ظلّت شاهداً على حيوية الثقافة الكردية في المنفى. لم يكن يطلب تكريماً، بل حماية لما أنجزه كي لا يُدفن معه.
قبل سنواتٍ قليلة، التقيتُه في دوسلدورف في ندوةٍ خُصّصت للحديث عن تجربته وحياته ونتاجه الأدبي. جاء متعباً كمن يحمل عمره على كتفيه، لكنه كان حاضر الذهن، واضح العبارة، صادق النظرة، قوي الإيمان بأنّ اللغة الكردية ستبقى ما بقيت الإرادة. قرأ نصوصاً متفرّقة من قصصٍ وشعرٍ من بعض أعماله، ثم أجاب عن أسئلة الحضور التي تناولت محطاتٍ في تجربته الممتدة بين التعليم والإذاعة والعمل الثقافي. تحدّث بهدوءٍ عن غربته الطويلة، وعن علاقته بالكتابة، وعن الشعور الذي يرافق الكاتب حين تتحوّل الغربة إلى وطنٍ مؤقت.
في بعض كتبه تناول التراث الكردي من خلال مجتمع كوباني وقريته مزرة، فرسم صورة الحياة الريفية كما عاشها في طفولته؛ بعفويتها ولهجتها وتناقضاتها. لم يكن يوظّف التراث كزينة لغوية، بل كحقيقةٍ يومية عاش بعضها في سنوات عمر التسع عشرة الأولى قبل أن يهاجر، وعرفها، وتكرست في ذاكرته. كان يعتبر أنّ حفظ التفاصيل الصغيرة هو ما يبقي اللغة حيّة.
في مقابلةٍ أجراها معه الصديق المترجم والكاتب عمر رسول، قال بوضوحٍ مؤلم" أبي ملاك، يملك أراضي في قريتين من كوباني، لكن مردود أملاكه لا يساوي مردود عامل في أوروبا. نمتُ جائعاً أحياناً"
لم تكن الجملة استعراضاً للفقر، بل كشفاً لتجربةٍ عاشها كثيرون من أبناء جيله الذين وجدوا أنفسهم بين غنى الأرض وفقر الإنسان. بين وطنٍ واسعٍ لا يطعمهم، ومنفى ضيّقٍ يمنحهم لقمةً مشروطة بالصمت. إنها خلاصة رحلة الكردي الذي دفعته السياسات العنصرية الدكتاتورية منذ الستينات إلى مغادرة أرضه، بحثاً عن كرامةٍ لا تتسع لها الخرائط الرسمية.
سافر شاهين سويركلي من كوباني إلى حلب، وحدد إسبانيا وجهة للدراسة، بيد أنه استقر إلى حين في النمسا، ثم ألمانيا،عبر سيرة مشوقة سردياً، قبل أن ينتهي به المطاف في أستراليا. رحلة طويلة من التعب والمكابدة بين التدريس والعمل الإذاعي والعمل في الجمعيات الكردية والتأليف. كان اسمه في عداد المطلوبين السياسيين في سوريا، كما أنه تعرّض للتهديد في أستراليا من قبل تركيا، لكنه لم ينكسر. بقي وفيّاً للكلمة، متشبثاً بلغته كمن يتشبث بآخر حبلٍ في الهاوية.
كتب بأكثر من لغة: الكردية والعربية والألمانية والإنكليزية، وكان يلمّ بالفارسية. لم يكن هذا التعدد اللغوي استعراضاً ثقافياً، بل نتيجة لحياةٍ عابرةٍ للحدود ولغاتٍ متشابكةٍ في وعيه. في كلّ لغةٍ كتبها ظلّت الكردية حاضرة، كصوتٍ خافتٍ في الخلفية، لا يغيب ولا يتراجع.
ومن كتبه التي توزعت بين الشعر والقصة والرواية والمقال والترجمة: "رسالة إلى أبي" (رواية)، "العودة"، "قصص الثمانية عشر عاماً"، "القطط تحلم أيضاً"، "شرف إيما"، "محاكمة صلاح الدين"، "آلام سبعة أعوام"، و**"ملمحة درويشي عبدي"**. وغيرها. فيها تتقاطع السيرة الشخصية بالتاريخ الجمعي، ويتحوّل النص إلى شهادة على الاغتراب والحنين والكرامة. يكتب كمن يوثّق الحياة من الداخل، من عمق الفقد، ومن ذاكرة اللغة التي قاومت الصمت.
في تلك الندوة في دوسلدورف قرأ بصوتٍ هادئٍ بعض نصوصه، ثم أجاب عن الأسئلة حول تجربته ومسيرته الطويلة. لم يتحدّث كثيراً عن نفسه، بل عن معنى الكتابة في مواجهة الغياب. قال إنّ الغربة لا تنتهي، وإنّ الكتابة هي الشكل الأخير من البقاء. وحين تحدّث عن المنفى قال: "لم يكن المنفى اختياري، بل محاولة لتجنّب الموت."
لم يكن شاهين سويركلي يكتب ليتجمّل أو ليحكي عن ذاته، بل ليقول إنّ الكتابة الكردية نجت لأنها كُتبت في المنفى، ولأنّ أصحابها عاشوا ما كتبوه فعلاً. كان يعرف أنّ كلّ كتابٍ يُهمل، وكلّ رسالةٍ تُحرق، وكلّ صوتٍ يُسكت، هو موتٌ جديدٌ بلا جنازة.
اليوم، بعد أن أطلق نداءه الأخير من أستراليا، يبدو وكأنه كان يودّعنا من بعيد. لم يكتب تلك الكلمات صدفة، بل كمن يسلّم إرثه الأخير لأمّته. لقد أنهكه العمر والتعب والمنافي، حتى صارت الكتب أثقل من الجسد، وصار الورق امتداداً للحياة نفسها.
إنّ إنقاذ أرشيفه واجب لا يخصّ الأفراد، بل يخصّ الوعي الكردي بكامله. ما جمعه خلال نصف قرنٍ من وثائق وصورٍ ومراسلات لا يقدّر بثمن. كلّ ورقةٍ من أوراقه جزء من تاريخٍ لم يُكتب بعد. إنّ ما أنجزه لا ينتمي إليه وحده، بل إلى الذاكرة الكردية التي عاش من أجلها ومات غريباً عنها.
حين نحزن على شاهين سويركلي، نحزن علينا جميعاً. نحزن لأننا نرى في رحلته الطويلة صورة أنفسنا، ولأنّ الغربة التي كانت قدره صارت قدَرنا جميعاً. نحزن لأنّ الكلمة التي كتبها من أقصى الأرض ما زالت تبحث عن مكانٍ آمنٍ في بيوتنا.



#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على هامش فصل الكاتب حسن م يوسف دعوة إلى التسامح مع أصحاب الر ...
- سيرة بين السبورة والصحيفة والقضية: توفيق عبدالمجيد مناضل لم ...
- رهبة الوداع في هانوفر مزكين حسكو تعبر إلى الضفة الأُخرى من ا ...
- الشاعرة مزگين حسكو: حكاية الحرف صفر وبياض الحلم والانطلاقة
- مزكين حسكو... في أمسية- دوكر- هذه الليلة!
- مزكين حسكو: القصيدة في دورتها الأبدية!
- نداء إلى الكتّاب والمثقفين والإعلاميين والمختصين من أجل مئوي ...
- المثقف الكردي والسياسي ثنائية الكلمة والسلطة
- إنهم يقتلون أحفاد المكزون السنجاري: مجازر في قرى كردية في ال ...
- مزكين حسكو تتنفس برئتي الكتابة والحلم
- ثنائية الشجاعة والتهور على حافة الوعي واللاوعي
- البنية المزدوجة في نص زكريا شيخ أحمد من النَفَس الملحمي إلى ...
- بطاقات الصباح جسور ضد العزلة والشتات
- الكرد والظاهرة الصوتية تحت تأثير ثقافة الشركاء
- الإعتاميون: حين يتحول الإعلام إلى منبر للكراهية
- مزكين حسكو إبداع وروح لا تهدآن كلما ضاقت المساحات
- قارعو طبول الإبادة وأبواق الفتن والقتل والدمار مشروع تفكيك ا ...
- قارعو طبول الإبادة وأبواق القتل والدمار مشروع تفكيك المكونات ...
- لماذا استهداف آل الخزنوي؟ من محمد طلب هلال إلى البغدادي إلى ...
- نورالدين صوفي ومحاولة لسداد جزء من دين متأخر


المزيد.....




- التحديات التي تواجه التعليم والثقافة في القدس تحت الاحتلال
- كيف تحمي مؤسسات المجتمع المدني قطاعَي التعليم والثقافة بالقد ...
- فيلم -أوسكار: عودة الماموث-.. قفزة نوعية بالسينما المصرية أم ...
- أنغام في حضن الأهرامات والعرض الأول لفيلم -الست- يحظى بأصداء ...
- لعبة التماثيل
- لماذا يا سيدي تجعل النور ظلاماً؟
- نشطاء يريدون حماية -خشب البرازيل-.. لماذا يشعر الموسيقيون با ...
- -ماء ونار-.. ذاكرة الحرب اللبنانية في مواجهة اللغة وأدوات ال ...
- أردوغان يستقبل المخرج الفلسطيني باسل عدرا الفائز بأوسكار
- توقيع اتفاق للتعاون السينمائي بين إيران وتركيا


المزيد.....

- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم اليوسف - شاهين سويركلي إننا نحزن عليك، إننا نحزن علينا