|
رهبة الوداع في هانوفر مزكين حسكو تعبر إلى الضفة الأُخرى من القصيدة
إبراهيم اليوسف
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 00:10
المحور:
الادب والفن
رهبة الوداع في هانوفر مزكين حسكو تعبر إلى الضفة الأُخرى من القصيدة
إبراهيم اليوسف
بعض تفاصيل مجلس عزاء مزكين حسكو
لم أصدق أننا ذاهبون إلى مجلس عزاء. حتى لحظة الوصول، ظلّ في داخلي شيء يرفض التصديق بأن شاعرتنا مزكين حسكو قد رحلت. مزكين، تلك التي كانت حاضرة في كل مهرجان. كل أمسية. كل لقاء، في كل قصيدة، في كل نقاش، كيف يمكن أن تُختزل الآن في مجرد صورة على جدار قاعة مملوءة بالزهور والدموع، وهي أكثرنا خبرة بعالم الزهور الذي اختصت فيه خلال دراستها، في ألمانيا، بعد أن لجأت إليها! توجهنا إلى هانوفر، نحن مجموعة من الأصدقاء والزملاء: حفيظ عبد الرحمن، الروائي جميل إبراهيم، علوان شفان، روجين كدو، سلام فارس، هجار بوطاني نوشين حفيظ، عبر أكثر من عربة، نمثل الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، الذي كانت مزكين واحدة من أعضائه النشطين والمخلصين الأوفياء. كانت شاعرة وكاتبة وعضواً في هيئة تحرير "القلم الجديد" – النسخة الكردية- وشاركت في أكثر من لجنة تحكيم لجوائز الاتحاد. كانت تؤمن بالكتابة كفعل حياة، وكانت تكتب كما لو أنها تزرع ضوءاً في قلب العتمة. حرصنا على السفر مساءً، حتى لا نتأخر عن يوم العزاء في الغد. في الطريق زرنا أصدقاء أعزاء: غانم مرعي وزوجته، وهما من أسرتنا في الاتحاد العام، ثم مررنا على منزل الشاعر جوان كدو، قبل أن نقضي ليلتنا في بيت ابن عم لنا. صباحاً أدينا واجب عزاء لجيران لنا من قامشلي، حيث عائلة أخرى كانت تقطن قرب بيتنا-هناك- فقدت ابنتها، وكأن الحزن كان يرافقنا من مكان إلى آخر، يدنا في يد الغياب الأليم. واصلنا طريقنا إلى هانوفر. كنا حريصين أن نصل في الوقت المحدد، لأن أي تأخر عن الموعد. عن المجلس. خيانة لذكراها. عند الوصول، كان المشهد مهيباً. القاعة ممتلئة بالناس، وفي أول المدخل طاولة بيضاء تعلوها الزهور التي كانت مزكين تحبها. إذ كانت خريجة معهد تنسيق وتربية الزهور، ولذلك بدا المشهد وكأنه تحية أخيرة من عالمها الذي كانت تهتم بألوانه ورائحته. الجو كان غريباً، مزيج من الصمت والرهبة والخشوع. استقبلنا أبناءُ عائلة حسكو عند الباب الخارجي، مصطفين رجالاً ونساءً في حالة صبر وحزن. الجنازة لم تكن قد نقلت بعد إلى قامشلي. استقبلونا بحفاوة، وكأنهم يعرفون أننا لم نأتِ فقط للواجب، بل جئنا لأننا فقدنا واحدة منّا. جلسنا قرب المنصة، وجاء الإعلامي منال حسكو إلينا وقال: " أنتم أصحاب العزاء، أنتم كاتحاد كتاب، أتمنى أن تشرفوا على المنبر". عندها اتفقنا أن يتولى الزميل علوان الإشراف على الكلمات، وهو ما أكده الفنان هفراز حسكو رفيق درب مايا حسكو شقيقة مزكين. امتلأت القاعة تماماً. مئات، بل آلاف من المعزين، جاؤوا من مدن ألمانية مختلفة، ومن مدن أوروبية أخرى. التنظيم كان دقيقاً، والوجوه كثيرة، مألوفة وغريبة في آن واحد. كان الحزن يجمعنا جميعاً، مهما اختلفت لغاتنا وأدياننا وهوياتنا.. رغم عمق المصاب، قدمت عائلة حسكو وجبة طعام للمئات الذين كانوا موجودين في وقت الغذاء. وجبة فاخرة، كأن روح مزكين قد أعدتها: لا بد أن تتناولوا الطعام أنتم ضيوف مزكين وأسرتها الثانية هكذا قالت لنا مايا حسكو، وهي تحاول أن تكون قوية أمام الصدمة! التقينا بأكثرهم من آل حسكو المقيمين في أوربا. بدءاً من رفيق درب مزكين رجل الأعمال عائد وأولاده الثلاثة، وشقيقها منال حسكو، وهفراز حسكو، وآزاد حسكو، ونجاح هيفو، ومايا حسكو شقيقة مزكين، إلى جانب عدد من أفراد عائلة هيفو من جهة الخؤولة، ومنهم الدكتور عيسى هيفو وعلي ملك ونجاح ملك. كان جميعهم في حالة صمتٍ شفاف، كأنهم ما زالوا ينتظرون منها أن تدخل فجأة وتبدأ بالحديث عن الحياة والكتابة. مؤكد أن هناك الكثيرون ممن كانوا هناك ويحتاج ذكر أسمائهم إلى مسرد. تعاقبت الكلمات على المنبر. تحدث من زملائنا: علوان شفان عن محطات كثيرة من حياة مزكين. تلاه جميل إبراهيم بكلمة الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، ثم حفيظ عبد الرحمن، الذي تحدث عنها بصفته صديقاً يعرفها عن قرب، يعرف حزنها وابتسامتها وطريقة حديثها حين تتحدث عن القصيدة كما لو أنها كائن حيّ. تكلمت نجاح ابنة خالها مشيرة إلى علاقة مزكين باتحادها، ومكانتها لدي. كانت مزكين شاعرة حالمة، لكنها كانت تقرن وتترجم هذا الحلم بالاجتهاد والتعب والجهد والعمل الدؤوب. لا شيء على حساب سواه. الأسرة. القراءة. الكتابة. أسرتها في الاتحاد. محيطها الاجتماعي. ما أعطته من مشروعها الأدبي يبدو لبعضهم كثيراً، لكن طموحها وإمكاناتها كانت أكبر. كانت ترى ذاتها في أول عطائها، لكنها كانت واثقة من قصيدتها. من مفردتها. من روحها، وإبداعها، لكن نتاجها كان يشي بالكثير. كانت تمتلك وعياً جمالياً، رفيعاً، نادراً، وحساسية مفرطة تجاه العالم من حولها. كانت تكتب لأن الكتابة عندها ليست مهنة، بل خلاصاً شخصياً. جلست بين الحاضرين أراقب الوجوه، أستعيد صوتها وهي تلقي قصيدة ذات مساء بعيد، وأتساءل إن كان الرحيل يمكن أن يكون بهذا الهدوء. لم يكن في القاعة صراخ، بل كان هناك صمت كثيف يلامس القلب. كل كلمة تُقال كانت تخترقنا ببطء، كأننا نسمعها منها هي لا عنهم. في الزاوية، وُضعت صورتها بإطارٍ أبيض، خلفها باقات من الزهور التي كانت تحبها. فكّرت أنها ربما كانت ستبتسم لو رأت هذا الترتيب، هي التي كانت دقيقة حتى في تفاصيل الألوان في قصائدها. كانت روحها تحوم، هادئة كما كانت دائماً، بين المنبر والمقاعد، بين دموع الأصدقاء وابتسامات الذكرى. لم أستطع أن أتصالح مع الفكرة. لم أصدق أننا في مجلس عزاء. كنت أبحث عنها بين الصفوف، بين الأصوات، بين القصائد، بين الحروف التي تركتها خلفها. كنت أسمعها في كل كلمة تُقال. في كل زهرة على الطاولة البيضاء. في كل لحظة صمت بين كلمة وأخرى. خرجنا من القاعة مساء، والسماء ملبدة بالغيوم. بقي صدى صوتها معنا، وهي التي كانت تؤمن أن الشعر يمكن أن يخفف وطأة العالم. في الطريق إلى الفندق، لم نتحدث كثيراً. كانت الصدمة أعمق من أن تُقال. اكتفينا بالصمت، كأننا نحملها معنا، وكأنها ما تزال تكتب فينا، من مكانٍ لا نعرفه. ذلك اليوم سيبقى في الذاكرة. يوم ودّعنا فيه الشاعرة مزكين حسكو، وودعنا مبدعة عزيزة.
#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشاعرة مزگين حسكو: حكاية الحرف صفر وبياض الحلم والانطلاقة
-
مزكين حسكو... في أمسية- دوكر- هذه الليلة!
-
مزكين حسكو: القصيدة في دورتها الأبدية!
-
نداء إلى الكتّاب والمثقفين والإعلاميين والمختصين من أجل مئوي
...
-
المثقف الكردي والسياسي ثنائية الكلمة والسلطة
-
إنهم يقتلون أحفاد المكزون السنجاري: مجازر في قرى كردية في ال
...
-
مزكين حسكو تتنفس برئتي الكتابة والحلم
-
ثنائية الشجاعة والتهور على حافة الوعي واللاوعي
-
البنية المزدوجة في نص زكريا شيخ أحمد من النَفَس الملحمي إلى
...
-
بطاقات الصباح جسور ضد العزلة والشتات
-
الكرد والظاهرة الصوتية تحت تأثير ثقافة الشركاء
-
الإعتاميون: حين يتحول الإعلام إلى منبر للكراهية
-
مزكين حسكو إبداع وروح لا تهدآن كلما ضاقت المساحات
-
قارعو طبول الإبادة وأبواق الفتن والقتل والدمار مشروع تفكيك ا
...
-
قارعو طبول الإبادة وأبواق القتل والدمار مشروع تفكيك المكونات
...
-
لماذا استهداف آل الخزنوي؟ من محمد طلب هلال إلى البغدادي إلى
...
-
نورالدين صوفي ومحاولة لسداد جزء من دين متأخر
-
بين مؤتمري دمشق والحسكة وامتحان الوطنية السورية
-
كرسي النهاية سرّ التهافت عليه!
-
وثيقة الجنرال كركيزة فحسب: الموفد الكردي هو من يقرر حقوق شعب
...
المزيد.....
-
مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني
...
-
مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني
...
-
صدور كتاب تكريمي لمحمد بن عيسى -رجل الدولة وأيقونة الثقافة-
...
-
انطلاق مهرجان زاكورا السينمائي في المغرب
-
كل ما تحتاج معرفته عن جوائز نوبل للعام 2025
-
-سلام لغزة-.. الفنانون العرب يودّعون الحرب برسائل أمل وتضامن
...
-
فيلسوف العبثية والفوضى يفوز بجائزة نوبل للآداب
-
سلسلة أفلام المقاطعة.. حكاية المقاومة السلمية من الجزيرة 360
...
-
إيقاف نجم الفنون القتالية ماكغريغور 18 شهرا
-
نار حرب غزة تصل صناعة السينما الفلسطينية والإسرائيلية
المزيد.....
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|