أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم اليوسف - مزكين حسكو تتنفس برئتي الكتابة والحلم















المزيد.....

مزكين حسكو تتنفس برئتي الكتابة والحلم


إبراهيم اليوسف

الحوار المتمدن-العدد: 8456 - 2025 / 9 / 5 - 00:11
المحور: الادب والفن
    


الكتابة البقاء
لم تدخل مزكين حسكو عالم الكتابة كما حال هو عابر في نزهة عابرة، بل اندفعت إليه كمن يلقي بنفسه في محرقة يومية، عبر معركة وجودية، حيث الكلمة ليست زينة ولا ترفاً، مادامت تملك كل شروط الجمال العالي: روحاً وحضوراً، لأن الكلمة في منظورها ليست إلا فعل انتماء كامل إلى لغة أرادت أن تحفظها حية، وأن تمنحها قوة الحضور في وجه كل محاولات الطمس. إذ كانت الكردية عندها أكثر من لسان، كانت هواءً تتنفسه وسماءً تحتمي بها وأرضاً تُعاد صياغتها في النصوص، حتى بدت كتابتها كجذر يرسخ في التربة كلما حاولت الرياح اقتلاعها. إنما ذلك الجذر لم يتشكل من سهولة العيش ولا من رخاوة الظروف، بل من صلابة امرأة أنجبها رحم قرية كردية. جميلة، مهمشة، فاختارت أن تواجه بالقصيدة ما يعجز عنه الجسد، وأن تكتب بالسرد ما يحاول التغييب أن يمحوه.
أجل، لم يكن أمام مزكين حسكو سوى أن تجعل من الأدب طريق مفردتها. صورها الشعرية. حكاياتها. أقاصيصها. أحلامها، إلى لجج الديمومة، وأن تترك وراءها، مع كل خطوة، أثرها. أثرها هي، بوهج خاص، لا على مقاعد المهرجانات الرخيصة ولا في مقاهي النخب المتهافتة، بل في عمق اللغة التي استضافت روحها. أجل، ظلّت أبعد ما يمكن أن تفرضه شاعرة صاحبة موقف عن المساومة، إذ لم تسوغ يوماً أن تتحول الكتابة إلى وسيلة صعود اجتماعي أو إلى جسر نحو منصة مصطنعة. ومن هنا فإن شخصيتها تمايزت بموقفها الرافض لكل ابتذال، حيث لم تُغوها دعوات متسللين إلى المشهد عبر رسائل قصيرة على منصات التواصل، ولا أغراها أن تكون رقماً في قائمة أسماء تُستعرض في قاعات هزيلة. لقد كانت أبية، كريمة، عصية على الإخضاع، تجعل من عزتها معياراً، ومن كرامتها حصناً لا يُخترق.
ولكل هذا فإن سيرتها مع الشعر لم تكن سيرة كتب توضع على رفوف المكتبات فحسب، بل كانت سيرة حياة متوهجة بالمقاومة. إذ طالما كتبت بين عمليتين جراحيتين، من ضمن سلسلة عمليات جراحية خضعت لها مكرهة، وهي تتشبث بمجاذيف النجاة، كما لو أنها تريد أن تربح الوقت من براثن التحدي العظيم، ودوّنت في أروقة المشفى قصائدها، كما لو أن الورق صار هو السرير الحقيقي الذي تستريح عليه. وهكذا فهي لم تسمح للهواء الملوث المتسلل إلى الرئة أن يصادر صوتها، بل واجهته، وهزمته في أكثر من معركة، بروح مقاتلة كردية، صانعة من الألم أداة توليد للشعر، ومن اليأس قوة لاستمرار الحلم. ومن هنا فإننا نرى أن الكتابة عندها لم تكن خياراً، بل قدراً حملته بشجاعة، حتى حين تراجع الجسد إلى آخر دركاته.
إذ إن مرضها لم يحجب عنها الحس الإنساني العميق، حيث ظلّت في أشد لحظات وجعها تحمل الآخرين في قلبها. ومن هنا فإن ما جرى قبل بضعة أيام يكشف جانباً يضيء روحها أكثر: إذ كانت في طريقها إلى هولندا لمناسبة عائلية، وقد همست في أذن رفيق دربها وابن عمها عائد حسكو، طالبة منه أن يتصل بخالها إبراهيم اليوسف ليسأل عن صحة لورين، زوجة ابنه أيهم، وليطمئنها على حالها، مبلّغاً سلامها الدافئ إليه، وتمنياتها للورين بالشفاء.
يا إلهي!
هذه مزكين التي لوظللت أكتب عنها مئة عام لما أوفيتها ما تستحقه من تقدير فرضته هي نفسها علي كما على سواي من المخلصين من حولها.
أجل، حتى وهي في مواجهة المرض، ظلّت قادرة على أن تضع الآخرين في صدارة همّها، كما لو أن الاطمئنان على صديقة مريضة هو شكل آخر من أشكال مقاومتها من أجل القصيدة والكلمة والوطن والحياة. وهكذا امتزجت إنسانيتها بنصوصها، حتى صار من الصعب التمييز بين ما هو شعر يخط على الورق، وما هو فعل حياة يتجسد في لحظة صغيرة كهذه، تلمع أكثر من قصيدة كاملة.
إنما الأهم أن حضورها ظلّ مشعاً بإنسانية صافية، حيث عرفها من اقترب منها كودودة، طيبة، نبيلة، محبة للآخرين بلا حساب. غير أن هذه المحبة لم تكن انسحاقاً، بل كانت قوة حقيقية تنبع من يقينها بأن الإنسان لا يُختصر في صراعات السوق الأدبي ولا في مساومات الكواليس. أجل، لقد أحبّت الناس، لكنها لم تُجامل على حساب موقفها، ولم تخفض رأسها أمام رخيص أو مبتذل. مدير مهرجان، وطيء، أو مشرف مؤتمر يدعو مقربين لا شأن لهم ببرنامج هذا الحدث، بل ظلت صوتاً عالياً يعلن رفضه لكل امتهان.
ومن هنا فإن الحديث عن مزكين حسكو ليس حديثاً عن مبدعة فقط، بل عن تجربة كاملة جعلت من الكردية فضاءً لصياغة الحلم، ولتجديد اللغة، ولابتكار صور لم يألفها القراء من قبل. إذ كانت مجددة لغوياً، لا تستسلم للبلاغة الجاهزة، ولا تكرر قوالب الآخرين، بل تنحت جملها كما لو أنها تعيد اختراع المفردات والصور وعمارات الجمال، لتجعل من النص فضاءً شخصياً لا يشبه إلا نفسها. وهكذا صار حضورها في المشهد علامة فارقة، إذ تمكنت من أن تحافظ على أصالة لسانها، وأن تبرهن أن الكردية قادرة على أن تحتمل التجريب والتجديد معاً.
تأسيساً على ذلك، فإن أربعة عشر كتاباً بين الشعر والسرد لم تكن مجرد رصيد عددي، بل كانت شواهد على مسار يتدرج من الحلم إلى المقاومة، ومن البوح الشخصي إلى الموقف الجماعي. إنما لم ترد يوماً أن تُحسب على خانة الإنجاز الكمي، بل كانت ترى أن الكتابة لا تقاس بعدد العناوين، بل بقدرتها على أن تظل شاهدة على زمن، ومؤسسة لجمالية مختلفة. وهكذا فإن إرثها لا يُقرأ كحصيلة مطبوعة فحسب، بل كصوت استمرارية، وكقوة دافعة لأجيال لاحقة ستجد في نصوصها ما يعيدها إلى جذور اللغة.
إذ إن محطة مرضها لم تكن سوى مرآة أخرى لصلابتها، حيث قاومت وتقاوم على سرير الشفاء كما لو أنها تخوض أعظم معركة في سبيل جمال الروح والقصيدة والحياة.
وعلى هطذا النحو، ها نجن نرى مزكينتنا تواظب على الكتابة حتى هذه اللحظة كي تحافظ على معادلة الروح الجسد الذي حاول أن يخذلها، مصممة على استرداد كل شيء كما كان، لتثبت أن الإبداع ليس ترفاً يُمارس في أوقات الراحة، بل هو جوهر الوجود ذاته. وهكذا فإنها ليست مجرد أديبة، بل مقاتلة في ساحة اللغة، ساردة حالمة، شاعرة تعرف أن الحلم لا يتوقف مهما أمعن الألم في فتكه وغدره.
ومن هنا نرى أن صورتها في الذاكرة لن تُختصر في هذا الألم، بل في بنية هندسة نصها الإبداعي والحلمي. كي يدرك جميعهن أنها ولدت كي تكتب. كي تشتعل لغة، وإبداعاً.
فها هي تجعل بإصرارها، وجبروت جمال روحها، ومفردتها، من سيرة الألم نفسه نصاً آخر يليق بشجاعة المبدعين. ما جعلنا جميعاً نقر بأن مزكين حسكو شاهدة على أن الكتابة يمكن أن تكون معادل السيرورة والصيرورة، أن تكون فعل المقاومة. أن تكون المقاومة ذاتها، وأن اللغة يمكن أن تتحول إلى حصن وقلعة يواجه المبدع من خلالهما التحديات مهما تعاظمت. أجل، هذه هي صورتها الأجمل: امرأة كتبت وتكتب وستظل تكتب لتبقى، وها هي الآن قد جمعتنا معاً في ندوة افتراضية بل واقعية مفتوحة، لأنها تكتب وتبدع!



#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثنائية الشجاعة والتهور على حافة الوعي واللاوعي
- البنية المزدوجة في نص زكريا شيخ أحمد من النَفَس الملحمي إلى ...
- بطاقات الصباح جسور ضد العزلة والشتات
- الكرد والظاهرة الصوتية تحت تأثير ثقافة الشركاء
- الإعتاميون: حين يتحول الإعلام إلى منبر للكراهية
- مزكين حسكو إبداع وروح لا تهدآن كلما ضاقت المساحات
- قارعو طبول الإبادة وأبواق الفتن والقتل والدمار مشروع تفكيك ا ...
- قارعو طبول الإبادة وأبواق القتل والدمار مشروع تفكيك المكونات ...
- لماذا استهداف آل الخزنوي؟ من محمد طلب هلال إلى البغدادي إلى ...
- نورالدين صوفي ومحاولة لسداد جزء من دين متأخر
- بين مؤتمري دمشق والحسكة وامتحان الوطنية السورية
- كرسي النهاية سرّ التهافت عليه!
- وثيقة الجنرال كركيزة فحسب: الموفد الكردي هو من يقرر حقوق شعب ...
- زياد رحباني شاعراً وهو في الثالثة عشرة من عمره مجموعة- صديقي ...
- سوريا بعد أربع عشرة سنة: ضرورة إعادة تدقيق تعريفي الثورة وال ...
- السيد أحمد الشرع من الجائزة الكبرى إلى مأزق الدم خياران خطير ...
- اللجنة الوطنية للتحقيق في مجازر الساحل تدق آخر مسمار في مصدا ...
- على هامش سقوط تصريح باراك وسقوط حلم المتبركين به
- الانتخاء باسم العشائر خدعة تأسيسية لحرب أهلية مؤجّلة مجاهدون ...
- نزع صاعق القنبلة المحرمة: العشيرة مظلة تعايش وقيم عالية ومسم ...


المزيد.....




- فيلم -صوت هند رجب- يهز مهرجان فينيسيا
- بطل فيلم -صوت هند رجب- يحكي ردود الفعل الغربية
- وزير الثقافة الفلسطيني السابق أنور أبو عيشة: لا حل غير الاعت ...
- خدعوك فقالوا: الهوس بالعمل طريقك الوحيد للنجاح
- بـ24 دقيقة من التصفيق الحار.. -صوت هند رجب- لمخرجة تونسية يه ...
- تصفيق حار استمر لـ 14 دقيقة بعد انتهاء عرض فيلم -صوت هند رجب ...
- -ينعاد عليكم- فيلم عن الكذب في مجتمع تبدو فيه الحقيقة وجهة ن ...
- رشحته تونس للأوسكار.. فيلم -صوت هند رجب- يخطف القلوب في مهرج ...
- تصفيق 22 دقيقة لفيلم يجسد مأساة غزة.. -صوت هند رجب- يهزّ فين ...
- -اليوم صرتُ أبي- للأردني محمد العزام.. حين تتحوّل الأبوة إلى ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم اليوسف - مزكين حسكو تتنفس برئتي الكتابة والحلم