أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أكرم شلغين - مهرجان الحنفية: مسرحيات الفشل في الأنظمة الديكتاتورية














المزيد.....

مهرجان الحنفية: مسرحيات الفشل في الأنظمة الديكتاتورية


أكرم شلغين

الحوار المتمدن-العدد: 8516 - 2025 / 11 / 4 - 22:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في عالم تتغير فيه معايير المجد، لم تعد الأمم الفاشلة تخجل من فشلها، بل تحتفل به.
تقيم له المهرجانات وتطلق التصريحات وتستدعي الكاميرات لتوثق “الإنجاز العظيم” المتمثل في تركيب حنفية أو رصف شارع لم يكتمل. حقا، فالكلمات تتزين بينما الواقع يتآكل، ويرفع الشعار البراق ليغطي عجز الدولة وانهيار المعنى. في هذا المسرح المملوء بالأضواء الزائفة، يصبح المواطن متفرجا في رواية لا تنتهي، بطلها نظام يجيد التمثيل أكثر مما يجيد الحكم.
نعم، ففي الأنظمة الفاشلة، خصوصاً الديكتاتورية منها، تستبدل الكرامة بالخطابة، وتقايض الحقوق بالمهرجانات. لا أمن، ولا عدالة، ولا رعاية صحية، ولا تعليم حقيقي، ولا ماء نظيف أو كهرباء مستقرة أو أنترنت، ومع ذلك تجيد هذه الأنظمة فنا واحدا هو: فن التضخيم السياسي.
في تلك الدول، يقاس النجاح بعدد المقصات التي تقطع الشرائط الحمراء، لا بعدد المشروعات التي تغير حياة الناس. يفتتح مرفق صحي قديم بعد صيانته فيعلن عنه كأنه نقطة تحول في التاريخ الوطني. يوزع كيس طحين فيصور كأنه عطاء من القائد المحبوب، لا كحق بسيط من حقوق المواطن. يصلح طريق ترابي فيسمى "شريان الحياة الجديد" بينما الطرق الرئيسية تنهار تحت أقدام الناس.
والمفارقة الأعمق أن هذه الأنظمة لا تخجل من فشلها، بل تصنع منه عرضا مسرحيا مهيبا. تستدعي الكاميرات، وتحضر الخطب، وتقيم الاحتفالات، وكأن الشعب ينتظر أن يرى الحنفية تركب، لا أن يشرب ماءً نظيفا بكرامة.
أتذكر فيلماً قديماً وهو تراجيكوميدي فيه تحولت "الحنفية" إلى مهرجان قومي يرفع له العلم وتطلق بسببه الأغاني. لم تكن السخرية في الفيلم مبالغة، بل كانت نبوءة لواقعٍ متكرر: الماء، ذلك الحق الإنساني الأولي، يحتفل به كأنه إنجاز خارق. وحين تصبح الضروريات موضوعا للتمجيد، فاعلم أن الدولة سقطت أخلاقيا قبل أن تسقط إداريا.
الأنظمة الفاشلة تدرك أن إنجازاتها الحقيقية قليلة، لذا تتبع استراتيجية التهويل. ما هو في الأصل واجب حكومي روتيني، مثل تعبيد طريق أو توصيل مياه، يُقدم على أنه معجزة وطنية وقفزة حضارية. إنها فلسفة الخواء المتأنق: حين يغيب الجوهر، يضخم القشر، وحين يعجز النظام عن صناعة الحياة، يصنع الاستعراض بدلا منها.
ولخلق هذا الوهم، تستخدم أدوات معروفة ومنها:
خلق وهم بالإنجاز: لإيهام الشعب بأن النظام يعمل من أجله.
إلهاء الناس عن الإخفاقات الكبرى: الحديث عن "الحنفية" يصرف الانتباه عن أزمة المياه نفسها.
لغة الأرقام القياسية الوهمية: "أكبر ساحة"، "أطول علم"، "أضخم وليمة". مظاهر لعظمة هشة تستهلك الموارد بينما تنهار الخدمات الأساسية.
العدو الدائم والبطولة المصطنعة: فوجود "عدو" ضروري لاستمرار المسرحية. النظام يصور نفسه كالبطل الوحيد في مواجهة المؤامرات، حتى لو كان إصلاح عطل كهربائي يُقدَّم كأنه "انتصار في معركة الصمود الوطني".
في مثل هذه الأنظمة، لا تقاس العظمة بما يتحقق فعلاً، بل بما يُقال إنه تحقق. تقام المهرجانات لافتتاح "حنفية" كما لو أنها فتح الأندلس من جديد. ترفع الرايات وتلقى الخطب ويسمى الإنجاز البسيط أسطورة وطنية.
الكلمة أهم من الفعل، والمشهد أهم من الحقيقة. يراد للناس أن يصفقوا لا لأن شيئا تغير، بل لأنهم أُمروا أن يصفقوا. تصنع البطولات في نشرات الأخبار، وتخترع الانتصارات في نشرات المساء. حتى الفشل يعاد تسويقه على أنه نجاح "استراتيجي"، والكارثة تعلن "نقطة تحول تاريخية".
من ديكتاتوريات القرن العشرين التي أعلنت "الخطط الخمسية" ولم تثمر سوى الجوع، إلى أنظمة جعلت من قص الشريط الأحمر لطريق لم يكتمل مهرجانا وطنيا، إلى روما التي كانت تقيم الاحتفالات في لحظات ضعفها لتوهم نفسها بالعظمة... كلهم جمعهم شيء واحد: التمثيل.
دولة تمثل أنها دولة، ووزراء يمثلون أنهم يعملون، وشعب يمثل أنه يصدق.
إنهم لا يخشون الفقر أو الجهل، بل الحقيقة؛ لأنها تسقط المهرجانات وتطفئ الأضواء. لذلك يبقون أسرى الوهم، يختنقون تحت لافتة كتب عليها: "الإنجاز مستمر".
الأنظمة الفاشلة حين تعجز عن تحقيق إنجازات حقيقية تلمس حياة الناس، تلجأ إلى "تمثيل" دور النظام الناجح. تصنع فيلما عن الإنجاز بدلا من صناعة الإنجاز نفسه. الهدف ليس التنمية، بل تمديد عمر النظام عبر خلق واقع بديل، حتى ولو كان هشا مثل ديكور مسرحية... ديكور ينهار بمجرد أن يرفع الستار عن الحقيقة.
"مهرجان الحنفية" إذن ليس مشهدا عابرا من كوميديا سياسية، بل رمز لكل استعراض يخفي فشلا، ولكل سلطة تبيع الوهم بدلا من الكرامة. وربما كان الدرس الأهم الذي يتركه لنا هذا الرمز البسيط: لا تفرح بإنجاز هو في الأصل واجب مهمل، ولا تصفق لسلطة تحتفل بما كان ينبغي أن تستحي منه.
في النهاية، ليست المأساة أن تركب حنفية في احتفال مهيب، بل أن يصفق الناس وهم عطشى. فحين يصبح الوهم عيدا، وتسمى الحاجة إنجازا، نكون قد دخلنا زمنا يختلط فيه الصدأ بالمجد، وتغدو الديكتاتورية أبرع المخرجين لمسرحية الفشل العظيم.



#أكرم_شلغين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كلمات من القلب
- ما لا يعود
- بين ناطحات السحاب وسحابات الدم: هل أصبح التقسيم مصيرا محتوما ...
- الدين لله والوطن للجميع: رؤية في السياق السوري*
- العدو الذي لا نعرفه: التأمل في الصراع الداخلي عبر Face/Off-
- سوريا ليست لفئة واحدة، بل تعددية جميلة لا تُستبدل
- ورقة خريفية في مهب الوجود
- بين ديكنز والخلود: حين يشيخ الزمن ولا نزال نحلم بالشباب
- الماضي بوابة للتأمل… والمستقبل أفق للخلق
- بين الحلم والهيمنة....نحن هنا
- -طلّقني!-
- سألتنا كولا إن كنّا سنعود... فبكى البحر قبلنا
- التعايش والاحترام
- الخير والشر: معادلة الإنسان والكون بين الفطرة والضرورة
- جلنار والفراشة
- السوري… الحلم المؤجل والحرية الغائبة
- النقاء السياسي واللغة
- الاغتراب الجيلي وابتعاد الشباب عن الشأن العام في سوريا
- الروبوت الحامل: بين التحرر من العقم وفقدان قدسية التجربة الإ ...
- مأزق الساحل السوري: جذور وتداعيات


المزيد.....




- انتشرت النيران بسرعة.. شاهد لحظة تحطم طائرة تابعة لشركة UPS ...
- بغرفة نوم ومطبخ.. شاهد كيف تتحول هذه الحقيبة عند فتحها إلى م ...
- من أصل سوري وخُطبت في دبي.. ما قد لا تعلمه عن راما دوجي زوجة ...
- جزيرة الألوان.. هل هذا أغرب مكان في إيران؟
- من هو زهران ممداني، عمدة نيويورك المسلم من أصول أفريقية؟
- من هو حميدتي، وكيف أصبح لاعباً أساسياً في المعادلة السياسية ...
- إسرائيل تحدد هوية جثة رهينة سلّمتها حماس.. وغوتيريش: الوضع ف ...
- ولد في أوغندا وحصل على الجنسية الأمريكية عام 2018... ممداني ...
- بلجيكا: مطار بروكسل يعيد فتح أبوابه بعد إغلاق مؤقت بسبب رصد ...
- ارتفاع حصيلة الإعصار كالمايجي في الفلبين إلى أكثر من 90 قتيل ...


المزيد.....

- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أكرم شلغين - مهرجان الحنفية: مسرحيات الفشل في الأنظمة الديكتاتورية