ادم عربي
                                        
                                            
                                                    
                                                
كاتب وباحث
                                                    
                                                 
                                                
                                        
                    
                   
                 
                
                 
                
                
                 
                 
              
                                        
                                        
                                      
                                        
                                        
                                            الحوار المتمدن-العدد: 8512 - 2025 / 10 / 31 - 20:17
                                        
                                        
                                        المحور:
                                            الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
                                        
                                        
                                            
                                        
                                        
                                     
                                      
                                        
                                        
                                        
                                        
                                            
    
    
 
                                       
                                        
                                        
                                
                                
                                   
                                        
                                            
                                              بقلم : د . ادم عربي
ليست الصدفة في عرف المؤمنين سوى ستارٍ لغوي يخفي خلفه الإيمان بالقضاء و القدر؛ فكل ما يحدث في الكون ، صغيراً كان أم عظيماً ، إنما يقع بتقدير الله، ولا مكان فيه للمصادفات والصدف.
هنالك رأيان يقول البعض أن كل شيء في العالم ضروري وليس هناك أي شيء صدفي. أما البعض الآخر فيقول على العكس أن كل شيء في العالم صدفي. دعك من كلا النوعين : فالصدفة الخالية من الضرورة لا وجود لها ، ووراء الضرورة تجد الصدفة.
أما في الفلسفة، ولا سيما في المادية الجدلية، فالأمر يُطرح على نحوٍ آخر، الصدفة ليست نفياً للسببية، ولا الضرورة قيداً للحركة، بل كلاهما وجهان متكاملان لواقعٍ واحد حي، يتغيّر ويتحول وفق قوانين داخلية وخارجية متشابكة.
يحلو للفلاسفة أنْ يبدؤوا من حادثة صغيرة ليكشفوا ما وراءها من نظام كوني.
فيُروى أنَّ طالب دكتوراه في الكيمياء كان يثبّت ميزان الحرارة داخل دورق التسخين، فانكسر الميزان وسقط الزئبق في المحلول، فحدث تفاعل طالما استعصى عليه، ليتبين فيما بعد أنَّ الزئبق كان الحفّاز المثالي للتفاعل.
هل كانت تلك الحادثة "صدفة"؟ نعم، ولكنها لم تكن بلا سبب. فالزئبق لم يُنتج فعله بفعل السحر، بلْ لأن لطبيعته الكيميائية علاقة جوهرية بمكونات المحلول.
الصدفة، إذاً، هي التقاء مسارين ضروريين في لحظةٍ غير متوقعة، أي نتاج تقاطع ضرورتين.
في الفكر الميتافيزيقي ،  العالم يُفهم على نحو ثابت ، كل ما يحدث إما ضروري صرف أو عرضي صرف، كأن الضرورة والصدفة عالمان منفصلان لا جسر بينهما.
أما الديالكتيك، فيكشف خطأ هذا التقابل الجامد، لأنه يرى في الوجود حركة مستمرة، وكل حركة تتضمن في ذاتها تناقضاً.
فما يبدو اليوم صدفة قد يتحوّل غداً إلى ضرورة مفهومة حين نكتشف قوانينه الداخلية، وما يُعدّ ضرورة مطلقة في لحظةٍ ما قد يفقد ضرورته عندما تتغيّر الشروط الموضوعية.
إنَّ الضرورة في المفهوم الجدلي ليست "الإجبار" بلْ القانون الداخلي للظاهرة؛ ما يجعلها ما هي عليه ، كوجود الليل والنهار بسبب دوران الارض.
أما الصدفة فهي ما يأتي من الخارج، فيلتقي مع الضرورة في نقطة ما ليمنحها اتجاهاً جديداً.
ولعلّ أبسط مثالٍ على تداخل الضرورة والصدفة هو ما يحدث في الحياة اليومية.
فرجل يمشي في الشارع، إنما يفعل ذلك بدافعٍ ضروري بالنسبة إليه؛ فالمشي نتاج حاجته وقصده وسلوكه الواعي، أي نتيجة لقوانين داخلية تخصّه هو نفسه ، هذه هي الضرورة.
لكن أن تسقط من بنايةٍ نافذة في اللحظة نفسها لتقع على رأسه وتقتله، فذلك لا علاقة له ببنية الفعل ذاته، بل يأتي من خارجها تماماً؛ إنه ما نسميه الصدفة.
غير أن هذا الفصل بين الضروري والعرضي لا يعني انفصالهما في الواقع؛
فلو لم يخرج الرجل في تلك الساعة بالذات، ولو لم تهتزّ النافذة في تلك اللحظة بعينها، لما التقت الضرورتان في نقطة واحدة أفرزت ما نسمّيه "حادثةً صدفية".
إذن، الصدفة هنا ليست بلا سبب، بل نتاج التقاء ضرورتين مستقلتين في لحظة واحدة،
ومن هذا الالتقاء العارض يولد الحدث الجديد الذي يغيّر مجرى الضرورة الأولى.
بهذا المعنى، يتبيّن أن الصدفة والضرورة نقيضان متداخلان:
إحداهما تعبّر عن القانون الداخلي، والأخرى عن التدخل الخارجي،
وصراعهما هو ما يمنح الواقع حركته المستمرة وتحوّله الدائم.
إنها ليست نقيضاً للسببية بل شكل من أشكالها، لأنها تعبّر عن أسبابٍ لم نكشفها بعد، أو عن تفاعل أسباب متعددة في زمانٍ ومكانٍ محددين.
ولنأخذ مثال الطبيعة:
من الضروري أن تنمو النباتات الصحراوية في مناخ حار جاف بأوراقٍ إبرية الشكل لتقليل النتح.
لكن الشكل الدقيق لتلك الأوراق، وطولها، وتوزعها، يتأثر بعوامل عرضية مثل الرياح أو حركة الرمال أو ندى الصباح.
هنا نرى كيف تتداخل الضرورة والصدفة  الأولى تحدد الإطار العام، والثانية تشكّل التفاصيل.
ولو تأملنا الطبيعة بعين الميتافيزيقي لبدت لنا الصدف فوضى، أما بعين الجدلي فسنراها تجليات متعدّدة لنظام أعمق.
يقول إنجلز في ديالكتيك الطبيعة:
"ما نسميه صدفة هو شكل ظهور الضرورة التي لم نكتشف قانونها بعد."
بهذا المعنى، لا وجود لصدفة خالصة أو ضرورة خالصة في الواقع المادي؛ فكل ظاهرة تتضمن الاثنين في آن واحد، كجدلية الحركة والسكون، أو السبب والنتيجة.
إنَّ الصدفة ليست استثناء من القوانين، بل هي الطريقة التي تعمل بها القوانين وسط تعدد الشروط والتفاعلات.
وهنا يكمن عمق الموقف الماركسي، فهو لا يرد الحوادث إلى "مشيئة غيبية"، ولا إلى "حتمية عمياء"، بل إلى العلاقات المادية المتشابكة بين الظواهر.
فما يحدث في التاريخ أو في الطبيعة لا يمكن تفسيره بعامل واحد، بل بمجموع التناقضات التي تتفاعل لتنتج الحدث في لحظته الخاصة.
إذا عدنا إلى مثال طالب الكيمياء ، أين الضرورة؟، نرى أن الضرورة تجسدت في فعله العلمي نفسه ، كان يجري تجربة بحثاً عن نتيجةٍ محددة.
لكن الصدفة ، أي انكسار الميزان وسقوط الزئبق ، جاءت من الخارج لتفتح باب اكتشاف جديد.
وفي المقابل، حين ننظر إلى تكيف النباتات مع الصحراء، نجد أن الضرورة هي المسيطرة، فيما تظل الصدف  مثل تغير الطقس أو الرطوبة  مجرد عوامل ثانوية تحدد التفاصيل.
وهكذا نرى أن الواقع لا يُختزل في أحد القطبين.
فحين ترتفع الصدفة إلى مستوى الوعي، وتُدرَس قوانينها، تتحوّل إلى ضرورة جديدة.
وهذا ما يفعله العلم دائماً ، ينزع الغشاء الغامض عن المصادفات، فيحوّلها إلى معرفة، ومن ثم إلى قدرة.
في المادية الجدلية، لا تُفهم الصدفة بوصفها "عشوائية"، بل بوصفها لحظة من لحظات الضرورة، أي شكل ظهورها في عالم معقّد من التفاعلات المتبادلة.
في المادية الجدلية، لا تُفهم الصدفة بوصفها عشوائية أو نفياً للسببية، بل بوصفها الضدّ المباشر للضرورة في وحدةٍ جدلية متوترة.
إنهما قوتان متعارضتان تتصارعان داخل كل ظاهرة، كما يتصارع السكون والحركة، والثبات والتغيّر.
فالضرورة تمثل القانون الداخلي للظاهرة، أي ما يفرض نفسه من داخلها، بينما تمثل الصدفة التدخّل الخارجي الذي يزاحم هذا القانون أو يغيّر اتجاهه.
ومن خلال هذا الصراع يتقدّم الواقع ويتحوّل.
الصدفة ليست شرطاً لحركة الضرورة، بل نفيها الجدليّ؛
هي المظهر الذي تتعرّض فيه الضرورة للاهتزاز أو التحوّل تحت ضغط العوامل الخارجية.
لكن هذا النفي لا يُلغيها، بل يُعيد تشكيلها في مستوى أعلى، تماماً كما تتحوّل الكمّية إلى كيفية في لحظة التناقض القصوى.
وهكذا تنشأ الحركة لا من انسجامٍ ساكن، بل من التناقض ذاته بين الضرورة والصدفة.
فالكون لا يسير بخطّ مستقيم من الحتميات، ولا يتبع فوضى من العشوائيات،
بل يتحرك بين نقيضين متصارعين هما :
أحدهما يولّد النظام، والآخر يفتح باب التغيير.
وبين هذين الضدين يتشكّل التاريخ، وتولد القوانين الجديدة من رحم التصادم بين ما يجب أن يكون، وما حدث أن كان.
فالكون لا يتحرك بخط مستقيم بل عبر التواءات وتداخلات؛ وكل قفزة نوعية فيه هي، في ظاهرها، نتيجة مصادفة، لكنها في جوهرها تجسيد لحتمية مادية عميقة كانت تتخمر في صمت.
إن الإنسان نفسه، في مسار التاريخ، لا يصنع الأحداث كما يشاء، لكنه لا يخضع لها سلباً أيضاً؛ إنه يفعل داخل شروطٍ موضوعية محددة.
وحين تتقاطع الضرورات الاجتماعية (كحاجة الإنتاج) مع الصدف التاريخية (كحربٍ أو أزمةٍ أو ثورةٍ عفوية)، يولد الحدث الذي يغيّر مسار التاريخ.
هكذا تتجلّى الصدفة بوصفها أداةً للضرورة التاريخية، لا نفياً لها.
فالضرورة والصدفة ، كما يقول الديالكتيك ، وجهان لحقيقة واحدة:
الأولى تعبّر عن الاتجاه العام للحركة، والثانية عن تموّجاتها وتنوّع أشكالها.
وحين نفهمهما بوحدتهما، ندرك أن العالم ليس فوضى بلا قانون، ولا قدراً جامداً بلا حرية، بل نظام حي يتطور في صيرورةٍ لا تنتهي، صيرورةٍ تتحرك فيها الضرورة من خلال الصدفة، وتولد الصدفة من رحم الضرورة.
إنَّ الصدفة هي الشكل الذي تتكلم به الضرورة إلى من لم يتعلم بعد لغتها.
والمهمة الفلسفية، كما يقول إنجلز، هي أن نتعلّم هذه اللغة، أي أن نرى في الفوضى النظام، وفي العارض القانون، وفي الحدث المفاجئ تعبيراً عن حركة الواقع المادي ذاته.
                                                  
                                            
                                            
                                          
                                   
                                    
      
    
  
                                        
                         #ادم_عربي (هاشتاغ) 
                           
                          
                            
                          
                        
                           
                          
                         
                
                                        
  
                                            
                                            
                                             
                                            
                                            ترجم الموضوع 
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other 
languages
                                        
                                            
                                            
                                            
الحوار المتمدن مشروع 
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم 
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. 
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في 
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة 
في دعم هذا المشروع.
 
  
                                                               
      
    
			
         
                                         
                                        
                                        
                                        
                                        
                                        
                                         
    
    
    
                                              
                                    
                                    
    
   
   
                                
    
    
                                    
   
   
                                        
			
			كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية 
			على الانترنت؟