أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ادم عربي - البيروقراطية وشرورها!














المزيد.....

البيروقراطية وشرورها!


ادم عربي
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8505 - 2025 / 10 / 24 - 22:16
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


بقلم : د . ادم عربي

حين يغضب الله على شعب أو دولة أو ثورة أو حزب، يبتليهم بالبيروقراطية. فهي لعنة تنخر الديمقراطية، وتُفسد روح المشاركة الشعبية، وتشوه مبدأ أنَّ الشعب هو مصدر السلطات والشرعية. بلْ يمكن القول إنَّ البيروقراطية تُفسد الحياة كلها، لأنها الجذر الذي يتغذّى منه الفساد بكلِّ أشكاله.

وللبيروقراطية درجات تشبه دركات جهنم، وفي أسفلها تتربع البيروقراطية الشرقية، والعربية على وجه الخصوص.

وإني أعترف أنني أول ما تعرّفت إلى معنى البيروقراطية، في فكرها وشرها، كان من خلال الجدل الذي أثارته التجربة الستالينية في الاتحاد السوفييتي. فقد رأى خصم ستالين اللدود، ليون تروتسكي، أنَّ تلك التجربة ليست إلّا اغتصاباً بيروقراطياً للسلطة التي كانت من المفترض أنْ تبقى بيد الطبقة العاملة. وقد شرح تروتسكي بإسهاب كيف تحوّل الحكم العمالي إلى سلطة بيروقراطية منفصلة عن الشعب.

أما نحن في بلادنا، فغالباً ما نحصر معنى البيروقراطية في كلمة الروتين، ذلك الكابوس الإداري الذي يواجهه المواطن في الدوائر الحكومية. كل من جرب أنْ ينجز معاملة بسيطة كتركيب عداد جديد للكهرباء أو للماء يعرف تماماَ ما نعنيه.

لكن هذا الفهم، رغم واقعيته، ضيق وسطحي، ولا يكفي لخوض معركة حقيقية ضد البيروقراطية، لأنها ليست مجرد روتين، بلْ نظام حكم كامل قائم على اغتصاب السلطة من الشعب.

فأصحاب المناصب العامة من نواب ووزراء وغيرهم يمارسون نوعاً من الانفصال التدريجي عن الناس. حتى وإنْ وصلوا إلى مواقعهم عبر الانتخابات، فإنهم ما إنْ يجلسوا على الكراسي حتى يتحولوا إلى فئة تخدم مصالحها الخاصة، لا مصالح من انتخبوها. ومع الوقت، تتحول الخدمة العامة إلى خدمة ذاتية، ويغدو الشعب هو من يخدم خدامه.

ولعلَّ من أبرز ما اكتشفه كارل ماركس في تجربة كومونة باريس (1871)، هو كيفية مواجهة البيروقراطية وشرورها. فقد دعا إلى أنْ يتقاضى الموظف العام مهما علت درجته راتباً لا يتجاوز متوسط أجور العمال، وأنْ يكون قابلاً للعزل فور إساءته استخدام سلطته، وأنْ يخضع دائماً لرقابة شعبية حقيقية مدعومة برقابة إعلامية حرّة.

أما المؤسسات الأمنية والعسكرية، فكان يرى ضرورة إعادة بنائها من الجذور حتى لا تنفصل عن الشعب ولا تتحول إلى أداة لقهره.

ولست أطلب منكم أنْ تنظروا إلى البيروقراطية بعيون ماركس أو أنْ تمتلكوا بصيرته، بلْ فقط أنْ تتخيلوا النتائج لو أُقِرّ قانون للخدمة العامة يمنع أي نائب أو مسؤول من تقاضي راتب أعلى من متوسط الرواتب في بلده، ويمنح الشعب الحق في عزله متى أساء التصرف أو استغل سلطته.
لو تحقق ذلك، لَما تجرأ نائب على التعامل مع صوت الناخب كأنه كوب بلاستيكي يُستعمل مرة واحدة ثم يُرمى في سلة المهملات .

لكن النائب في واقعنا يدّعي أنه يخدم الشعب ويضحي من أجله، وأنه بحاجة إلى راتب كبير وامتيازات ضخمة ليقوم بواجباته على أكمل وجه! فهو، بزعمِه، لا يسعى إلّا إلى الخير العام، ولكن الخير عنده يبدأ من امتياز الإعفاء الجمركي وينتهي بالألقاب الرفيعة والمكافآت.

ثم، حين يعتزل الحياة السياسية، يُكافأ وكأنه بطل قومي ، راتب تقاعدي يساوي آخر راتب تقاضاه، وتأمين صحي له ولعائلته مدى الحياة مكافأة على سنوات خدمته الشاقة!

وإذا سألته عن هذا التناقض بين رفاهيته ومعاناة الشعب، أجابك بكلِّ ثقة أنَّ استقلال السلطة التشريعية لا يتحقق إلّا إذا حصل النائب على استقلال اقتصادي يضمن له الكرامة عبر الرواتب والامتيازات!

وهكذا تتكاثر طبقة كاملة من أصحاب الامتيازات مِنْ نواب ووزراء سابقين ومتقاعدين حتى صار عددهم من الأسرار الكبرى التي لا تُحصى.
تحت شعار الخدمة العامة ينشأ جيش من المنتفعين، أما الشعب، فهو مجرد خلفية صامتة لهذا المشهد العبثي.

تصيب البيروقراطية أصحابها بداء خطير هو المظهرية، وهي آفة شرقية بامتياز. فالموظف البيروقراطي كغصن لا يحمل ثمارًا، ولا ينحني تواضعًا كما ينحني الغصن المثقل بالثمار ؛ همه أنْ يبدو في الصدارة دائماً، وأنْ يُظهر نفسه في هيئة العارف، الكبير، اللامع، حتى وإنْ كان خواءً من الداخل.
إنهم أشبه بإعلانات تجارية براقة ، يظهرون فيها كأفضل الناس أداءً، لكن عند التجربة يتضح أنَّ بضاعتهم مغشوشة.

وعظمة الأمم تقاس بقدرتها على تمييز الكبير من الصغير. الأمة العظيمة هي التي تُقيم أبناءها بميزان المتنبي: العظيم من صغُرت في عينه العظائم، والصغير من عظُمت في عينه الصغائر.
والبيروقراطية لا تنبت إلّا في تربة الصغائر، حيث يصبح المنصب أهم من الإنسان، والمكان أعظم من الذي يشغله.
وهنا يظهر الفارق بين من يعظُم بالمكان ومن يعظُم به المكان؛ فالأول لا يزيد على كونه جملاً مزيّناً، أما الثاني، فحيثما جلس، حتى لو كان قرب الباب، يكون هو الصدارة نفسها.

وكم كان ذاك الرجل عظيماً خلّدهُ التاريخ بإنجازاتِهِ وأفعاله. دخل مجلساً وجلس عند الباب متواضعاً، فجاء أحدهم وقال له: سيدي، لك الصدارة، فرد قائلاً: الصدارة حيث أجلس. لقد كان هذا الرجل ممتلئاً كالغصن المثمرِ، الذي يحنو بثقله. أما في مجتمعاتِنا المصابةِ بداءِ المظهريّةِ، فإن أمثال هؤلاء قلّما يُوجدون، لأنهم يعيشون في عالمٍ يقدّس الشكل على حساب الجوهرِ. هؤلاء الذين يعانون من المظهريةِ هم كالأغصان الصفراء الفارغةِ التي لا تحمل ثماراً، ولكنّها دائماً ما تبحثُ عن التصدُّرِ في كلِّ شيءٍ، تلبس لباس اللاشيءِ وهو الغرور وتتباهى بما لا تملكه.



#ادم_عربي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المال هو الإله الحقيقي للعصر الحديث!
- الدولة ومدنيتها!
- هل الرأسمالية مثالاً يُحتذى به؟
- مراثي النسيان!
- إرث الاشتراكية: قراءة في مرحلة ما بعد الانهيار!
- في ثورة أكتوبر الاشتراكية (5) والأخير
- في ثورة أكتوبر الاشتراكية (4)
- في ثورة أكتوبر الاشتراكية (3)
- في ثورة أكتوبر الاشتراكية (2)
- في ثورة أكتوبر الاشتراكية(1)
- طريقة فهم المنهج الجدلي!
- على شاطئ السماء!
- ديموقراطية طوباوية!
- ميكانيكا الكم والجدل الماركسي!
- سوسيولوجيا -الآلة-
- حرية التعبير.. حق أم وهم؟
- متى ينقشع ضباب التدين عن صراعنا الواقعي؟
- الوطن ليس قطعة أرض فحسب،بل فكرة تتبدل!
- مقال قديم لاينشتاين!
- في الإرادة!


المزيد.....




- -ترامب يدرس خططا لاستهداف منشآت الكوكايين داخل فنزويلا-.. مص ...
- منشور قديم على مواقع التواصل وموقف من إسرائيل يشعلان استجواب ...
- نقاش اسرائيلي في مسألة الاقتراب من الخط الأصفر.. وبن غفير يد ...
- واشنطن تعيّن سفيرها في اليمن ستيفن فاجن مديرًا مدنيًا لمركز ...
- قضية جديدة تلاحق أكرم إمام أوغلو.. السلطات التركية تحقق معه ...
- الحوثيون يعتقلون سبعة موظفين أمميين بتهمة -التخابرمع إسرائيل ...
- أسبوع في العالم
- النبض المغاربي لماذا احتجزت إسبانيا سفنا محملة بأسلحة قادمة ...
- شاهد.. أسباب تفوق الهلال على الاتحاد وفوزه 2-0
- ماذا تدفع الدول مقابل المساعدات المالية الأميركية؟


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ادم عربي - البيروقراطية وشرورها!