أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - بشار مرشد - الشك الهيكلي الجماعي... وباء الاستبداد والاضطهاد















المزيد.....

الشك الهيكلي الجماعي... وباء الاستبداد والاضطهاد


بشار مرشد
كاتب وباحث

(Bashar Murshid)


الحوار المتمدن-العدد: 8511 - 2025 / 10 / 30 - 10:34
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مقدمة:
تمرّ المجتمعات التي عانت لعقود من الاستبداد والاحتلال بحالة عميقة من انعدام الثقة. لم يعد الأفراد يصدقون ما يُقال لهم من مؤسسات الدولة، ولا يثقون في الإعلام، ولا حتى في النخب التي يفترض أن تمثل ضمير المجتمع. تفشى الإحباط، وامتزجت الحقيقة بالدعاية، حتى فقد الناس القدرة على التمييز بين الكلمة الصادقة والادعاء المزيّف.

هذه الظاهرة ليست وليدة أزمة قصيرة، بل هي نتيجة تراكم طويل من الخداع الرسمي، القمع السياسي، الاحتلال، والفساد المؤسسي، الذي جعل الواقع يُروى بلغة غير واقعية. مع تكرار الخيبات، تحوّل الشك من أداة نقدية إلى مرض اجتماعي مزمن؛ لم يعد الناس يشكّون بحثًا عن الحقيقة، بل يشكّون هربًا منها. فصار الصادق والمنافق سواءً في نظر الجمهور، وانقلبت السخرية إلى لغة يومية للتعبير عن اليأس والعجز.

إن فقدان الثقة لا يدمّر السياسة فحسب، بل يضرب في عمق الاجتماع البشري، لأنه ينسف الرابط الأخلاقي الذي يجعل الناس قادرين على التعاون والعمل المشترك. حين تنكسر الثقة، لا يبقى شيء يجمع المجتمع سوى الخوف أو المصلحة، وكلاهما لا يصنعان وطنًا ولا حضارة.


تعريف الظاهرة وأبعادها:
تُعرَّف أزمة فقدان الثقة بأنها انهيار في العلاقة بين الفرد والمؤسسات الاجتماعية والسياسية، بحيث لا تعود أقوال السلطة ولا أفعالها تُعتبر صادقة أو ذات نوايا خيّرة، مهما بدت منطقية أو واقعية. وهي حالة مركّبة تتجاوز حدود السياسة لتشمل التعليم، الإعلام، الاقتصاد، وحتى العلاقات اليومية بين الناس.
في علم الاجتماع السياسي تُعدّ الثقة رأس المال الرمزي الذي يُبقي المجتمع متماسكًا. حين تتآكل هذه الثقة، يبدأ ما يُعرف بعملية “تفكك الشرعية”، أي فقدان الإيمان بأن النظام القائم يمثّل الصالح العام. أمّا في علم النفس الاجتماعي، فيُنظر إلى هذه الظاهرة بوصفها استجابة دفاعية جماعية تنتج عن تراكم الخداع، وغياب العدالة، وتكرار الصدمات العامة مثل القمع والاحتلال.
النتيجة هي ما يمكن وصفه بـ"الانكماش النفسي الجمعي": انسحاب الأفراد من المجال العام، واستبدال الحوار بالعزلة أو السخرية أو الإنكار. وهكذا يتحول المجتمع من كيان متماسك يسعى للتغيير، إلى مجموعة من الذوات المتعبة، كلٌّ منها يحاول النجاة وحده في فضاء من الشك.


الأسباب البنيوية والاجتماعية لظهور الظاهرة:
تتجذر أزمة فقدان الثقة في البنية العميقة للمجتمعات التي شهدت عقودًا من الاستبداد، القمع، والاحتلال، وفي طبيعة توزيع الحقيقة داخل المجال العام. فحين تُختزل مؤسسات الدولة في أشخاص، ويُختزل العمل العام في شعارات، يتحول النظام إلى منظومة تمثيل رمزي هشّة لا تستمد شرعيتها من الأداء، بل من الخطاب. ومع تكرار التجارب الفاشلة، تتكوّن لدى الناس قناعة بأن الكذب ليس حادثًا عرضيًا، بل وظيفة رسمية.

على المستوى الاجتماعي، يسهم الفساد البنيوي في تعميق الأزمة، إذ يُكافأ الماكر ويُعاقب الصادق، فتتبدل معايير القيمة في الوعي الجمعي. يصبح الانتهاز مهارة، والصدق سذاجة. وفي ظل هذا الانقلاب القيمي، يفقد المجتمع احترامه لنفسه قبل أن يفقد احترامه للسلطة.

أما على المستوى الثقافي، فإن تدهور التعليم والإعلام يلعب دورًا حاسمًا في تكوين بيئة معرفية مشوشة. حين تُستبدل المعلومة بالانطباع، والرأي بالحقيقة، يتحول الوعي العام إلى فوضى من الأصوات، لا مركز لها ولا معيار. عندها، لا يعود المجتمع قادرًا على إنتاج الثقة أو استقبالها.

إلى جانب هذه الأسباب البنيوية والاجتماعية، تتفاقم الأزمة حين تجتمع معها ظروف أشد قسوة، مثل التدهور الاقتصادي، وانتشار البطالة، وغياب التمثيل السياسي الحقيقي، وتعذر الانتخابات العامة، واستمرار الاحتلال الذي يقيد الإرادة الوطنية ويحدّ من الفعل السياسي. اجتماع هذه العوامل يخلق حالة انسداد شاملة؛ إذ يشعر المواطن أن الواقع محكوم بقوى لا يستطيع التأثير فيها، وأن أي خطاب رسمي عن الإصلاح أو التنمية ليس سوى تكرار لعجز مزمن. في ظل هذا المشهد المركّب، تنحسر الثقة إلى أدنى مستوياتها، ويتحوّل الشك إلى بنية وعي جماعي، والسخرية إلى اللغة اليومية للمجتمع المرهق.


الآثار النفسية والاجتماعية:
حين تتضافر كل هذه العوامل، يتأثر المجتمع على مستويات عدة. نفسيًا، يولد إحباط دائم وشعور بالعجز، حيث يرى الفرد أن جهوده لن تغيّر الواقع، فتتراجع الدافعية، ويصبح الانسحاب أو السخرية أو اللامبالاة آليات دفاعية شائعة. اجتماعيًا، تتآكل الروابط بين الناس، ويضعف التعاون والمساءلة، لأن الثقة المتبادلة لم تعد قائمة. كما يتحول الشك من أداة نقدية إلى أسلوب حياة جماعي، يعمّق الانقسام ويجعل أي مبادرة إصلاحية تواجه صعوبة بالغة في الانتشار، حتى لو كانت صادقة وفعالة.


سبل العلاج وإعادة بناء الثقة تدريجيًا:
إعادة الثقة المفقودة عملية طويلة ومركّبة، تبدأ من المستويات الدنيا للمجتمع قبل أن تنتقل إلى الأعلى. لا يمكن انتظار السلطة لتصنع المعجزات، بل يجب على الأفراد والمجتمعات المحلية أن يخلقوا تجارب صدق ملموسة. مثال ذلك: مبادرات تطوعية شفافة، مؤسسات صغيرة تُدار بنزاهة، تعليم يركّز على النقد والمصداقية، وإعلام يقدم الحقائق دون تزويق أو اجتزاء.

ثانيًا، استعادة التفكير النقدي ضرورية. الشك الصحي يصبح أداة للتمييز بين الحقيقة والدجل، ويحول اليأس إلى وعي عملي. تعليم المجتمع كيفية فحص الأدلة، مقارنة المصادر، والتساؤل عن مصالح الخطاب، هو حجر الأساس لإعادة الثقة.

ثالثًا، الشفافية المحلية تُعيد الثقة تدريجيًا. عندما يرى المواطن نتائج ملموسة من جهود صادقة، حتى في نطاق محدود، يبدأ إدراكه أن التغيير ممكن، وأن الصدق ليس مجرد رفاهية نظرية. هذه التجارب الصغيرة، عند تكاثرها، تشكل كتلة حرجة من المصداقية قادرة على مقاومة الخداع الرسمي وتكوين وعي اجتماعي أكثر صلابة.

أخيرًا، يجب الاعتراف بأن العملية ليست خطية؛ الانكسارات ستتكرر، والتشكيك سيظل حاضرًا، لكن التجربة العملية، الموثقة والمستمرة، هي الوسيلة الوحيدة لإعادة بناء ما انهار. الثقة ليست شعورًا يُفرض، بل عادة اجتماعية تُمارس وتُعزز يوميًا، حتى تعود جزءًا من الوعي الجمعي.


خاتمة:
ظاهرة فقدان الثقة في المجتمعات التي عانت عقودًا من الاستبداد والاحتلال ليست مجرد أزمة سياسية أو اقتصادية، بل انعكاس لتراكم طويل من الخداع، الفساد، الإحباط، والظروف القاسية التي تحاصر المواطن من كل جانب. آثارها النفسية والاجتماعية عميقة، إذ تتحول السخرية والشك إلى أسلوب حياة، وينكمش الفعل الجمعي تحت وطأة اليأس.

رغم قسوة الواقع، فإن استعادة الثقة ممكنة، لكن ليس بالخطابات المادحة أو الوعود الفارغة، بل بالتجارب الصغيرة الصادقة، التعليم النقدي، الشفافية العملية، والمبادرات المجتمعية الموثوقة. كل خطوة صادقة، مهما بدت محدودة، تُعيد جزءًا من النسيج الاجتماعي، وتخلق قاعدة للوعي الجماعي الذي يمكنه مواجهة الخداع الرسمي لاحقًا.

الحكمة تقول: "الوصول متأخرًا خير من عدم الوصول أبدًا". حتى لو بدأ المجتمع متأخرًا في بناء الثقة، فإن كل تجربة صادقة هي بذرة أمل، يمكن أن تنمو لتعيد ترتيب الواقع، وتُثبت أن الصدق والشفافية ليسا رفاهية، بل ضروريات للبقاء والكرامة الجماعية.



#بشار__مرشد (هاشتاغ)       Bashar_Murshid#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأمة التي تصرّ على اختراع العجلة السياسية والتنموية
- الاحتواء السياسي ومشتقاته...انتداب ووصاية جديدة
- الطريق الأقصر إلى الحضارة والتقدُّم... حين يصبح العقل هو الث ...
- وراثة الأحزاب… موت الفكرة وخلود الكرسي
- فلسطين... طائر الفينيق والبراق
- الثراء السريع… حين يصبح المال علامة استفهام
- النظام العالمي... تعدد شكلي للدول تحت مظلة الخمسة
- المؤسسات... المرآة الحقيقية للدولة
- الاستعمار بالمدافع... والاستحمار بالعقول
- فلسفة الحكم الرشيد... ترسخ العقد الوطني
- بين الفلسفة والصفات والإدراك... مسارات تكوين الشخصية والفكر
- قراءة في رحلة البحث عن الحقيقة
- الإعلام الرقمي… من منبرٍ للمعرفة إلى ساحةٍ للفوضى
- التعسف الوظيفي: كيف يحوّل المؤسسات من إنتاجية إلى ضغط؟
- حين يصبح الفاسد قديسًا... جمهورية النزاهة الوهمية
- فلسفة التنكّر والجحود… هندسة اليأس وتدمير الأمم
- الزمن الرقمي… يفضح النفاق
- الضمير والأخلاق... صمام الأمان بين التقلب الانتهازي والتكيف ...
- كلمة حق أُريد بها باطل... قراءة تحليلية
- الأحزاب...من الوسيلة النبيلة إلى الانحراف والتحزب


المزيد.....




- السعودية.. تحليل ماذا قصد محمد بن سلمان بحضوره جلسة أحمد الش ...
- تصاعد هجمات المستوطنين يُهدد موسم قطف الزيتون في الضفة الغرب ...
- اتفاق أمريكي - صيني بشأن توريد المعادن النادرة: انفراجة أم ه ...
- سرقة متحف اللوفر: توقيف خمسة أشخاص جدد وفق المدعية العامة بب ...
- إسرائيل تقتل لبنانيا خلال اقتحام مبنى بلدية جنوبي البلاد
- رشوة الطيار لتحويل مسار الرحلة.. تسريب تفاصيل خطة أميركية لخ ...
- التواصل الاجتماعي وأمور أخرى.. هذه أسرار تقدم ممداني بانتخاب ...
- -آبل- تعتمد على شاشات -أوليد- في منتجاتها القادمة
- مفتي القاعدة السابق: لست نادما على شيء وهذا ما أريد إخبار ال ...
- تنزانيا تغلق المؤسسات اليوم بعد انتخابات وصفت بالفوضوية


المزيد.....

- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - بشار مرشد - الشك الهيكلي الجماعي... وباء الاستبداد والاضطهاد