|
|
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثانية عشر: ضرورة معرفة تطور الأديان وأصل الديانات الإبراهيمية
محمد بركات
الحوار المتمدن-العدد: 8500 - 2025 / 10 / 19 - 00:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بعد أن أتممنا الحديث عن تطور الإنسان المادي، نتحدث الآن عن تطور الفكر الديني عند الإنسان، والإنتقال من ديانات التعدد إلى التوحيد. قد يتصور العقل المجرد أن الإنسان كما تطور في تكوينه البيولوجي، حتى وصل إلى مرحلته الحالية التي هو عليها في أكمل صورة وأحسن تقويم، فكذلك لابد أن يكون قد تطور في تكوينه الروحي وتصوره للإله وعلاقته به، حتى وصل إلى الكمال أيضاً في هذا الجانب. ولكن عند البحث في تاريخ الأديان، نجد أن الإنسانية مرت بمراحل صعود وهبوط في تصوراتها الدينية، وأن سنة التطور لا تعمل بشكل مطّرد في تاريخ الإنسان الروحي والديني، كما عملت في تاريخه البيولوجي. صحيح أنه حدث تطور ونقلة كبيرة، من أديان التعدد إلى أديان التوحيد، لا سيما في العصر الهيلينستي، كما سيأتي مفصلاً، ولكن لم يحدث تطور عام، بحيث تأخذ المرحلة اللاحقة من سلفها أجمل ما فيه وتترك ما عداه. والدليل على هذا أن الديانات الإبراهيمية هي النسخة الأخيرة الأحدث في تاريخ الأديان، ومع ذلك نجدها غارقة في حمأة التخلف والخرافة، تدفن الإنسان في العبادة، وتفسر بها علة الخلق (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وأما في الأخلاق، فنجدها لم تنجح في الإرتقاء بالإنسان في هذا الجانب، بل على العكس، نجدها كرست وقننت العداوات والخصومات والحروب المقدسة لعلة اختلاف الدين، ففي القرآن: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) وفي التوراة أوامر صريحة بإبادة غير اليهود: (وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة). سفر التثنية، الإصحاح 20/11-17. كذلك نجد في تلك الأديان التوحيدية احتكار الحقيقة وعدم التعددية، والعنصرية الدينية: ففي الإسلام: (إن الدين عند الله الإسلام) وفي المسيحية: (قال له يسوع أنا الطريق والحق والحياة، لا أحد يأتي إلى الآب إلا بي). ونجد تجسيم الله بشكل صريح في التوراة والقرآن، ونجد أن له رغبات وهوى وأطماع وغضب وغيرة الخ مما تتنزه عن العظمة المطلقة لله كما نجده عند الفلاسفة والصوفية والعارفين.. إذن الأديان الإبراهيمية لا تمثل مرحلة الكمال ونضج التفكير الديني كما يظن أصحابها. على العكس من ذلك نجد أن دين الحب والسلام، وهو مذهب وحدة الوجود والإتحاد بين الإنساني والإلهي، قد ظهر في ديانات ومذاهب قديمة، ظهرت في الشرق والغرب، ثم اختفت ولم يعد لها أثر، وظهرت كمذاهب إصلاحية داخل الأديان الإبراهيمية، ولكن لم تستمر ويكتب لها النجاح. يقول د. خزعل الماجدي: قد تظافرَت ثلاثة تيارات باطنية في العصر الهيلنستي؛ هي: «المُسارِّيَّة؛ أي ديانات الأسرار، والهِرْمِسية، والغُنُوصِية» في تكوين «التوحيد الباطني» الذي سرعان ما هذَّب التَّفريد اليهودي وجعله توحيدًا، ثم أنتج المسيحية الأولى، لكن المسيحية تحوَّلت من كنيسة غُنُوصِية إلى كنيسة «قَوِيمة»، وهكذا انتصر التيار الظاهري في التوحيد «اليهودي والمسيحي»، وعمد أقطابه إلى تدمير الغُنُوصِية، والانتقام من دُعاتها بحُجَّة الهرطقة والخروج عن المسيحية القَويمة. ظهرت وحدة الوجود في الإسلام على يد كبار الصوفية، لا سيما صوفية الأندلس، لكن حوربت بشكل مكثف ووصفت بالإلحاد والزندقة والخروج عن الملة، لا سيما من قبل ابن تيمية ومدرسته السلفية، حتى خاف الجهلة أن يقربوها، واختفت ولم يعد لها أثر إلا بين الصوفية، وأكثرهم يتبرأ منها اليوم. وظهرت في المسيحية من خلال بعض الاتجاهات اللاهوتية المسيحية التي تناولت مفهوم وحدة الوجود من خلال تفسيرات فلسفية أو لاهوتية متقدمة، مثل مذهب (الوحدة المسيحيةUnity School of Christianity ) أو كنيسة الوحدة Unity Church أسس هذا المذهب ميرتل فيللمور Myrtle Fillmore وزوجته " مريت " عام 1880م، وهو مذهب قديم حديث في المسيحية، لا يعترف بألوهية المسيح، ويقول بأن كل إنسان يمكن أن يكون مثل المسيح، لأن حقيقة الوجود حقيقة واحدة. ويقولون أن السيد المسيح قد أدرك وحدة الوجود هذه لذلك قال " أنا والآب واحد " وكل شخص مستنير يستطيع أن يقول عن نفسه أنه المسيح إبن الله. وعندما أجرى البروفسور مرقس باك Marcus Back إستيفاءًا للقراء عن هذا المذهب، وما أعجبهم فيه، جاءت الإجابات "الأمانة من جهة إيضاح الدين.. الشفاء الطبيعي.. الدين يمكن أن يُمارس ونعيشه كتعليم عملي، مدرسة أحد رائعة لأولادي، لا نسمع كلمة عن الخطية أو العقاب أو الدينونة، ولذلك فالدين من خلالهم مبهج، إله محب... نجاح وتقدم، لا خوف من الله، وضوح المعنى الحقيقي للمسيح". وكنيسة الوحدة لا تزال باقية إلى اليوم، مقرها الولايات المتحدة في ولاية ميزوري، ولهم أتباع في جميع أنحاء العالم يبلغون 15 مليوناً. إلا أن هذا المذهب اعتبر من مذاهب الهرطقة ولم يعترف به. وفي الديانة اليهودية يزعم المفكرون اليهود المعاصرون أن هناك تيار قديم يتمثل في موسى بن ميمون وعدد من الفلاسفة اليهود الآخرين رفضوا فكرة وجود إله مُشخّص. ويقدم باروخ سبينوزا وجهة نظر حول وحدة وجود الإله تقول بأن وجودالإله هو وجود كل شيء، ووجود كل شيء هو وجود الإله. وعلى هذا، ولا يمكن تصور جوهر الإله. وفق هذا التصور، يمكن للمرء أن يتحدث عن الإله والطبيعة بالتبادل. على الرغم من طرد المجتمع اليهودي في أمستردام لسبينوزا، إلا أن مفهوم سبينوزا عن الإله تبنّاه يهود لاحقون، وخاصة الصهاينة العلمانيين الإسرائيليين. وفقًا لمسح ديني أجراه مركز بيو للأبحاث سنة 2008م، فإن نسبة الأمريكيين الذين يُعرفون بأنهم يهوديو الديانة ويؤمنون بفكرة أن الإله "قوة غير مُشخّصة" ضعفي نظرائهم ممن يعتقدون بفكرة أن الإله "شخص هو "يهوة". ويبدو أن سبينوزا قد أحدث ثورة في الفكر اليهودي، لا زال لها صدى في واقع اليهود حتى الآن. ووفقاً لمردخاي كابلان مؤسس (اليهودية الإصلاحية)، فإن الإله ليس شخصًا، بل هو أكبر من ذلك: قوة داخل الكون تسمح للناس بتحقيق الذات، وهو القوة التي تؤدي إلى الخلاص، وليس مُجسّدًا ولا ملموسًا. وفق نموذج كابلان، فإن الإله موجود في الكون، وليس شيئًا خارقًا للطبيعة أو شيئًا من عالم آخر. يحب المرء هذا الإله من خلال البحث عن الحق والخير. ولكن صوت هذا الإتجاه صوت ضعيف داخل اليهودية، ولا يمثل الإتجاه الرسمي التقليدي. والمتتبع للكتب التي ألفت في المذاهب الباطنية المرفوضة من قبل الديانات الإبراهيمية، التي وصفت بالبدع والهرطقات، مثل كتاب (مقالات الإسلاميين) لأبي الحسن الأشعري، و(اعتقادات فرق المسلمين والمشركين) للفخر الرازي، وكتب "الملل والنحل"، مثل كتاب الشهرستاني وكتاب ابن حزم، وفي المسيحية، كتب مذاهب "الهرطقة"، مثل كتاب (الهرطقة في المسيحية) وكتاب (المذاهب الحديثة المنحرفة) حلمي القمص يعقوب، وكتاب (المذاهب المنحرفة) رأفت زكي. الذي يطل على تلك الكتب يرى أن تلك المذاهب التي رفضها الإتجاه الرسمي، تحتوي على أمهات المباديء الكبرى التي تمثل الحقيقة، مثل وحدة الوجود وعودة الأرواح للتجسد، المشهور بتناسخ الأرواح، والقول بعالم الأرواح وإنكار البعث الجسدي وعذاب جهنم الخ. ويجد أفكار إصلاحية مثل إنكار عقيدة التثليث، وإنكار ألوهية المسيح وأن الكل يمكن أن يكون مثل المسيح. إذن ظهرت محاولات سعي إلى الكمال البشري للنهوض بفكر الديانات التوحيدية، لكنها محاولات فردية، رفضتها تلك الديانات، ولم تتحاور معها، وهذا شيء طبيعي، لأنها إن فعلت فسوف تقضي على نفسها. يحتاج أهل الديانات التوحيدية إلى تبني الإتجاهات الصوفية الإصلاحية التي ظهرت فيها، لا سيما الإسلام، كيف لو تبنى المسلمون إسلام محي الدين بن عربي، التي تخلصهم من وطأة إسلام البادية المخيم عليهم حتى الآن؟ لقد وجدت كتاباً مترجماً عن الفرنسية في ابن عربي، ترجمه شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب بعنوان "الولايةُ وَ النبوة عند الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي". وهذا شيء رائع يجب أن تتبعه خطوات أكبر، تسير في هذا الإتجاه، ولكن لن تحدث نتيجة تذكر طالما أن الأكثرية تتبنى التيار الفقهي، الذي يحصر الدين في الفتاوى، وفكرة "حلال أم حرام" وفقط.
أصل الديانات الإبراهيمية إن الثقافة العامة تعزو الإنتقال من الوثنية إلى التوحيد، إلى ظاهرة الوحي، يظهر هذا الإعتقاد في مصطلح (الأديان السماوية). ويكفي في إبطال هذه الفكرة سؤال واحد: أين كان الله قبل الوحي إلى موسى (مثل نفس السؤال الغامض: أين الله بعد محمد)؟ منذ عشرات الآلاف من السنين قبل موسى، ألم يكن هناك وحي؟ بالتأكيد كان هناك وحي، ولكن ما هو تفسير عبادة الآلهة مع اتخاذ الأيقونات والتماثيل؟ الظاهر أن التماثيل كانت جائزة في تلك الشرائع، لا سيما وأن القرآن ذكرها في معرض مدحه لسليمان (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل). يؤكد السيد فراس السواح أن ظاهرة الوحي لم تكن قاصرة على الأديان التي تدعى توحيدية، فالديانة المانوية والديانة الزرادشتية، كانتا تنطلقان من ظاهرة الوحي كالأديان الإبراهيمية تماماً. لكن الذي يعنينا نحن مسلمون ومسيحيون، هو معرفة أصل الديانات الإبراهيمية، لا سيما الدين اليهودي المبكر، كي نتوصل منه إلى معرفة أصل الإسلام والمسيحية. وسوف أستعين في إتمام هذه المهمة بكتابين هما: كتاب (كشف الحلقة المفقودة بين أديان التعدد والتوحيد) للدكتور خزعل الماجدي. وكتاب (عبادة الأحجار عند الساميين) للأستاذ فراس السواح.
الإتجاه من التعدد إلى التوحيد في العصر الهيلنستي العصر الهيلنستي هو العصر الذي يبدأ بعد وفاة الإسكندر المقدوني عام ٣٢٣ق.م. وينتهي عام ٣٠ق.م. وميزة العصر الهيلنستي أنه كان حاضنة التوحيد الحقيقية، والرَّحِم الذي وُلِدَت منه هذه الأديان؛ فقد عملت ثلاثة تيارات دينية كبرى هي «المُسارِّيَّة، والهِرْمِسية، والغُنُوصِية» على ابتكار نوع من «التوحيد الباطني» الذي يُؤمِن بإله واحد، وتُقام له طقوس تشير إلى كونه الفادي أو المخلِّص، وقد قامت هذه التيارات التوحيدية الباطنية بنشر التوحيد في نُخَب، وجمعيات، وأخويات محدودة وسِرِّية، وسرعان ما كان تأثيرها كبيرًا؛ فقد وضعت نهاية تقريبية للأديان متعدِّدة الآلهة Polytheism (التي يسمونها بقليل من الدقة المشركة)، وقد هَذَّبت الدين اليهودي الذي كان دينًا تفريديًّا (أي يعبد إلهاً مُعيَّناً وجَعْله مركز الآلهة الأخرى) وليس توحيديًّا، وجعلَتْه يَتَّجِه نحو التوحيد بصورة أكبر وأوضح. كان الإله «يهوا» إله تفريدي (مركز لإلهة أخرى) خاص باليهود؛ فقد كان هذا الإله يُعبَد في مدين ثم في يهوذا على أنه إله طقس وهواء ضمن آلهة أخرى، لكن التطور التراجيدي لأقوام يهوذا وسبيهم في بابل، ثم ظهور أنبياء ما بعد السبي، وتَكتُّل أهل السبي جعَل من هذا الإله إلهًا قوميًّا خاصًّا باليهود، أما الصفات العالمية والكونية التي أضفاها اليهود على إلههم «يهوا» فكانت متأخِّرة.
دور الفلسفة اليونانية في الإتجاه للتوحيد كانت الفلسفة اليونانية الكلاسيكية قد أرْسَت نوعًا من التوحيد الفلسفي الذي كان مصدر التوحيد الغُنُوصي والتوحيد الهيلنستي بشكل عام والذي نَتج عنه، في نهاية الأمر، التوحيد الإلهي الظاهري الذي هذَّب اليهودية وصنع المسيحية وكان الإسلام آخر ثمراته. ويمكننا القول إن أفلاطون لعب أكبر الأدوار في تطوير الأديان القديمة وتهذيبها؛ فقد كان فيلسوفًا يميل إلى الجوهر الديني، ولعله كان المُحفِّز على التوحيد بصورة غير مباشرة؛ فقد كان له أكبر الأثر في إعادة هيكلة العقائد الدينية المتعدِّدة الآلهة باتجاه العقائد العِرفانية كالهِرْمِسية والغُنُوصِية بشكل خاص. نستطيع، بشيء من الحذر، أن نقول بأن أفلاطون كان موحِّدًا، ولكن توحيده كان مشوبًا ببعض أفكار التعدُّد. لكنه نزَّه الخالق الواحد تنزيهًا عظيمًا؛ فهو يرى أن الله، واحد، عاقِل، مُحرِّك، يُمثِّل الخير والجمال والحق بأقصى صورها كمالًا، وهو بسيط لا تَنوُّع فيه، كله في حاضر مستمر. يمكننا القول إن أفلاطون هو مؤسِّس التوحيد الفلسفي الذي كان له أكبر الأثر في نشوء التوحيد الغُنُوصي والذي أثَّر في أجيال الفلاسفة الهيلنستيين. وكان أفلوطين من أهم فلاسفة العصر الهيلنستي الموحدين، الين أثروا في الديانات التوحيدية. ورغم أن أفلوطين كان وثنيًّا فقد كان أثره كبيرًا على الديانة المسيحية؛ فقد أخذ عنه القديس أوغسطين، ووضع على ضوئه الأفلاطونية المسيحية. أما على الديانة المسيحية بذاتها فكان أكبر؛ حيث كان أساس ظهور عقيدة «الثالوث المقدَّس» حيث ظهرت الأقانيم الثلاثة «الأب والابن والرُّوح القُدُس» متكافئة مع أقانيم أفلوطين «الواحد والعاقل والنفس»، وجعل المسيحيون من هذه الأقانيم متكافئة في إله واحد. ثم إن فكرة اللوغوس أخذوها عنه وهي كلمة الله. وفي عصر النهضة تُرجِمَت رسائله إلى اللاتينية فشاعَت آراؤه ونراها في فلاسفة كُثر. وأثَّر أفلوطين على الفلسفة الإسلامية عندما نقل المسلمون بعض تاسوعاته عن السريان وصار عنوانها خطأً «أوثولوجيا أرسطو طاليس»، فتأثَّر بها الكِنْدي، والفارابي، وابن سينا، وإخوان الصفا.
دور الغنوصية والتيارات الباطنية في الإتجاه للتوحيد يقول د. خزعل الماجدي: ومن خلال قراءتنا الواسعة لثقافة العصر الهيلنستي لاحظْنَا أن هناك ثلاثة تيارات باطنية لعبت دورًا رئيسيًّا في الانتقال من الشِّرْك وعبادة الآلهة المتعدِّدة إلى التوحيد. وهذه التيارات هي: المُسارِّيَّة والهِرْمِسية والغُنُوصِية. أما المُسارِّيَّة أو (ديانات الأسرار)، فقد لعبَت دورًا مهمًّا هي الأخرى في تكوين الجانب الطقسي للتوحيد، وعملت على تجسيد فكرة القربان والذبيحة الإلهية. وكانت الغُنُوصِية رَحِم التوحيد النهائي في العصر الهيلنستي، وتُشكِّل الهِرْمِسية إحدى روافدها، وكانت المسيحية هي الوليد النموذجي لها. ونرى أنها هي التي أعادت صياغة اليهودية، وابتكرت المسيحية الأولى، وصنعت التوحيد بوضوح، وكانت هناك أديان غُنُوصِية؛ مثل «المندائية والمانوية والحرانية»، بل وتعدَّت هذا لتظهر في الفلسفة والعلم والأدب والفنون. وبذلك تكون الغُنُوصِية هي الرَّحم الذي ولد التوحيد ودفع به إلى العالم، لكنه - وكما يخبرنا التاريخ - كان يجب قتل الأم ورحمها الذي ولد التوحيد وسرقة الطفل (التوحيد) والقول بأنه نزَل من السماء. والتيارات الباطنية لها أصل سماوي، فـ(هرمس) مؤسس الديانة الهرمسية، ذَكَره سفر التكوين في التوراة باسم أخنوخ، وذَكَره الإنجيل بنفس الاسم، وذكره القرآن باسم «إدريس». وتُجْمِع المرويات على أنه أول مَن اخترع الكتابة، وأول مَن كَتب الصُّحف، وأول مَن خاط الثِّياب ولَبِسها، وفي صِفاته ما يَدلُّ على اهتمامه بالحكمة والكيمياء والفلك والتنجيم والطب … إلخ، وأنه أوَّل مَن حصل على الخلود وأول من صعد إلى السماء وغير ذلك كثير. تُنْسَب الهِرْمِسية إلى هِرْمِس «المُثلَّث العَظَمة»؛ لأنه كان «نبيًّا، وحكيمًا، وملكًا»، وربما كان لكل أمةٍ قديمةٍ هِرْمِسها، فهو عند المصريين الإله «تحوت أو طوط»، وهو عند السومريين «أنميدار أنَّا»، وعند الفُرس الإله أهورامزدا (هرمز)، وعند الإغريق الإله «هِرْمِس»، وعند اليهود «أخنوج»، وعند المسلمين «إدريس». الغُنُوصِية طريقة نَظَر وفَهْم خاصَّة للعالَم والمعرفة والدِّين. والغُنُوصِية كظاهرة تَمْتَد إلى أديان الشرق القديم، أما كجهاز معرفِيٍّ وكفلسفة ورؤيا متكامِلَة فهي من نتاج العصر الهيلنستي، وقد ظهرت قبْل المسيحية، وأثَّرَت على الأديان السماوية الكبرى «اليهودية والمسيحية والإسلام»، وكذلك على الفلسفات والعلوم. والعِرفان أو الغُنُوص هو عَدَم الإيمان بالعالَم الظاهر، وعَدَم المشارَكة في العالم المنظور، والإحساس بالغربة عنه، حيث يجد «العارف» نفسه غريبًا عن العالَم ككل، عن الكون الذي يجد نفسه داخله ومُطوَّقًا به، هو غريب عنه؛ لأنه يشعر بأنه ليس منه، بأنه يختلف عنه جوهرًا وطبيعة. نشأ العِرفان مِن رفْض العالَم المنظور، والتَّعلُّق بعالَمين غير منظورين؛ أحدهما باطني حيث الأسرار والخفايا، والثاني سماوي؛ حيث الإله الواحد الذي يجب اللحاق به والاتِّحاد معه. يقول د. خزعل الماجدي: ونرى أن العِرفان الذي ظهر في سومر في العقيدة الديموزية بلَغ ذروته وأخَذَ شَكْل الديانة والعقيدة العِرفانية في عَهد آخِر ملك بابلي وهو نبونائيد (٥٥٦–٥٣٩ق.م.)، ويُسمَّى أيضًا نبونيد أو نبوناهيت الذي ترك ديانة بابل الرسمية القديمة (ديانة مردوخ)، وحاول إرساء ديانة أخرى بديلة عنها. وقام نبونائيد بصياغة عقيدته الجديدة بعد تأمُّل طويل في عقائد سومر وبابل القديمة، وتوصَّل إلى أن الخلاص لا يتم إلا بتنقية النفوس والإيمان العميق بالروح الإلهي داخل الإنسان، وتَتَبُّع مسراه حتى العودة به إلى خالقه الأعلى، والابتعاد عن الطقوس الشَّكلية لجمهرات الآلهة المتعدِّدة. وربما اقتبس من عقائد عبادة أوزوريس المقابل لتموز، فأدخل العقاب، والثواب، والجنة، والنار، والحساب في ديانته. ونرى أن العقيدة اليهوذية تحَوَّلت إلى عقيدة يهودية بفعل تلاقُحها مع تعاليم نبونائيد العِرفانية إبَّان الأسْر البابلي لأهل يهوذا. أما نبونائيد نفسه، فقد قام بالتبشير بديانته خارَج وادي الرافدين فذهب إلى حرَّان «التي كانت معقل الهِرْمِسية»، ثم ذهب إلى سوريا الشمالية والجنوبية، ووصل إلى شِبه جزيرة سيناء في مصر، ثم تَوجَّه باتجاه جزيرة العرب نحو وَاحَة تيماء، وجعلها عاصمة دينية له. كانت تيماء قريبة من الحجاز وتَلقَّت دعوته، وأصبَحَت مع بلاد فلسطين مركزًا لنشر دعوته العِرفانية. انتشرت دعوته في جزيرة العرب عند ترحاله إلى مُدن يثرب، وخيبر، وددان، وتُخبِرنا الآثار عن وجود عِدة معابد أنشأها هناك. وعندما سَقطَت بابل على يد كورش الفارسي (٥٣٩ق.م.) أُسر نبونائيد ورُحِّل إلى بلاد فارس، لكنه استطاع أن يَفرَّ من الأسر ويعود إلى جزيرة العرب ليواصل دعوته هناك. ونَرَى أن الدعوة العِرفانية التي قام بها نبونائيد استمَرَّت بعد وفاته وظهَرَت في نَزعات ومذاهب التوحيد في جزيرة العرب، وفي العراق والشام. وستَكشِف الآثار والبحوث التاريخية عن أهمية هذا الرجل ودعوته ذات يوم. أصول الغنوصية العِرفانية (الغُنُوصِية) رؤية خاصَّة للعالَم مُبنِيَّة على أساس معرفي مُحْكَم، حيث ترى العِرفانية أن العِرفان الحق لا يتم من خلال العِلْم الظاهري أو الفلسفة حيث الاستدلال والمعاني المُجرَّدة، وإنما من خلال معرفة النفس لذاتها ولأصلها السماوي ولطريق تخلُّصها من المادة والجسد وطريق عودتها على الله والاتحاد معه؛ لأنها جزءٌ إلهي في الإنسان. إذَن هي معرفة النَّفْس لأصْلِها وخَلْقها ومَبدَئِها ومَعادها، وهذا النوع من المعرفة خاصٌ جدًّا لا يَعرِفه أو لا يَحصُل عليه إلا أولئك الذين اختارهم الله وهم صَفوة من الرُّوحانِيِّين الذين يَختلِفون عن النفسانيين أصحاب النفوس الفقيرة، والجِسمانيين أصحاب الشهوات الجسدية. ولا تحصل هذه المعرفة عَبْر تدَرُّج معرفي، وتَعلُّم مُتسلسِل، وإنما تحصل في النفس عن طريق الكشف والإلهام. ويكون مَطلب «العارف» هو توظيف الدِّين والمَعارف الدينية للدفع بالموقف العِرفاني إلى أقصى مَداه إلى طلَب الخلود، إلى الرجوع إلى موطنه الأصلي. ويرى بأن هذا السقوط، الذي أصابه، والذي يَتمثَّل في مُغادرته عالَم الخلود والارتماء في هذا العالَم المملوء شرًّا، لا بُدَّ أن يكون نتيجة لذنبٍ، نتيجة لخطيئة (يشرح برمهنسا يوغانندا – وهو معلم روحي كبير – سبب تناسخ الأرواح والعودة إلى التجسد، فيقول أن السبب هو رغبات دفينة في الروح لم تتحقق أثناء التجسد، تظل عالقة داخل الروح، فتعود الروح للتجسد مرة أخرى لتنال تلك الرغبات، ولا تتوقف معاناة التجسد إلا بعد التخلص من الرغبات كلها، إما بتحقيقها أو بالحكمة)؛ ولذلك لا بُدَّ من العمل من أجْل الخلاص. وهكذا يَزداد شوقًا وحَنينًا إلى العودة إلى حاله الأصلية. إنه يتصور «البعث والنشور» على أنه رجوع إلى حال سابقة سامية، حال من الحرية الكاملة، حال ينزع فيها عنه ثيابه وكل ما يَشدُّه إلى هذا العالَم ليعود إلى الحال الحرة الفرحة التي كان عليها قبل ميلاده. عامَّة الناس من المادِّيين والنَّفسانيين يأخُذون المعرفة من العلوم الظاهرة كالفلسفة والعلم التجريبي، أما خاصَّة الناس من الرُّوحانيين الغُنُوصيين فيأخذون بالعِلْم العِرفاني الذي هو العِلْم الباطني. والعِلْم الظاهر هو الأخذ بالأشياء والظواهر والنصوص كما هي، ويتم تَلقِّي هذا العِلْم بالخطوات التعليمية التدريجية. أما العِلْم الباطن فهو الغَوْص في أعماق الأشياء والظواهر والنصوص وكشْف أسرارها الحقيقية «لا معانيها الظاهرة»، ويتم تَلقِّي هذا العِلْم بالكشف والإشراق المفاجئ في الألباب والقلوب … وسِرُّ هذا الكشف سببه أن النَّفس أو الروح الغُنُوصِية أو الباطنية الطابع تَتلقَّف بسرعة وبنوعٍ من الومض أسرار المَعرفة الإلهية - بشكل خاص - لأنها مصنوعة من مادة روحية خفيفة مرتَبِطة بالله، أو بالعقل الأول. وهذه النفوس في تَشوُّق متبادَل مع الله، هي تريده وتريد معرفته وهو يريدها ويريد جَذْبَها؛ ولذلك تختفي الحواجز بينهما، ويمكن تفسير فكرة الوحي على هذا الأساس، فالنُّفوس الشَّفافة الإلهية الطابع هي القادرة على تَلقِّي الوحي بدرجة أعلى بكثير من النفوس المادَّية الظلامية الطابع المُكبَّلة بِلذَّاتها وماديتها. شفافية النفوس الخاصة هي التي تَصِلها بالله مباشرة، وأحيانًا عن طريق الوحي - عند الأنبياء مثلًا - أما أصحاب النفوس المُظلِمة الهابطة في المادَّة فلا تتطلع إلى الله، بل تَعرِفه معرفة العابر وتَسحبُها دُونِيَّتها إلى المادة، والمَلذَّات، والشر، والشيطان، والعالَم الأسفل. تؤكد الغُنُوصِية على ما يلي: (١)تتم المعرفة على شَكْل إلهام وكَشْف وليس عن طريق التَّعلُّم والتحليل؛ مثل: الفلسفة والعِلم، فهي تتم من خلال الرؤية المباشرة للحقيقة. (٢)نوع هذه المعرفة هي معرفة إلهية وضَعَها الله في القلب الطاهر، أو يصل إليها المؤمن بالتَّنزُّه عن المادة والشر. (٣)هناك أسرارٌ خفية لا يعرفها إلا العِرفانيون (الغُنُوصيون) هي التي تُنير لصاحبها طريق الخلاص وتُمكِّنه من التغلب على القوى الشريرة. (٤)أهم عمل غُنُوصي هو تحرير (تخليص) النَّفْس أو الرُّوح الإنسانية من أسْر الجسد الدنيوي، ويتم ذلك بتذكيرها بأصْلِها الإلهي. فاذا عرَفَت ذاتها عرَفَت خالقها «الله»؛ لأنها جزءٌ منه، وبذلك تَعرِف الروح ما يلي: «من أين جاء الإنسان، كيف أصبح إنسانًا، أين كانت روحه قبل أن يُخلق، أين وُضع بعد خلقه، أين نحنُ ذاهبون، كيف نذهب في الطريق الصحيح، كيف ستنبعث الأرواح … إلخ». هذه الأسئلة تكتشفها الروح لوحدها عندما تدرك ذاتها، وقد يقوم الوسيط السماوي بإيصال هذه المعرفة لمن يمتلك روحًا طاهرة عارفة. (٥)يُسمَّى هذا الوسيط السماوي ﺑ «المُخلِّص»، ويُعتَبر الجسد البشري بمثابة العالَم الأسفل فيهبط «المخلص» إليه ليُعرِّف الروح بأجوبة هذه الأسئلة (العِرفان) لكي يُسهِّل لها طريق الصعود إلى العالم السماوي وهو «الخلاص». وقد يكون الخلاص قبل الموت عن طريق النشوة العِرفانية؛ حيث ينكشف النور الإلهي ويلتحم به العارف، أو بعد الموت حيث تصعد الروح «مع المُخلِّص» إلى السماء وتلتحم بالله إلى الأبد. (٦)لا يصل كل إنسان إلى الخلاص، ويساعده المُخلِّص، بل الذي طبَّق الجانب العملي من العِرفان والذي يكون بأداء مجموعة من الطقوس والشعائر؛ مثل: التعميد أو التسلُّح بالأسماء السرية (حفظ هذه الأسماء)، وأداء الصدقات وغيرها. (٧)العِرفان هو معرفة الباطن، أما العلم فهو معرفة الظاهر، ومعرفة الباطن هو مَعرفة الأسرار التي صار السِّحر والتنجيم والعرافة والكيمياء أساسَها، في حين أن الباطن هو الأسرار الإلهية الخفية. أما العلم فهو معرفة الظواهر العيانية وإدراك أسبابها ونتائجها وهو مُتاح للجميع. (٨)يَطغَى على الأدبيات العِرفانية الأسلوب الأسطوري الفلسفي؛ حيث تَتحوَّل أساطير الخلاص القديمة إلى لغة فلسفية تعم فيها المفاهيم الذِّهنية؛ مثل: وجود الإله المتعالي، والمادة، وبينهما الإله الصانع أو الوسيط، وأسطورة مصدر الشَّر التي تُرجِع الشَّر إلى الكائن السماوي الذي ارتكب الخطيئة الأولى التي تضطره للاتحاد مع المادة فتولد الكائنات المكبَّلة بالشر (المادة)، ويُصار إلى تخليصها من هذا الخطأ.
اليهودية من ديانة مُشْرِكة إلى ديانة تفريدية ثم توحيدية (١)اليهودية التي ظهرت في بابل أولًا نشأت الديانة اليهودية في بابل بعد الأسر البابلي ليهوذا وأورشليم، وقد كان شعب يهوذا وأورشليم كنعانيًّا وديانته «اليهوذية» ديانة كنعانية بكل ما في هذه الكلمة من دلالة، فَهُم يَتعبَّدون أودناي ويهوا والبعل وإيل وعشيرا وغيرهم من الآلهة الذين لهم زوجات وأزواج وأولاد. في السَّبْي البابلي، وعندما وُضع هذا الشعب في مدينة «نيبور» وهي «نفر» الحالية قرب مدينة عفك، وتبعد ٢٥ كم شمال شرق الديوانية في العراق وسُمح لهم باصطحاب عوائلهم وممتلكاتهم ومواشيهم؛ تَعلَّموا هناك الحِرَف والصناعة والكتابة والحكمة، واطَّلعوا على التراث الرافديني الديني والأدبي وأخذوا منه. بتأثير وإيحاء من فكرة الإمبراطورية البابلية، التي بدَءُوا يعيشونها كحقيقة على الأرض، واندماج الأمم والشعوب فيها، وبسبب مِن فقدانهم الأرض الخاصة بهم، والعَيش كمواطنين عالميين في إمبراطورية كهذه قَرَّروا رفْعَ الإله القومي لهم لمنزلة تفريدية وتوحيدية، وجَعْلَه إلهَ العالَم، ولكنه - في الوقت نفسه - إلههم القومي وهم شعبه المختار. وبسبب من عدم وجود معابد لآلهتهم وإلههم الخاص «يهوا»؛ فقد قَرَّروا جَعْلَه في السماء إلى الأبد فهو مكانه السرمدي ومعبده هناك، وهو ما حَفَّز ظهور فكرة «الإله السماوي» بقوة أكبر، خصوصًا أن معبده لم يَعُد له وجود ولا يمكن إقامته في أرض بابل وهم أسرى. وبعد سقوط بابل بيد الفُرس (٥٣٩ق.م.) استطاع النابهون منهم (مثل عزرا الكاتب) أن يكتب أول أسفار التوراة وهو سِفر الشريعة من أجل تنظيم أحوالهم وحياتهم. في بابل ونَفَّر تحوَّل مَسبيُّو يهوذا إلى ما عُرف بعدئذٍ ﺑ «يهود» حيث كان اليهود يُطلِقون على ديانتهم اسم «توراة» قبل العصر الهيلنستي وحتى قام يوسفيوس فلافيوس بإطلاق مصطلح «يهودية» و«يهود» على الديانة. وظهَر أكبر أنبيائهم؛ وهم: حِزْقِيال، ودَانيال، وعِزْرا، وناحُوم، ونَحْمِيا، وحَجَّي، وزكريا، وحَبَقوق، وكتبوا أسفار التوراة الخمسة الأولى مُتأثِّرين بالدين البابلي، وظهر ملوك لهم في بابل؛ مثل: يهوياقين، صدقيا، زروبابل. وفي بابل كَتبوا التلمود (متأثرين بلوح سومري لأقدم تقويم زراعي عُثِر عليه في نفَّر، ومكوَّن من ١٠٨ أَسْطُر). الدين اليهودي دين بابلي أعاد صياغة مواد أولية كنعانية. وقد ظلَّت هذه الديانة محكومة بالتَّعدُّد الإلهي أولًا ثم بالتَّفريد الذي جعل من أدوناي أو يهوا إلهًا مركزيًّا مع غيره من الآلهة. يهودية ما قبل الهيكل، لم تكن مفاهيمها أو عقائدها الدينية قد تبلورت بعدُ، بل كانت هذه المفاهيم تحتوي على أفكار ثنوية وتعددية كثيرة. أثَّرَت الديانة الزَّرادُشْتية التي هيمن أصحابها سياسيًّا على الشرق الأدنى القديم لحوالي قرنين ونصف، وتَسرَّبت منها إلى الديانة اليهودية عناصر كثيرة، فقد أصبح يهوا مع زوجته عشيرا أساس التَّفريد. وهذا يشبه ما هو حاصِل في الديانة الزَّرادُشْتية حيث أهورامزدا وأناهيت وانتقلت عناصر كثيرة أخرى من الزَّرادُشْتية لليهودية، وكُتِبَت أسفار جديدة من التوراة والتَّنَاخ. بعد سيطرة الإسكندر المقدوني على الشرق الأدنى وبدء العصر الهيلنستي بعد موته، طرأت تغييرات جديدة على اليهودية؛ فقد دخَلَت العناصر الهيلنستية وأعادت صياغة اليهودية وجعَلَت منها دينًا توحيديًّا بتأثير مباشر من التيارات الباطنية التي انتعشَت في هذه الفترة، وبالفلسفة الهيلنستية وبالتسامح والرعاية لهذه الديانة من قِبَل الكثير من الملوك الهيلنستيين. (٢)يهوا مِنَ الشِّرْك إلى التَّفريد إلى التوحيد لم يَعُد جديدًا القول إن الإله يهوا إله قديم ظهَر قبل اليهود وقبل مُقاطَعة يهوذا التي عَبَدته؛ حيث يظهر كأحد أسماء إنليل الإله السومري على شكل حمامة، وهو إله كنعاني عُبِد مِن قِبَل بعض القبائل الكنعانية. وقد كان ليهوا عند اليهود الأوائل وعند الذين سبقوهم زوجة وأبناء، وهو مُحاط بحاشية من الآلهة الأخرى، وهو أمْر مألوف في الديانات المتعدِّدة الآلهة. منذ الأسر البابلي أصبح الإله «يهوا» بلا معبد خاص به؛ ولذلك قرَّر أسرى يهوذا أن يجعلوا السماء مقرًّا أبديًّا له، وهكذا بدأت فكرة الديانة السماوية. لم يَعُد «يهوا» ساكنًا في هيكل أو معبد، بل هو ساكن في السماء ومن هناك كان ينظر إلى شعبه «الخاص». وهذه الخطوة أفْرَدَته وجعَلَته سماويًّا، لكن عادات الشرك والتَّعدُّد ظلَّت سارية. إن وجود اليهود في نسيج إمبراطوريات متتالية (البابلية، الأخمينية، المقدونية، البطلمية)؛ جعَلَهم يتأثرون بفكرة الإمبراطور الواحد للعالَم، ويُعزِّزون بها فكرة الإله الواحد للعالم. وهكذا تَشذَّب يهوا شيئًا فشيئًا مِنَ الشِّرك والتَّفريد باتجاه التوحيد. وكذلك الفلسفة الهيلنية والهيلنستية كانت تَتحدَّث عن إله واحد خالِق للعالَم وهو ما أثَّر في كل ديانات المنطقة التي وقعَت تحت تأثيرها ومنهم اليهود. (٣)الثنوية اليهودية Jewish dualism عندما أصبح اليهود تحت الحكم الفارسي الأخميني بدأت العقائد والأديان الفارسية بالتَّسرُّب إلى الدين اليهودي، وهو ليس مجال بحثنا الآن لكن الثنوية (Dualism) التي هي مبدأ أصيل في الأديان الفارسية وخصوصًا في الزَّرادُشْتية انعكس بوضوح على اليهودية وأصبح جزءًا من عقائدها الباطنية التي تَفجَّرت بقوة في العصر الهيلنستي. والثنوية ترى أن الوجود يتكون من بِنيتين رئيسيتين هما: «الخير والشر»، و«النور والظلام»، و«الإله والشيطان»، وهما لا يلتقيان ولا يتصارعان من وجهة نظر اليهود، بل ربما يكملان بعضهما، فهما متوازيان «في الزَّرادُشْتية متصارعان وينتصر الخير في النهاية». وقد ظهرت نتائج هذه الفكرة في كُتب يهودية؛ مثل: «الكابالا» و«التلمود» حين ظهرت أفكار عن «يهوا وعزازيل» «الإله والشيطان». وفي كتاب (محادثات مع الله) نفي لوجود الشيطان، وتقرير بأنه من صنع خيال الإنسان. (٤)التوحيد الغُنُوصي المندائي لعل العامل الأهم الذي ساهَم في تنقية التوحيد اليهودي هو «التوحيد الغُنُوصي» الذي أتت به التيارات الباطنية للشرق في وهلة انتعاشها إبَّان العصر الهيلنستي وما قبله بقليل. كانت المندائية وهي ديانة غُنُوصِية في جنوب العراق ذات أثَر كبير في نَشْر التوحيد وجعْله مذهبًا وتوجُّهًا أساسيًّا في أديان المنطقة. واستطاعت المندائية باحتكاكها السلبي والإيجابي مع اليهود أن تُؤثِّر في نزعتهم التوحيدية وتجعلها أكثر نقاءً. ورغم أن الجهاز العِرفاني للمندائية كثير الثراء والتركيب، لكنه يُوفِّر نوعًا من الفهم العميق للتوحيد في معناه النفسي والروحي والكوني. هكذا يمكننا أن نقول إن التوحيد العميق هو توحيد غُنُوصي عِرفاني كانت المندائية قد بَنتَه عَبْر جهاز اصطلاحي منحوت من الديانات الرافدينية والزَّرادُشْتية، أما التوحيد الظاهري الذي هو شأن «اليهودية ثم المسيحية والإسلام»؛ فهو توحيد تبسيطي قائم على حذف أغلب عناصر التوحيد الباطني (العميق) واستبدال العِرفان بالوحي. هذا هو ما حصل بالضبط وهو أن تقوم الأديان التوحيدية الظاهرية وأولها اليهودية بسرقة فكرة التوحيد الغُنُوصي الأولى وتسطيحها، وحذف عمقها الروحي والفلسفي، والاكتفاء بما يقتنع به عامة الناس من علاقة بالخالق الواحد عن طريق الوحي والأنبياء «حيث لا وحي ولا أنبياء في الغُنُوصِية». أُعِيدَت صياغة الدين اليهودي غُنُوصيًّا مع حذْف العناصر الغُنُوصِية الأساسية، وتَبنِّي صيغة التوحيد الشكلانية، وأفكار الخير والشر، والنور والظلام وغيرها. (5)الترجمة السبعونية للكتاب اليهودي المقدس التَّنَاخ (العهد القديم) Septuagint كان اليهود يُشكِّلون خُمس سكان الإسكندرية في حدود ٢٠٠ق.م. ورغم أنهم نَسُوا لغتهم الآرامية والعِبْرية وأصبحوا يتكلمون لهجة خاصة هجينة يونانية «مكونة من اليونانية واليهودية والمصرية». اقترح ديمتيروس الفاليري على بطليموس الثاني أن يترجم كتاب اليهود المُقدَّس من اللغتين الآرامية والعِبْرية إلى اللغة اليونانية لكي يدمج اليهود في المجتمع الهيلنستي الجديد، وسَتساعد الإغريق على فَهْم هؤلاء اليهود وتُراثهم الروحي. فاستجاب بطليموس لطلبه وأمر بترجمتها. والحقيقة أن هذا الحدَث هو حدثٌ فاصِل في تاريخ الديانة اليهودية، ونحن نعتبره الحدث التأسيسي الثاني لليهودية بَعْد الحدث التأسيسي الأول الذي هو كتابة عزرا لأسفارهم. تنطوي أهمية الترجمة السبعينية - من وجهة نظرنا - على أن اليهود لم يكونوا قبل ذلك الوقت يمتلكون كتابًا واحدًا شاملًا مقدَّسًا لهم، بل كانت مجموعة أسفار «لا نعرف عددها وطبيعتها»، وهي مخطوطات جِلْدية أو ورقية أو معدنية متفرِّقة ونُسَخ وخطوط ومضامين مختلفة ومتباينة، بعضٌ منها في بابل، وبعضها في إيران، وبعضها في فلسطين، وبعضها في مصر. وقد كان عمل بطليموس الثاني - دون دراية منه - هو توحيد وبناء الكتاب المقدَّس لليهود في لغة يونانية هيلنستية «مصرية فلسطينية»، وكان أن بقي هذا الكتاب واندثرت الأسفار المُتفرِّقة التي قبله والتي لم تؤلِّف كتابًا واحدًا ذات يوم. في هذه اللحظة التاريخية الهيلنستية وُلِد الكتاب المقدَّس لليهود الذي هو التوراة، وهي جزء من الكتاب الذي نسميه «تَنَاخ» وهي كلمة اختزالية تدل على الأجزاء الثلاثة للكتاب وهي «ت: توراة، ن: نفيئيم؛ أي الأنبياء الأوائل، أخ: أخرونيم وهم الأنبياء المتأخِّرون». أما مصطلح «العهد القديم» فهو تسمية مسيحية لكتاب اﻟ «تَنَاخ». والحقيقة هي أن الإغريق البطالمة هم الذين صنعوا هذه اللحظة التاريخية التأسيسية، وكانت بمثابة عولمة لليهودية أو جعلها ديانة عالمية وإخراجها من قُمْقُمها الضَّيِّق الذي وُلِدت فيه، فهي الحادثة التي رَفعَت الديانة اليهودية إلى ديانة عالمية مؤثِّرة في العالَم الذي كان أغلبُه هيلنستيًّا آنذاك. لكن السؤال الهامَّ هو: هل توقَّف اليهود عن كتابة أسفار جديدة سواء كانت مُشتقَّة من مادة التَّنَاخ أو من خارجها؟ والجواب نجده في الكم الهائل من الكتب والأسفار اليهودية التي سميناها خارجية (أي خارج التَّنَاخ)؛ وهي: «الأبوكريفية، والمنسوبة، ومخطوطات البحر الميت، والضائعة» والتي تشهد على الأثر الهيلنستي الباطني البليغ الذي ظهَر في اليهودية وجعَلَها تبدو وكأنها ديانة ظهرت في هذا العصر. الأسفار اليهودية غير القانونية (أبوكريفا Apocrypha) أبوكريفا كلمة يونانية قديمة تعني حرفيًّا «الأشياء التي أُخفِيَت» أو «المَخفِيَّات» واستُعمِلَت اصطلاحيًّا لتشير إلى: النصوص الدينية غير المُعترَف بها رسميًّا من المؤسَّسة الدينية، وقد أخذت هذه الكلمة طابعًا سلبيًّا عندما أصبحت تُشير إلى النصوص المُحرَّفة والمنبوذة. وأصبحَت المسيحية - بشكل خاص - تشير بهذا المصطلح إلى النصوص التي لم تُقرَّها المجامع الكنسية الرسمية. ويمكن أن نسميها ﺑ «غير القانونية»، وهناك - حول الكتاب المقدَّس بجزأيه القديم والحديث (اليهودي والمسيحي) - الكثير من نصوص وكُتُب وأسفار الأبوكريفا. أبو كريفا (الكُتُب الخارجية، الكُتُب الخفية، الكُتُب غير القانونية) اليهودية كانت كُتبًا باطنية حَملَت المؤثِّرات المُسارِّيَّة والهِرْمِسية والغُنُوصِية التي صَنَعتْ يهودية العصر الهيلنستي. وقد كُتِب معظم هذه الكتب بين ٢٠٠ق.م.–١٠٠م، وبعده بقليل، وتقع هذه الفترة ضمن العصر الهيلنستي «الإغريقي والروماني». وكان حاخامات اليهود قد أوصَوا بعدم إطلاع العامة على كتاب واحد، أما البقية فقد استُبعِدَت لأسباب أخرى ربما يتعلق بمستواها أو موضوعها. الأثر الهِرْمِسي الآخَر هو الكتاب الشفوي اليهودي «الهاجادة» الذي هو التفسير الباطني للتوراة وفيه قصص وتأويلات رمزية لقصص التوراة. نشأت الهاجادة في بداية العصر الهيلنستي تقريبًا، ونَضجَت بين ١٠٠–١٥٠م، وكانت مُستمدَّة من الآثار الهِرْمِسية، والرمزية، والهيلينية، وتفسيرات فيلون ويوسفيوس وغيرهم. والحقيقة أن الهاجادة هي مصدر الروايات الخاصة برموز وقصص التوراة التي انتشرَت في منطقة الشرق الأدنى وجزيرة العرب، وكانت مادةً من المواد التفسيرية التي دخلت في الثقافة الإسلامية منذ بواكيرها الأولى. كتاب «أساطير اليهود» لمؤلفه «لويس جينزبرغ» الذي صدر بترجمة حمدي حسن السماحي بأربعة مجلدات؛ يذكر الكثير من الجوانب الهِرْمِسية في اليهودية أثناء العصر الهيلنستي والتي أثَّرت في إعادة تشكيلها. (6) الفلسفة التوفيقية لفيلون فيلون هو فيلسوف دين، ولعلَّه أول فيلسوف للدين اليهودي حاوَل رفْع الدين اليهودي إلى مرتبة فلسفية دون أن ينتقص أو ينقد دينه، لكنه ارتفع بهذه الفلسفة إلى مستوى الفلسفة الدينية المَحضة. وباختصار فإنَّه حاوَل أن يُثبِت أن الدِّين والفلسفة يقودان معًا إلى معرفة الله، فالله هو مصدرهما معًا. استخدم فيلون منهج التأويل الرمزي (Allegorical Method) في شرح التوراة، وقد استعار هذا المنهج من الفلاسفة الإغريق الفِيثاغُوريِّين والأفلاطونِيِّين والرِّواقِيِّين الذين كانوا يشرحون به الأساطير الإغريقية والعبادات المُسارِّيَّة (ديانات الأسرار). والحقيقة أن هذا المنهج يقترب من المنهج الذي اتبعه الهَرامِسة والغُنُوصيون في توضيح وشرح «أساطيرهم» الخاصة بهم. كان فيلون يرى أن عقائد الشعوب الشرقية القديمة كالإغريق ومصر خاطئة، ولكنه «في الوقت نفسه» كان يستعملها، ويستفيد منها في منهجه. لا شك أن فيلون ساهَم بوضع أُسس فلسفية زادَ بها الدين اليهودي توحيديةً، وحاوَل تخليصه من التَّفريد القديم الذي كان يعج به، لكنه سَقَط في الهياكل الغُنُوصِية والأفلاطونية والهِرْمِسية عندما جَعَل هناك وسطاء بين الله والعالَم. فبدلًا من «التَّفريد» أصبحنَا أمام مشكلة «التوسيط» التي ستبقى آثارها في الديانة المسيحية أيضًا بصيغة الأقنوم. ورغم المقاوَمة الظاهرية التي أبداها الدين اليهودي بوجه الغُنُوصِية، لكن فاعلية الغُنُوصِية كانت تظهر بوضوح هنا وهناك على الدِّين اليهودي، سواء في بداية العصر الهيلنستي حيث ظَهرَت بعض الفرق الصغيرة، أو في منتصف العصر الهيلنستي؛ حيث ظهرت كُتُب الأبوكريفا اليهودية التي تَحمِل طابعًا غُنُوصيًّا، أو في نهاية العصر الهيلنستي حيث ظهرت «الكبالا» كخاتمة كبيرة ومُؤثِّرة للغنوص اليهودي. العاصفة الغُنُوصِية التي اجتاحت العصر الهيلنستي نَتَج عنها بشكل مباشر وواضح الدِّين المسيحي، لكن هذا الدِّين ما كان ليظهر لولا مُؤثِّرات الغُنُوصِية على الدِّين اليهودي.
الثقافة الهيلنستية وولادة المسيحية من رحمها إذا كانت اليهودية قد تأسَّستْ قبل العصر الهيلنستي، ثم ساهَم هذا العصر بإعادة صياغتها فإن المسيحية ولدت (تمامًا) من رحم العصر الهيلنستي بكل عناصرها تقريبًا. الهيلنستية (والغُنُوصِية تحديدًا) هي مصدر المسيحية، فضلًا عن المؤثرات الهيلنستية الأخرى؛ كالباطنية (الهِرْمِسية والغُنُوصِية والمُسارِّيَّة)، وما نَتَج من تحولات جديدة في أديان الشرق الأدنى، والدِّين الإغريقي، والفكر الفلسفي الهيلنستي. الغُنُوصِية كانت ترى أن الخَلاص يتم عن طريق فعالية روحانية فردية يقوم بها الغُنُوصي عن طريق التَّطهُّر والتأمل تقوده إلى معرفة الروح أو النفس التي فيه، وكونها جزءًا من روح الكون والله، وهو ما يُؤدِّي إلى إمكانية تحريرها من الجسد عن طريق تَجنُّب نزواته أو الاتصال بالله عن طريق لحظة صوفية نادرة تُعرِّف الإنسان بحقيقته. وهذا ما يُسمَّى بالكشف أو المعرفة الذَّوقية. وقد اقتَرحَت الغُنُوصِية المسيحية التي كانت هي مؤسِّسة الدِّين المسيحي «وليست فرقة هرطوقية كافرة كما يصفها آباء الكنيسة»، اقترحت أن الله السَّامي المتعالي «الرب» أرسل «الابن» الذي هو «المسيح» والذي لا علاقة له مطلقًا ﺑ «ماشيح» اليهود، أرسله ليخلص نفوس الناس من سجنها الجسدي ويعود بها إلى الرب؛ لأنها جزء منه. الخلاص اليهودي كان عكس ذلك تمامًا؛ فقد كان عن طريق الالتزام بالشريعة اليهودية، وأداء الطقوس، في حين أن الخلاص المسيحي أصبح، في النهاية، الإيمان بيسوع المسيح كمُخلِّصٍ وفَادٍ للبشرية، وبعودته في نهاية الزمان. الغُنُوصِية صارت تَرَى في إله اليهود «يهوا» مُعبِّرًا عن كل الآلهة القديمة، وهي وهو رمز للشر والشيطان، وما سماه أفلاطون ثم الغُنُوصِية باﻟ «ديميورج»، وهكذا نادت بإله واحد مُتعالٍ لا يمكن معرفة صِفاته، وهو إله الفلاسفة (أفلاطون وأرسطو) الذي يعيش في عالَم من النور بعيدًا عن السماء والأرض، وعندما ادَّعَى المسيحيون لاحقًا بأن إلههم هو ليس يهوا، بل إيل؛ وصفهم الغُنُوصيون بأنهم استبدلوا الاسم فقط، وأن هذا الإله هو إله شرير أيضًا، فَهُما (يهوا وإيل) إلهان صانعان خَلقَا العالَم المادي الشرير، وهما إلهان خاطئان خرَجَا على إرادة «الإله الأسمى» الذي يَسكُن إلى الأبد في عالَم النور. فالعالَم الذي نحن فيه هو عالَم شر مادي ظهر نتيجة خطأ وعملية سقوط من عالَم الألوهية الحقيقي «في عالَم النور» تشبه سقوط الشيطان أو إبليس، وقد أدَّى ذلك إلى تكوين عالَم أرضي وبشري خاطئ تورَّطَت فيه الروح أو النَّفس الخيِّرة بالسجن داخل براثن المادة والجسد، وعليها الخلاص منه والعودة إلى عالَم النور لِتدَع هذا العالَم يفنى. فالغُنُوصِية ترى أن كل عملية الخلق خاطئة وستزول يومًا ما، وأن البقاء الحقيقي هو لعالَم النور الأعلى والأسمى من أي اسم أو تجسيد. لكن ينفي كتاب (محادثات مع الله)، ومذهب تناسخ الأرواح وعودتها للتجسد، ومحاورات الوسطاء الروحيين مع الملائكة والأرواح العليا، أي زوال لهذا العالم، ويقولون أن الله لن يدمر الأرض، إلا إذا دمرها الإنسان المعاصر بأسلحة الدمار الشامل. وصحح الإسلام فكرة إله الشر المادي الصانع، المختلف عن الإله المتعالي الروحي، وقال القرآن (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد) وفهم الصوفية المسلمون من القرآن أن الله إله واحد ذو قسمين من الصفات: صفات جلال وصفات جمال (تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام). وهكذا تكون بدايات المسيحية قد بدأت بالكنيسة الغُنُوصِية التي أسَّسها سايمون الساحر، ثم ظهرت كنيسة الخِتَان التي أسسها يعقوب ابن يوسف النجار المُلقَّب ﺑ «يعقوب أخي الرب» الذي رأى أن أخاه غير الشقيق «يسوع» هو «الماشيح» اليهودي الذي من نَسْل داود، وكانت كنيسته تُقيم الخِتَان، وترى في المسيح نبيًّا يهوديًّا جاء لتخليص اليهود والعالَم من الخطيئة، ونُسمِّيها «كنيسة الختان»، وسميت فرقته فيما بعد ﺑ «النصارى». أما «كنيسة الأمم» فقد نشأت لاحقًا عندما تَحوَّل بولس عن ديانته اليهودية إلى المسيحية، ولكنه قَرَّر أن لا يجعلها غُنُوصِية خالِصة (رغم وجود الكثير من الأفكار الغُنُوصِية في رسائله ومسيحيته)، بل أن يضيف لها عناصر ظاهرية معروفة، رغم أنه أبقى على فكرة نَسْخ شريعة اليهود وعدم الأَخْذ بها، لكن القديس بطرس هو مَن أسَّس فعليًّا كنيسة الأمم وخلَّصها من الغُنُوصِية، ومن التَّضاد مع اليهود وكِتَاب العهد القديم. الفِرَق الغُنُوصِية المسيحية الأولى التي أسَّست المسيحية والتي يُصنِّفها الآباء المسيحيون كفِرَق هرطوقية
(١)المسيح كشخصية غُنُوصِية هناك الكثير مِمَّا يشير إلى أن السيد المسيح كان شخصية غُنُوصِية، فربما كان قد انتمى إلى حَلقة من حلقات الأسينيين التي اعتزَلَت في كهوف البحر الميت (قمران)، وكان مُعلِّمه الأول هو يوحنا المعمدان. وهذا ما يُؤكِّده اعتراف الأسينيين به كَنبِي من أنبياء إسرائيل يُصحِّح مسيرة اليهود. هناك في إنجيل يوحنا، بشكل خاص، ما يشير إلى الشخصية الغُنُوصِية للسيد المسيح. إن تأكيد إنجيل يوحنا على الكلمة (وهي مصطلح غُنُوصي)، يأتي في هذا السياق وكذلك الأصل السماوي للمسيح «أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق.» وأنه ليس من هذا العالم، وأن مَن يريد معرفة الله «الأب» فسيجده في نفسه. كل هذه التلميحات ثقافة غُنُوصِية كاملة. ولذلك نرى أن الأصل الغُنُوصي لإنجيل يُوحنَّا هو أساس نشوء المسيحية وأن التعديل اللاحق الذي هذَّبه وهذَّب الأناجيل الإزائية الثلاثة هو أساس نشوء الكنيسة الرسمية. وفي هذا يقول ألبير بانييه، الباحث في سوسيولوجيا العهد الجديد: إن إنجيل يوحنا في شكْله الأول يسير على النهج الذي عرفناه في مؤلَّفات الغُنُوصي مَرقِيُون. وبعد إدانة مَرقِيُون وحرمانه من الكنيسة؛ أي بعد عام ١٤٤م، خضع الإنجيل لتنقيحات مُهمَّة غرضُها إسباغ حُلَّة قويمة عليه. ومِثلما جاء في هذه الإصحاحات: (١)أنتم لا تعرفونني ولا تعرفون أبي، ولو عرفتموني لعرفتم أبي (يوحنا ٨–١٩). (٢)أنتم من الدَّرْك الأسفل وأنا من الملأ الأعلى، أنتم من العالَم وأنا لستُ من العالَم (يوحنا ٨–٢٣). (٣)إنكم أولاد أبيكم إبليس، وأنتم تريدون شهوات أبيكم … مَن كان مِن الله سمع كلام الله، فإذا كنتم لا تسمعون فلأنكم لستم من الله (يوحنا ٨–٤١٤٢). كل هذه الجُمَل تُشير إلى أن المسيح بمثابة ابن الله الأسمى، وليس ابن الله الصانع الذي هو «يهوا» أو إيل (إليا)، فقد كانت الغُنُوصِية تُميِّز بين نوعين من الله؛ الله الأسمى الذي خَلَق عالَم النور فقط، ولم يخلق الأرض أو الإنسان، والآخَر هو الله أو الإله الصَّانِع الذي رَاقَ له عالَم الظلام فخرج على طاعة الله الأسمى وعالَم النور، وخلَق عالمًا هَجينًا هو الأرض فيه ظلام كثير ونور قليل، ومثله الإنسان فيه جسد مُظلِم مادي وروح/نفس إلهية مُنيرة. وقد صار الإله الخالَق هذا، فيما بعد، بمثابة الشيطان أو مُمثِّل الشر. ولهذا تنظر الغُنُوصِية للإله يهوا الذي يَتعبَّده اليهود بأنه إله صانع أو خالِق وهو شرير. أما المسيحيون الغُنُوصيون فلا يَقْبَلون أن يكون «إيل» هو إلههم، ويرون أن المسيح نزل من الإله الأسمى وليس من «إيل» أو «يهوا»، وهم يَروْن أنه لم يُعَذَّب على الصليب ولم يُصْلَب ولم يُقْتَل. في الكتاب الأبوكالبسي الغُنُوصي المعروف «رؤيا يعقوب» نقرأ ما يلي: «لم يُعَذَّب على الصليب ولم يَنلْه أي أذًى من جلاديه.» وفي نص «الأطروحة الثانية لشِيت الكبير» وهو كتاب غُنُوصي مسيحي نقرأ بأن يسوع لم يَمُت على الصليب، وأن ما رَأوْه من موته لم يكن سوى مظهر خادِع، وأنهم ما ضربوه، وما أهانوه، وما سَقَوه الخَلَّ والمُر، وإنما فعلوا ذلك بآخَر اتَّخَذ شبهه، بينما كان هو على البُعد يهزأ منهم، ومن جَهلِهم. وهذا الموقف سيتبَنَّاه الإسلام في روايته عن يسوع (عيسى بن مريم)، وهو ما نراه تأثُّرًا إسلاميًّا بالمُدوَّنات الغُنُوصِية التي سيكون الكثير منها مصدرًا من مصادر روايات وأفكار الإسلام، وهي التي كانت منتشرة بقوة في جزيرة العرب. (٢)بولس الرسول والغُنُوصِية إذا كان يسوع هو السيد المسيح المؤسِّس للديانة المسيحية كنَبي مُرسَل من الله أو كابن للرب، فإن بولس هو المؤسِّس الثاني للمسيحية؛ فهو الذي قام بصياغة هيكلها الدِّيني بمكوِّناته المعروفة. وكانت فكرته أن يسوع لم يُطالِب بمُلْك، بل جاء ليفتدي ذنوب البشر عندما رُفع على الصليب ومات؛ ولذلك فهو لم يكن مَلكًا لليهود يُخلِّصهم من حُكْم الرومان، بل هو مُخلِّص كل الناس من ذنوبهم. فكرة الخَلاص هذه امتزَجَت مع الثقافة الهيلنستية والرواقية والغُنُوصِية لبولس؛ فجاءت جديدة مُدهِشة ولم يَعُد هناك شيء من فكرة «المشيَّا» الذي نادت به التوراة؛ ولذلك كان لا بُدَّ من استعارة الهيكل الغُنُوصي الذي يَعتَبِر المسيح ابنًا للإله الأعلى الذي جاء ليخلص الإنسان من المادة والشر الذي صنعه الإله الصانع المادي. أعاد بولس «تصنيع» يسوع أو المسيح المصلوب طبقًا إلى ثقافته اليهودية اليونانية، وأطلق عليه الفادي والمخلِّص بعد أن جَمَع فكرة «الشكينة اليهودية»، و«اللوغوس اليوناني» كمؤنَّث ومُذكَّر نَتَج عنهما الابن الذي توسَّط بين الله الواحد المتعالي والإنسان. كان هذا نوعًا من تحوير الغُنُوصِية باتجاه المسيحية البولسية التي أصبحت أساس الفكر المسيحي لاحقًا مع وجود التغييرات الكثيرة فيها. كانت «الشكينة» هي إشارة وردت من فيلون، وقال إنها المُقابِل الأنثوي ﻟ «لوغوس» اليونانية المُذكَّرة، وتعني بالعربية «السكينة» فيما تعني اللوغوس «الكلمة». إذن السكينة واللوغوس هما الحِكْمة المُؤنَّثة والكلمة المُذكَّرة في اتحاد دائم، وهو ما أنتج الابن الذي كان بمثابة الوسيط الفَعَّال بين الإله والخَلْق. وهذه الاستعارة من الغُنُوصِية التي قام بها بولس واضحة تمامًا، وربما كانت من خلال فيلون اليهودي الغُنُوصي. أما فكرة الفداء فلا شك أنها فكرة مُسارِّية معروفة. وهكذا أصبح الابن الفادي من مرجعية غُنُوصية مُسارِّية. وكانت أحداث ولادته وموته وصَلْبه وبَعْثه قد حدَثَت منذ الأزل في السماء البعيدة قبل نشوء هذا العالَم المادي، وهكذا تكوَّن «مسيح آخَر» كما يذكر ذلك بولس في رسالته إلى أهل غلاطية (٣: ٢٤– ٢٨). وهكذا أصبح «المسيح الآخَر» هو غير المسيح اليهودي «المشيَّا» الذي بَشَّرَت به التوراة، وهذا ما أراده بولس تمامًا. وبذلك أبعد المسيحية عن اليهودية. يستخدم بولس كثيرًا مصطلح «الملأ الأعلى» وهو مصطلح غُنُوصي بامتياز وهو العالَم الذي ظهر من الإله الأب. ومن أمارات استخدام بولس للغُنُوصِية هجومه العنيف على الجسد واعتباره من العالَم المادي الشرير الذي يحمل الخطيئة، فهو يقول «لأن الجسد زنَى، عهارة، نجاسة، دعارة، عبادة أوثان، سِحر، وشِقَاق. أما الروح فصلاة ومحبة، فرَح وسلَام، صَلَاح وإيمان» (غلاطية، ٢١ و١٩: ٥). فكان يرى بولس ضرورة قمع الجسد ونزواته، والمُطالَبة بالتحرر منه، وهو ما كانت تعتقده الغُنُوصِية تمامًا. وكذلك نرى المَوقِف الغامض لبولس من الزواج والذي يتذبذب بين كُرْه الزواج واتخاذه وسيلة لقمع الشهوات، وهو ما ألقَى بظلاله كثيرًا على حياة المسيحيين وبشكْل خاصٍّ رجال الدين منهم، وما كان سببًا في نشوء الرَّهبَنة والتَّبتُّل. وكل هذا كان بسبب الأثر الغُنُوصي الذي بدأ مع المسيحية منذ بدايتها وتأسيس مُكوِّنَاتها على يد بولس. كانت سُبُل اتصال بُولس بالرب عن طريق الحِلم أو الرؤيا وهو أحد التقاليد الغُنُوصِية المعروفة أيضًا. وكان يشير إلى اليهود كعبيدٍ للآلهة وللحُكَّام (الأراكنة)، وأن المسيح جاء ليُحرِّر الناس كلهم، ومِن ضمنهم اليهود، من الآلهة «التي يهوا على رأسها»، ومن الأراكنة، وهذه كلها مفاهيم غُنُوصِية معروفة. (٣)الأصل الغُنُوصي للرَّهْبَنة المسيحية ساهمت الغُنُوصِية والرِّواقية بقِسْط كبير في نشوء الرَّهبَنة المسيحية؛ فقد كانت مبادئها في اعتبار المادة والجسد أصلًا للشر والتعفُّف عن غرائز الجسد، والامتناع عن الزواج والاتصال الجنسي، «بل وتحريمهما»، والهروب والعزلة عن الناس، والشعور بالغربة في هذا العالَم. كل هذه المبادئ الغُنُوصِية كانت سببًا رئيسيًّا للرهبنة في أغلب الفرق الغُنُوصِية وفي المسيحية. ترى الغُنُوصِية أن الكون بأكمله خُلق كحادثة شريرة قام بها الإله الصانع (الديميورج) الذي هو بمثابة المُمثِّل عن آلهة الشِّرك القديم، إزاء الله الواحد العالي المُتفرِّد الذي يحتضن عالَمًا روحانيًّا نورانيًّا، لكن الإله الصانع الذي هو إله الشر أراد تقليد الإله الواحد فصَنع عالمًا ماديًّا؛ «لأنه لا يستطيع صُنْع عالَم روحاني نوراني بِسبَب هبوطه عن العالَم الروحاني وخروجه عليه». الرواقية هي الأخرى ترى أن المادة هي الشرُّ بعينه، وهذا ما يجعلنا نُؤكِّد أن الغُنُوصِية احتَقَرت العالَم، ونفَرَت من المادة، ومجَّدَت الرُّوح وعالَم الروح، وقد كان هذا المبدأ هو أساس الزُّهد والتصوف والرهبنة. والغُنُوصي يشعر أنه إنسان غريب عن هذا العالَم؛ لأنه يَحمِل في داخله الروح أو النفس الإلهية المصدر والتي تشعر بغربتها عن العالَم المادي وسجنها فيه؛ ولذلك يكون همُّه الوحيد الوصول إلى العالَم الروحاني الأعلى. وكذلك فإن أغلب التيارات الغُنُوصِية تمنع الزواج وتراه يتعارض مع نفورها من المادة والجسد «كالمانوية»، أو أن بعضها تُقلل من أهمية الزواج وتتحاشى تشجيعه؛ لأنه إعمار لعالَم الدنيا التي يتوجب الرحيل منها. كل هذه الأمور انعكسَت في البداية الغُنُوصِية للمسيحية، ونَجِد صداها في سلوك السيد المسيح وحوارِيِّيه، وبالأخص يُوحنَّا صاحب الإنجيل الذي كان يَلبَس الوَبَر، ويأكل الجراد والعسل البَرِّي مُتقشِّفًا عن الدنيا وما فيها، وكذلك يعقوب الذي هو أخو «يسوع» والملقَّب ﺑ «يعقوب أخي الرب» الذي كان أقرب إلى الزاهد والراهب. وكان تلاميذ وأتباع السيد المسيح يَسلُكون سُلوك الزاهِدين، والذي كان نواة لنشوء الرَّهبَنة المسيحية بالنسبة للمُؤمِنين رجالًا ونساءً. ولما جاء الإسلام لم يقر الرهبنة، وقال أنها بدعة لم يشرعها الله (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) وأباح الزواج وتوسع فيه، فأباح التزوج من أربع (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع). وقد حدث جدل واسع حول أحقية الكنيسة الرسمية «القويمة»، أم الكنيسة الغُنُوصِية في تمثيل المسيحية وبدايتها، وهناك مَيل عارم، اليوم، لدى الباحثين إلى أن المسيحية ظَهرَت في أول الأمر من الكنيسة الغُنُوصِية؛ لأن السيد المسيح كان غُنُوصيًّا بدايةً، وليس صحيحًا الحكم على هذه الكنيسة بالهرطوقية هي ومَن معها من الغُنُوصيين المسيحيين باعتبارهم خرجوا عن الدين المسيحي القويم إلى الغُنُوصِية، وهناك مَن ينظر لهم على أساس أنهم مَن بدأ المسيحية أفرادًا وكنيسة، لكن التقاليد الدينية الراسخة واليهودية هي التي ذَهبَت بالمسيحية باتجاه آخَر وجَعلَت الغُنُوصِية هرطقة منبوذة. هكذا نقل أفلاطون ثم أرسطو الفكر الديني للمدينة الإغريقية إلى فكر ديني عالمي «عن طريق الفلسفة»، وسيكون لهذا الفعل صداه الكبير عندما يُعلِّم أرسطو تلميذه الإسكندر المقدوني، وعندما يَفرِش هذا الأخير الأرضية لنشوء دين عالمي جديد يَتمخَّض عن حركة التوحيد التي تبدأ فلسفيةً، ثم تنشأ غُنُوصِيةً، ثم تعود أدراجها شرقيةً يَنتُج عنها يهودية مُوحِّدة «وليس تفريدية كما كانت»، ثم مسيحية مُوحِّدة «غُنُوصِية، ثم ثائرة على الغُنُوصِية»، وإسلام توحيدي خالِص ورافِض للأصول الفلسفية للتوحيد.
كيف اكتسحت اليهودية الديانات الأخرى لقد تعودنا على نسبة الأديان – لا سيما الأديان الإبراهيمية التوحيدية – إلى أنبيائها بشكل كامل، فهم – في نظرنا - الذين أقاموا بنيان الديانة كلها من الألف إلى الياء. بينما يدلنا الباحثون اليوم على أن نصيب الأنبياء في تكوين دياناتهم بشكلها الحالي، هو جزء بسيط، لا يتعدى الوصايا العشر في ديانة موسى، وكلمات قليلة للمسيح، والقرآن فقط لمحمد. حتى القرآن يرى بعض الباحثين أنه كلام النبي محمد نفسه، بل هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك، فذهب جون وانسبرو، مؤسس مدرسة المراجعين في الدراسات الإسلامية أو المدرسة التنقيحية في الدراسات الإسلامية: أن القرآن هو نص تكون وتطور في عملية استمرت 200 عام، وبالتالي لا يمكن عزوه إلى محمد، وعليه فإن شخص محمد باعتباره نبي القرآن سيكون ابتكارًا لاحقًا، أو على الأقل لا علاقة لمحمد بالقرآن، أنظر: Andrew Rippin, The Blackwell Companion to the Qur an. بينما ترجع البقية – وهي معظم الدين – إلى صناعة بشرية من قبل أتباع الأنبياء. وسوف نبين فيما يلي تلك الحقيقة فيما يخص الديانة اليهودية. حتى سبعينيات القرن العشرين كان الرأي السائد بين الباحثين في دين إسرائيل، يذهب إلى أن التوحيد هو الذي ميَّز دين إسرائيل عن الأديان والثقافات المجاورة، منذ أيام موسى الذي تلقَّى الوصية والشريعة من الرب على جبل سيناء، ونقلها إلى شعبه الذي أخذ على نفسه عهدًا بأن يعبد يهوه وحده من دون بقية الآلهة، ويلتزم بشريعته. أما اليوم فإن الباحثين، وبينهم العديد من المحافظين، يعترفون أمام ضغط الشواهد الأركيولوجية، بأن التوحيد اليَهَوي لم ينشأ كعقيدة راسخة قبل فترة السَّبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، وقد حصل ذلك على يد فئة من اللاهوتيين الذين كانوا يتأمَّلون الحاضر وما آلت إليه مملكة يهوذا من انهيارٍ كامل على كل صعيد، ويعيدون خلق الماضي على ضوء هذا الحاضر؛ وبذلك ابتدأت عملية صياغة التوراة العبرانية، وهي العملية التي استغرقت نحو قرنَين من الزمان، قبل أن يصل الكتاب إلى صيغته القريبة من الصيغة الراهنة. إن كل الشواهد التي تحصَّلت لدينا اليوم، تدل على أن سكان المرتفعات الفلسطينية الذين شكَّلوا دولتَي إسرائيل ويهوذا، لم يسمعوا بشريعة الرب التي نزلت على موسى، ولم تكن لهم علاقة بالعهد الذي قطعه أسلافهم المفترَضون مع يهوه، الذي تحوَّل إلى إله قومي لمملكتَي إسرائيل ويهوذا، فلم يكن على عُلو منزلته إلا عضوًا في مجمع آلهة يضم عددًا من الآلهة والإلهات. ولربما جاء بهذا الإله مجموعة رعوية كانت تتجوَّل في سيناء بقيادة شخصية غامضة تُدعى موسى، قبل أن تستقر في مناطق المرتفعات الفلسطينية مطلع القرن الثاني عشر قبل الميلاد، في سعيه لأخذ موطئ قدم له بين الآلهة الكنعانية القديمة، عمد يهوه (عن طريق كهنته طبعًا) إلى تبنِّي استراتيجية الامتصاص والتماثل؛ فقد عمد أولًا إلى التطابق مع إله السماء إيل حتى إنه دُعي تبادليًّا بالاسم نفسه في نهاية المطاف، واتخذ من عشيرة زوجة إيل القديمة زوجةً له. وبعد ذلك أخذ بالتماثل مع الإله بعل، واكتساب وظائفه وصلاحياته، حتى غدا من الصعب التفريق بين الإلهَين. وبعد أن بنى ملوك يهوذا في زمنٍ ما، من أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع، هيكلًا ضخمًا ليهوه في أورشليم صار رمزًا لسلطانه، بدأت بالظهور حركة دينية تدعو إلى «عبادة يهوه وحده»، وذلك على يد جماعة من اللاهوتيين المتأثرين بالحركة النبوية التي اشتد عودها إبان تلك الفترة، والتي وضعت على أولويات أجندتها محاربة التعددية وجميع مظاهرها، والالتفات إلى عبادة يهوه في مقر سكنه بهيكل أورشليم، ولكن على الرغم من الحرارة التي ميَّزت خطاب هؤلاء الأنبياء؛ فإنهم بقُوا مع الفئة التي التأمت حولهم أقلية لم يستمع لصوتها أحد، وكانت رسالتهم أكثر جِذرية وتطرفًا من أن تلقَى القبول على نطاقٍ واسع. بعد نحو قرن على إصلاح الملك حزقيا، وجدت حركة "يهوه وحده" دعمًا من الملك يوشيا الذي حكم قبل بضعة عقود من نهاية مملكة يهوذا على يد نبوخذ نصر الكلداني؛ فقد قام يوشيا بحركة إصلاح ديني أوسع نطاقًا من حركة سلَفه الملك حزقيا، مدفوعًا بأفكار هذه الجماعة ومِن ورائهم النبي الكبير إرميا الذي عاصر هذا الملك، وعاش طويلًا ليشهد دمار أورشليم وخراب الهيكل. وخلال ذلك كان يطوف في شوارع أورشليم داعيًا إلى عبادة يهوه التي نسِيَها الناس والحكام، ومنددًا بعبادة الآلهة الأخرى: «اسمعوا كلمة الرب يا بيت يعقوب وكل عشائر بيت إسرائيل. هكذا قال الرب: ماذا وجد فيَّ آباؤكم من جَور حتى ابتعدوا عني، وساروا في طريق الباطل، وصاروا باطلًا» (إرميا، ٢: ٤–٦). يبتدئ إصلاح الملك يوشيا بقصة ذات مغزًى بالنسبة للبدايات الأولى لتحرير الأسفار التوراتية. فخلال عملية ترميمٍ جزئية في هيكل أورشليم أيام الكاهن الأكبر المَدعُو حلقيا، تم العثور على دَرجٍ قديمٍ من الورق؛ فأعطى حلقيا السِّفر للكاتب شافان قائلًا إنه قد وجد سِفر شريعة موسى فقرأه، ثم أخذه إلى الملك يوشيا وقرأه أمامه. فلما سمع الملك كلام سِفر الشريعة مزَّق ثيابه، وصعد الملك إلى الهيكل، ودعا إليه كل شيوخ يهوذا وأورشليم وجميع الشعب من الصغير إلى الكبير، ووقف على المنبر، وقرأ في آذانهم كلام سِفر الشريعة الذي وُجد في بيت الرب، وعندما انتهى من القراءة قطع عهدًا أمام الرب لحفظ وصاياه وفرائضه المكتوبة في السِّفر، وقطع معه الشعب عهدًا بذلك. ثم باشر حملته الواسعة للقضاء على كل مظاهر عبادة الآلهة الأخرى داخل هيكل أورشليم وخارجه (الملوك الثاني، ٢٢٢٣). نستنتج من هذه الرواية أن اتجاه عبادة يهوه وحده قد ابتدأ منذ ذلك الوقت بتزويد عبادة يهوه بالخلفية الأيديولوجية التي تسوغ شرعيتها وتميزها عن عبادات الآلهة الأخرى، وتبتكر لها جذورًا في الماضي السحيق تعود إلى تلك الشخصية الغائبة وراء ضباب التاريخ، وهي موسى الذي أخذ هؤلاء يَنفُضون عنه غبار الزمن، ويعزُون إليه تأسيس عقيدتهم الجديدة. ومن الواضح أن هذه الوثيقة المزورة قد تم دسُّها في أحد المواضع المَنوي ترميمها من قِبَل أعضاء في هذه الجماعة، لتكون بمثابة «المانيفستو» الذي ستقوم عليه حركة الإصلاح المُتفَق عليها مع الملك يوشيا. كما تقدم لنا هذه الرواية شاهدًا فريدًا من نوعه على أن أهالي يهوذا وحكامهم وكهنتهم لم يكونوا قد سمعوا من قبل بشريعة موسى ولا آباءهم من قبلهم، وأن هذه الشريعة والعقيدة الكامنة وراءها، قد بدأت بالتشكيل في خضم صراعِ اتجاه عبادة يهوه وحده مع العبادات الأخرى. وعلى الرغم من أننا لا نعرف شيئًا عن مضمون سِفر الشريعة هذا؛ فإنه كان، ولا شك، الأساس الذي بَنى عليه اللاهوتيون في المنفى البابلي نواة شريعتهم. في حملته الأولى على أورشليم عام ٥٩٧ق.م. سبى نبوخذ نصر البابلي من أهل أورشليم نحو عشرة آلاف من المتعلمين والعسكريين وأهل الصناعة والحِرَف. كان النبي حزقيال بين سَبي هذه الحملة الأولى على أورشليم، وفي بابل تابع هذا النبي نقده لانحراف أهل يهوذا عن عبادة يهوه، وممارساتهم الوثنية، حتى بعد أن رأَوا ما حلَّ بأهلهم من سَبي ومذلة: «هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا جالب عليكم سيفًا، وأُبيد مرتفعاتكم فتخرب مذابحكم وتتكسَّر شمساتكم (= مذابح البخور)، وأطرح قتلاكم قدام أصنامكم، وأضع جثث بني إسرائيل قدام أصنامهم.. فتعلمون أني أنا الرب» (حزقيال، ٦: ١–٧). هذه الكارثة الشاملة التي أنهت الكيان السياسي لما يُدعى بإسرائيل القديمة، قد أحدثت أعمق أزمة في تاريخ دين يهوذا، قادت إلى تحطيم بِنيته القديمة ووضع الأسس الجديدة لدينٍ مختلف تمامًا عما عرفته إسرائيل ويهوذا في ماضيهما، قائم بالدرجة الأولى على تعاليم الأنبياء الذين كانوا يدعون إلى عبادة الإله يهوه ونبذ عبادة الآلهة الأخرى، وكان صوتهم هو الشيء الوحيد الذي بقي نابضًا بالحياة من تحت الخراب والدمار. وبينما كانت صفوة العقول في المنفى تتساءل عن الأسباب الكامنة وراء الكارثة، كان صوت الأنبياء يقدم لهم الجواب؛ فلقد دمَّر يهوه شعبه، وهجر هيكله الذي كان يسكن فيه بينهم لأنهم عصَوه وأخطئُوا، وأشاحوا بوجوههم عنه. وهكذا انطلقت في المنفى عملية فكرية واسعة النطاق، هدفت إلى إعادة كتابة التاريخ من خلال منظور ديني أيديولوجي بدأ لتوِّه بالتشكُّل. وقد قادت هذه العملية في النهاية إلى إنتاج الأسفار التوراتية التي تُعيد قراءة الماضي على ضوء الحاضر، من خلال انتقائية تمزج بين الوقائع التاريخية وتفسيرها الأيديولوجي، وعندما تعوزها الوقائع تعمد إلى ابتكارها. لا نستثني من ذلك أسفار الأنبياء التي من المفترَض أنها تسرد أعمال وأقوال أنبياء معروفين، أو أن بعضهم قد دوَّنها بنفسه. فهذه الأسفار النبوية ليست إلا نتاج عملية تحرير وإعادة تحرير طويلة، مزجت بين فكر الأنبياء وفكر المحررين التوراتيين ورؤيتهم الدينية والتاريخية المتأخرة. عندما غادر نخبة أهل أورشليم منازلهم المهدَّمة والمحترقة، حملوا معهم ما خفَّ حمله وغلا ثمنه، وهناك فئة من كتَبة البلاط حملت معها ما استطاعت من المخطوطات المدوَّنة في أسفار لينقذوا من خلالها ما يمكن إنقاذه من التركة الثقافية للمملكة. والسِّفر هو الشكل السابق على الكتاب الذي نعرفه اليوم، وهو عبارة عن دَرْج (= لفافة) من ورق البردي يطول أو يقصر تبعًا للموضوع الذي يعالجه. وقد شكَّلت هذه الأسفار فيما بعد حجر الأساس للرواية التوراتية، وقدَّمت لمحرريها المادة المعلوماتية اللازمة لهم في عملهم. وقد أشار هؤلاء إلى بعض مصادرهم وذكروا عناوينها. وفيما يلي قائمة بما ذكروه منها، والمواضع التي وردت فيها: سِفر حروب الرب (العدد، ١٤–٢١). سِفر ياشر (يشوع، ١٣–١٠؛ وصموئيل الثاني، ١: ١٨). سِفر أمور الملك سليمان (الملوك الأول، ١١: ٤١). سِفر أخبار الأيام لملوك يهوذا (الملوك الأول، ١٤: ١٩ و١٥: ٧). سِفر أخبار الأيام لملوك إسرائيل (الملوك الثاني، ١: ١٨؛ و١٤: ٢٨). سِفر أخبار صموئيل النبي (أخبار الأيام الأول، ٢٩: ٢٩). سِفر أخبار جاد النبي (أخبار الأيام الأول، ٢٩: ٢٩). سِفر أخبار ناثان النبي (أخبار الأيام الثاني، ٩: ٢٩). نبوءة أخيَّا الشيلوني (أخبار الأيام الثاني، ٩: ٢٩). سِفر أخبار شمعيا النبي (أخبار الأيام الثاني، ١٢: ١٥). سِفر أخبار عيدو النبي (أخبار الأيام الثاني، ١٢: ١٥). سِفر أخبار ياهو بن حناني (أخبار الأيام الثاني، ٢٠: ٣٤). ولقد توصَّلت جماعة من المفكرين اللاهوتيين، بعضهم من فئة الكهنة السابقين وبعضهم من خارجها، إلى أن الكارثة التي حلَّت بيهوذا لم تكن ضربة قَدَر أعمى، أو نتيجة للقوة العسكرية الآشورية، ولكنها كانت من عمل الإله يهوه عقابًا لها على خطاياها (نفس ما يقوله شيوخ المسلمين اليوم في تفسير تأخر الأمة)، وما من سبيل الآن سوى التوبة والاعتراف بالذنب، والعودة إلى الرب من خلال التعلُّم من دروس الماضي. وتظهر معالجتهم لهذه الفكرة بأوضح أشكالها في بعض مقاطع سفر إرميا؛ حيث يلجأ المحرر إلى صيغة السؤال والجواب التعليمية: (إرميا، ٥: ١٩)، (٩: ١٢–١٦)، (١٦: ١٢–١٠). مثل هذا الجدل الذي يقيمه يهوه مع شعبه، لا يقتصر على أسفار الأنبياء. وها هو محرر سِفر التثنية يضع على لسان يهوه، منذ أيام التجوال في سيناء، الكلمات التالية: «إن سمعتَ لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه يجعلك الرب مستعليًا على جميع قبائل الأرض، وتأتي عليك جميع هذه البركات وتدركك … ولكن إذا لم تسمع لصوت الرب إلهك تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك. ملعونًا تكون في المدينة وملعونًا تكون في الحقل … يذهب الرب بك وبمُلكك الذي تقيمه عليك إلى أمة لم تعرفها أنت ولا آباؤك.. وتكون دَهَشًا وهُزأة في جميع الشعوب التي يسوقك الرب إليهم» (التثنية، ٢٨: ١–٣٦). ولقد استخدم يهوه الملك البابلي نبوخذ نصر كأداة لعقاب يهوذا وتدميرها: (إرميا، ٢٧: ٥–٧). (٣٢: ٣٤). (٣٢: ٢٩–٣١). في هذه المقاطع من سِفر إرميا نلاحظ ظهور فكرة جديدة أخذ المحررون التوارتيون بتطويرها في أسفار الأنبياء. فإله التوراة قد بدأ يخرج من مجاله الضيق كإلهٍ يعمل ضمن دائرة شعب إسرائيل إلى المجال الأوسع للشعوب الأخرى. لقد كان في السابق يسكن بين شعبه وينصرهم في المعارك، ويقاتل معهم أعداءهم، ولكن ها هو الآن يستخدم ملوكًا وقادة وجيوشًا ليحقق من خلالهم أهدافه، ويمد نفوذه إلى ما وراء يهوذا، وإلى عقر دار بابل القوة المسيطرة في ذلك الوقت. على أن الإدراك العميق للخطيئة والقبول بعقابها قد ترافق مع التوبة؛ لأن الرب غفور يقبل التوبة، والطريق ليس مسدودًا أمام شعب إسرائيل العاصي. وبما أن يهوه قد أعلن في أكثر من مناسبة بأنه سيعود إليهم إن هم عادوا إليه: «فالآن أصلحوا طرقكم وأعمالكم واسمعوا لصوت الرب إلهكم، فيندم الرب عن الشر الذي تكلَّم به عليكم» (إرميا، ٢٦: ١٣)، وبعد المغفرة لا بد أن يأتي العون (إشعيا٢، ٤١: ٨–١٢). التفاوت الذي كان بين ضعف شعب اسرائيل وقوة الحضارة البابلية، كان هو سبب الإمعان في تكفير بابل في التوراة. ولكي يكون بمقدور يهوه إنقاذ شعبه الصغير والضعيف من يد أعتى قوًى عالمية في ذلك الوقت يجب أن يكون هو نفسه كبيرًا وقويًّا، إلهًا مسيطرًا على العالم بأكمله، لا على رقعة أرض صغيرة في فلسطين. لقد رفعت جماعة عبادة يهوه وحده في الماضي إلهها إلى مرتبة إله الآلهة: «إله الآلهة، الرب تكلم ودعا الأرض من مشرقها إلى مغربها» (المزمور ٥٠: ١). «لأن الرب إله عظيم، ملك على كل الآلهة» (المزمور ٩٥: ٣). «اسجدوا له يا جميع الآلهة» (المزمور ٩٧: ٧)، ولكنه الآن غدا الإله الأوحد: «أنا الرب وليس آخر ولا إله سواي» (إشعيا٢، ٤٥: ٥). «أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري». (إشعيا٢، ٤٤: ٦). «التفتوا إليَّ وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض؛ لأني أنا الله وليس آخر» (إشعيا٢، ٤٥: ٢١). «أنا الرب صانع كل شيء، ناشر السموات وحدي، باسط الأرض من معي؟» (إشعيا٢، ٤٤: ٢٤). ومن موقعه الجديد ها هو يحكم بالخراب على بابل من أجل أن يفك أسر شعبه (إشعيا٢، ٤٦: ١٢). ومع آلهتها سوف تنزل بابل الفخورة إلى الحضيض (إشعيا٢، ٤٦: ١–٥). بهذه الطريقة تمَّت ترقية إله في مملكة صغيرة منهارة في الجنوب السوري إلى مرتبة الإله الأوحد خالق السموات والأرض، لكي يستطيع من خلال تحكُّمه بالعالم وبتاريخه تحرير شعبه والعودة به إلى أرضه. وها هو يستخدم الملك الفارسي قورش بعد أن رفعه إلى مرتبة مسيح الرب لكي يقضي على الإمبراطورية البابلية ويعيد سَبي يهوذا إلى أورشليم (إشعيا٢، ٤٥: ١–٣). هذا هو ما يفسر ظهور فكرة "شعب الله المختار" واحتكار الإله الكوني، والدين الحق الوحيد، لأول مرة في تاريخ الأديان، فقبل اليهودية لم يكن هناك تكفير بين الأديان، ولكن ظهر مع اليهودية، واستمر بعدها إلى الآن. وإن الآية القرآنية (إن الدين عند الله الإسلام) ما كانت إلا دفاعاً عن النفس، في مسلسل احتكار الحقيقة هذا. ولو لم يقل الإسلام هذا لذاب واختفى ولم يكتسب الصفة الرسمية. كان لابد من استخدام نفس سلاح الخصم – القوي والرسمي القديم- لمواجهته، وهذا ما يوحي بأن القرآن من كلام محمد، كما كانت التوراة من كلام اللاهوتيين اليهود، لأن الله لا يقول هذا، بل هو رب لكل الناس. نحو عام ٤٥٨ق.م. انطلقت موجة من العائدين إلى أورشليم، بقيادة المدعو عزرا بن سرايا، الكاهن المتفقِّه بشريعة الرب على ما يصِفه النص. نلاحظ من (عزرا، ٧: ٦–٢٦) أن عزرا قد جاء معه من بابل بشريعتَين، الأولى تُدعى شريعة الملك والثانية شريعة الرب. فأما شريعة الملك فهي القوانين الفارسية. وأما شريعة الرب فهي نموذج عن الشرائع التي كانت المجتمعات الجديدة في الإمبراطورية تصوغها من أجل إدارة شئونها الداخلية، وذلك بعد أخذ موافقة الإدارة الفارسية عليها من أجل التأكد من عدم تعارضها مع شريعة الملك. ومن المرجَّح أن شريعة الرب التي جاء بها عزرا من بابل هي شريعة موسى، التي وضعت نواتها الأولى جماعة عبادة يهوه وحده، خلال الإصلاح الديني الكبير الذي قاده الملك يوشيا قبل بضعة عقود من دمار مملكة يهوذا، والتي ادَّعى كبير كهنة الهيكل أنه وجدها مدفونة تحت أحد جدران الهيكل، وهي التي زودت الإصلاحيين بالقاعدة الأيديولوجية التي قامت عليها حركتهم. وقد حُملت هذه الوثيقة التي يدعوها محرر سِفر الملوك الثاني بسِفر الشريعة مع ما تم حمله من وثائق إلى بابل، وهناك عكف اللاهوتيون على تطويرها بما يتلاءم والصورة الجديدة للإله يهوه، وظهرت الأسفار الخمسة الأولى من كتاب التوراة بشكلها الجنيني، الذي تم تطويره بعد ذلك في أورشليم على يد خلفاء عزرا. وبما أن شريعة الرب هذه قد وُضعَت لتكون بمثابة اللُّحمة التي تجمع أهل المجتمع الجديد في أورشليم، وتؤكد تميزهم عن مجتمع يهوذا القديم العاصي على الرب، مثلما تؤكد تميزهم عن المجتمعات الوثنية المحيطة بهم؛ فقد كان لا بد من قراءة هذه الشريعة على مسامع الشعب بما فيهم الكهنة، وإفهامهم إياها، وأخذ العهد منهم على الالتزام بها. ونلاحظ من (نحميا، ٨: ١–١٣) أن الكهنة عمومًا، والكهنة من سَبط اللاويِّين، الذين من المفترض أنهم كانوا قيِّمين على طقوس يهوه من أيام هارون الذي ينتمون إليه، لم يكونوا يعرفون شيئًا عن شريعة موسى التي كانت تُقرأ على أسماعهم، شأنهم في ذلك شأن بقية الشعب. ونفهم من بقية فقرات الإصحاح الثامن من سِفر نحميا، أن قراءة سِفر الشريعة استمرت أيامًا طوالًا. بالاعتراف الكامل بالذنب بالاستغفار، وقطع عهدٍ مع الرب على عبادته وحده والعمل بكل وصاياه (نحميا، ٩) (١٠: ١–٢٩). هذا العهد الذي قطعته البقية التائبة أمام عزرا الكاهن بقبول شريعة الرب، هو في الحقيقة العهد الأول مع الرب إله إسرائيل الجديدة، وهو الذي عكسه المحررون التوارتيون على بدايات القصة التي كانوا عاكفين على تدبيجها عن أصول إسرائيل. فلقد عقد الرب عهده الأول مع إبراهيم، ثم جدَّد العهد مع كل من إسحاق ويعقوب، وعندما أنزل الشريعة على جبل سيناء أخذ موسى عهد الرب على شعبه أن يعبدوه وحده ويعملوا بشريعته. أما باقي القصة التوراتية فليست سوى تاريخٍ لاهوتي انتهت بإسرائيل العاصية إلى الدمار. إن العملية التحريرية التي قادت إلى إنتاج إسرائيل التوراتية، لم تكن تهدف إلى إنشاء خطابٍ أمين عن الماضي، بقدر ما هدفت إلى صياغة خطاب يعطي معنًى للحاضر. والمضمون الذي يتكشَّف لنا عبر أسفار الكتاب ليس موجهًا نحو الكشف عن الماضي إلا بمقدار ما يقدِّمه هذا الماضي من دعمٍ وتثيبت للمؤسسة الدينية والدنيوية القائمة.
#محمد_بركات (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الحادية عشر: ضرورة معرفة تا
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة العاشرة: ضرورة التخلص من سل
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة التاسعة: ضرورة فهم معنى الف
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثامنة: ضرورة معرفة معنى ا
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السابعة: خطورة الإعجاز العل
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السادسة: ضرورة معرفة تاريخ
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الخامسة: العلاقة بالآخر ومش
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الرابعة: تاريخية النص الدين
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثالثة: الكهنوت العدو الأخ
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثانية: لا يوجد دين رسمي ع
...
-
قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الأولى: الله ظاهر في خلقه
-
المختار من الفتوحات المكية (23) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (22) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (21) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (20)
-
المختار من الفتوحات المكية (19) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (18) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (17) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (16) محيي الدين بن عربي
-
المختار من الفتوحات المكية (15) محيي الدين بن عربي
المزيد.....
-
الإخوان وأوروبا.. من رعاية الجماعة لاكتشاف حقيقتها
-
بعد عامين.. الجامعة الإسلامية بغزة تفتح أبوابها رغم تدمير مب
...
-
مناطق هشة عديدة في سودرتليا - الكنيسة القبطية تحاول لعب دور
...
-
هل حمزة بن لادن حي؟.. منصة استخباراتية تثير الجدل
-
تقرير فلسطيني: عدد مقتحمي المسجد الأقصى في نوفمبر يتجاوز 410
...
-
قائد الثورة الإسلامية: المرأة ليست ربة بيت بل مديرته ورئيسته
...
-
رغم الدمار.. الجامعة الإسلامية بغزة تستأنف التعليم حضوريا
-
وثيقة إسرائيلية: نتنياهو يدعم بناء البؤر الاستيطانية التي يد
...
-
مكتب نتنياهو: الرفات المسلمة من -حماس- لا تعود لأي من المحتج
...
-
ما بعد حظر الإخوان: تحديات -حماس- في مواجهة شيطنة الإسلام وإ
...
المزيد.....
-
رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي
...
/ سامي الذيب
-
الفقه الوعظى : الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
المزيد.....
|