أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - قواعد التنوير الأربعون | القاعدة التاسعة: ضرورة فهم معنى الفلسفة وحقيقة الدين















المزيد.....



قواعد التنوير الأربعون | القاعدة التاسعة: ضرورة فهم معنى الفلسفة وحقيقة الدين


محمد بركات

الحوار المتمدن-العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 22:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كانت عقلية المشركين في الجاهلية هي عقلية تقليد الآباء والأجداد، والخوف من الأفكار الجديدة التي تخرجهم عن طريقة تفكير آبائهم الأولين التي تمثل عندهم الحكمة والعقل المفترض المعلب الجاهز، فماتت عقولهم بهذا المسلك، وأمسوا كأشباه الأنعام. ولهذا أنكر عليهم القرآن وأخبرهم أنه جاءهم بخير مما وجدوا عليه آبائهم، وخاطبهم بيا أولي الألباب، يحاول أن يوقظ فيهم نعمة التفكير والعقل.
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نجد العقل في السنة؟ لماذا لا يوجد حديث واحد يمدح العقل؟ هل كان يربي النبي محمد أصحابه – وهم حديثوا عهد بجاهلية – على عكس ما رباهم عليه القرآن؟ بالتأكيد لا. ولكن ترجع هذه الظاهرة إلى سببين:
الأول: أن معظم السنة موضوعة، بسبب التوسع في الفتوحات واستحداث قضايا جديدة، وحاجة المسلمين إلى نصوص تعالجها. وقد يسأل سائل: لماذا لا يعالجونها باجتهادهم وجهدهم العقلي، لماذا النص؟ هذا ما يجيب عليه السبب الثاني.
الثاني: أن الذي سيطر على المسلمين منذ بواكير فجر الإسلام حتى الآن، هو العقلية النقلية التي تمجد النص وتحتقر العقل، وكان هناك بصيص نور، مثله تيار المعتزلة في بغداد، والقاضي ابن رشد في الأندلس، ولكن تم القضاء على المعتزلة لصالح التيار السلفي الذي تزعمه أحمد بن حنبل، وتم القضاء على فكر ابن رشد لصالح أبي حامد الغزالي.
لقد خفت صوت العقل منذ جعل الشافعي السنة هي المصدر الثاني للتشريع، وأنكر الإستحسان وقال (من استحسن فقد شرع)، ومنذ زمن الخليفة المتوكل حين تم القضاء على فكر المعتزلة وإطلاق يد التيار السلفي النقلي، وإغلاق باب الإجتهاد، ومنذ أن أصدر الغزالي كتابه (تهافت الفلاسفة) الذي كفر فيه الفلاسفة هو وابن تيمية وأتباعه (وتعرض ابن رشد في أواخر حياته للاضطهاد، ونفي إلى موضع خارج قرطبة وشهد أثناء نفيه بعض الإهانات والإذلال. ويروي المؤرخون أن جماهير العامة طردته من مسجد كان قد ذهب إليه مع ابنه لأداء صلاة العصر. وقيل بأن تلامذته هجروا دروسه وأصبحوا يخشون حتى من ذكر اسمه. وهناك إجماع لدى الباحثين المعاصرين على أن اختفاء الفلسفة من أرض الإسلام يمثل حقيقة واقعة بعد القرن الثاني عشر الميلادي أي بعد موت ابن رشد بالذات.
ويمكن القول بأن نهاية العصور الوسطى المسيحية قد تزامنت مع بداية العصور الوسطى الإسلامية أو الانحطاط. وهكذا كلما ارتفعوا درجة في سلّم الحضارة انخفضنا درجات. وإذا ما تموضعنا داخل التاريخ الإسلامي قلنا بأن نهاية الإسلام الكلاسيكي قد تزامنت مع نهاية الفلسفة. ويقول آلان دو ليبيرا إن القطيعة الفكرية التي ذات هي طابع تاريخي. فبعد العصور الوسطى كفَّ المسلمون عن ادعاء الفلسفة والعلم كملكية خاصة. لقد قطعوا كل علاقة بأسلافهم الذين كانوا يتفلسفون ويهتمون بتطوير العلم الذي تلقوه عن الإغريق وأصبح تراثهم - أو التراث الذي يعترفون به وينتسبون طواعية إليه - هو التراث الفقهي، وأصبح شعارهم من تمنطق فقد تزندق.. لقد تناءت الفلسفة في الأفق البعيد حتى اختفت كلياً) مدخل إلى التنوير الأوروبي، د. هاشم صالح ص56.

مراسلات بين الفيلسوف رينان والسيد جمال الدين الأفغاني
جرت في القرن التاسع عشر مراسلات علنية نشرت في الصحف الفرنسية بين رينان وجمال الدين الأفغاني، وتبين منها تفتح ذهن وثقلفة السيد جمال الدين الأفغاني حتى أنه وافق رينان في معظم ما قاله في اضطهاد الإسلام للفلسفة وإهمال المسلمين لها. ولهذا تم التعتيم في العالم العربي على ما قاله الأفغاني، ولم يتم ترجمة كلامه كاملاً، ولكن قصوا منه مالم يعجبهم، لأننا تعودنا أن نكون منتصرين ولو بالباطل، وأن تأخذنا العزة بالإثم ولا نعترف بالحق لو نطق به "كافر" حتى لو كان فيلسوفاً في وزن رينان. والغريب أن رد الأفغاني ظل مطموراً ولم يظهر إلى النور إلا بعد ترجمته للعربية حديثاً عام 2005م. يقول المترجم في المقدمة: (يسعدني أن أقدم لقراء العربية النصوص الأصلية التى شكلت مناظرة رينان والأفغاني حول الإسلام والعلم لأول مرة بعد ترجمتها عن الفرنسية، وخاصة رد الأفغاني الذي يُترجم كاملاً للمرة الأولى إلى اللغة العربية.
وما من مسألة أثارت لغطا وتعليقات ونقاشات حادة في العالم الإسلامي بقدر ما أثارت تلك المناظرة التي قامت بين رينان والأفغاني في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. لم تكن المشكلة ما عبر عنه رينان فحسب، وهو يسيء للإسلام وللعرب والمسلمين، ولكن أثار الرد الذي نشره الأفغاني أيضا على هذه المحاضرة من الانقسامات ما أضيف لحساب تلك المناظرة. ولعــــل رد الأفغاني يظل مثيرا للتساؤل والقلق، بحيث إنه أثار فى معسكر المسلمين انقساما حادا حول تفسيره أو فهمه أو تأويله واستنتج كل دارس منه ما أراد، وأخذ أو يشرح، والبعض الآخر بحث عن الدوافع التي ترفض أو تؤكـــــد البعض يبرر، خروج الأفغانى عن الإجماع. حتى هؤلاء الذين فكروا في مثل هذا الأمر، ومنهم الشيخ محمـــــد عبده نفسه تراجعوا عن الترجمة خوفًا مما رأوه تعميقا للانقسام وإشاعة لـــروح الفرقة وسوء الفهم بين مواطنيهم من العامة. وهكذا بقى النص كاملاً حتى اليوم غيــر معروف في اللغة العربية إلا من بعض المقتطفات المجتزأة المقطوعة عن سياقاتها والتي اختيرت تبعًا لأهواء ورغبات كل طرف مما لم يساعد على الوصــول إلـــى إجلاء حقيقة هذا الرد، ولا حقيقة تلك المناظرة المهمة. فقد كان رد الأفغاني خطيرا لأنه اشتمل على أمور تتعارض مع صحيح الدين كما يفهمه فقهاؤه، وهذا ما جعل مناصريه يبتعدون منذ اللحظة الأولى عن ترجمته. مع أنهم قد قاموا بترجمات انتقائية حاولت التركيز على النقاط التي كان يدافع فيها الأفغاني عن الإسلام والعرب.
وإذا أضفنا أن الشيخ محمد عبده الذي كان منفيا وقتئذ ببيروت اهتم اهتماما شديدا بترجمة رد الأفغاني من الفرنسية للعربية، إلا أنه قد تراجع على الفور عندما قرأ فحوى الرد واطلع عليه، وأبلغ الأفغاني برسالة فى حينه بأن هذا النص مما لا يمكن توجيهه إلى العامة).
هنا تظهر مشكلة، وهي: أن العامة والدهماء والسوقة، لا يريدون أن يفهموا الحقيقة كما هي، بقدر ما يريدون أن ينتصروا لدينهم ويدافعوا عن ربهم، هكذا يتصورون، أن الله يحتاج إلى من يدافع عنه وعن دينه الأوحد (إن الدين عند الله الإسلام) إنها سلطة النص، وهذه الآية بالذات هي الأشهر بين العوام، وهي بالغة الخطورة على العقل المسلم، إذ لا تزال ترسم لله صورة الإله القبلي العنصري الذي يخلق لكي يرمي في النار، إلا شعب الله المختار، وهي هي عقلية اليهود، وعقلية كل دين، لأن هذه كانت طبيعة الثقافة القديمة، في أزمنة الطفولة البشرية، فالطفل لا يفكر إلا بنفسه وعالمه المحدود، كما قال الأعرابي (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً) أليست هذه الكلمات هيه هي (إن الدين عند الله الإسلام)؟!! فما الفرق؟ إلا أن الأخيرة أسبغت عليها القداسة، وظُنَّ أنها خالدة أبدية، بينما كلمة الأعرابي المسكين أُنكرت عليه أشد الإنكار.. هذا هو النفاق والتناقض بعينه. ليس هناك دين عند الله لننصره. ولكن هذا ما لا يمكن أن يتصوره العامة، لأنهم تعودوا على المألوف المعروف، ولذلك لا يحبون الأفكار الجديدة ويخافون منها، وهذه هي بعينها العقلية الجاهلية التي هاجمها القرآن نفسه، ولكن لا زال للأسف من يقوم عليها من الكهنة المعاصرين ويسقون شجرتها الشيطانية الآسنة الملعونة.
والآن سوف أسوق طرفاً من كلام رينان، ثم نتبعه برد الأفغاني.. يقول رينان: (إن أى شخص قليل العلم بأمور عصرنا سيرى بوضوح التدنى الحالى للبلدان الإسلامية، وتراجع الدول التي يحكمها الإسلام، والعجز الفكرى للأجناس التى تتمسك فقط بهذا الدين: ثقافتهم وتعليمهم. وقد اندهش كل هؤلاء الذين كانوا في الشرق الأدنى أو في إفريقيا مـــن بلادة الذهن القدرية للمؤمن الحقيقي، في هذه الحالة التي كأنها دائرة حديدية تحيط برأسه وتجعله منغلقا بشكل مطلق عن العلم، غير قادر على تعلم أي شيء أو الانفتاح على أى فكرة جديدة. بداية من الممارسات الدينية الأولى للطفل المسلم، في نحو العاشرة أو الثانية عشرة من عمره ه وأحيانا ما يكون حتى هذه السن نابها إلى البلهاء هي حد ما، يصبح فجأة متعصبا، ومفعما بعزة بلهاء أوقعت في روعه أنه يمتلك ما ظنه الحقيقة المطلقة، سعيدًا وكأن هذا تميز اختص به بينما هو سبب لتدنيه. هذه العــزة الآفة الأساسية للمسلم. توحى إليه البساطة الظاهرة لشعائره بالازدراء غير المبرر للديانات الأخرى مقتنعًا بأن الله يعطى الثروة والسلطة لمن يشاء، دون اعتبار لنوع التعليم أو التميز الشخصي، فلدى المسلم احتقار شديد العمق للمعارف والعلم، ولكل ما يُشكل العقل الأوروبي.. هذه الحضارة الإسلامية شديدة الانحطاط الآن، كانت فيما مضى شديدة التألق. كان لديها العلماء والفلاسفة. كانت عبر قرون سيدة على الغرب المسيحي. لماذا مــا حدث لا يعود مرة أخرى؟ وهنا تكمن النقطة المحددة التى أود أن يتجه إليها النقاش.
على مدى مئات السنين، أوقفت ضربات ريح الإسلام العاتية كل التطــور الإيراني الكبير. إلا أن مجىء العباسيين بدا وكأنه بعث لعظمة الأكاسرة. إذ إن الثورة التي حملت العباسيين إلى السلطة كان قد أنجزها جنود فرس، يقودهم رؤساء فرس. وكان مؤسساها، أبو العباس السفاح وعلى الأخص المنصور، محاطين دائما بالفرس. كانوا بشكل ما ساسانيين ناهضين، والمستشارون الخصوصيون، ومعلمى الأمراء، وكان رؤساء الوزارات من البرامكة، وهي عائلة فارسية قديمة شديدة التفتح، ظلت مخلصة للدين الوطني، أى للمجوسية، ولم تعتنق الإسلام إلا متأخرا وعلى غير اقتناع.
وكان لمدينة حران في تاريخ العقل الإنساني دور شديد الخصوصية، إذ ظلت وثنية، كما أنها قد حافظت على كل التراث العلمي للآثار الإغريقية؛ وأمدت المدرسة الجديدة بحصة ضخمة من العلماء الأجانب في الأديان المنزلة، وخاصة الماهرين من علماء الفلك.
وكان الأطباء المسيحيون السريان المتابعون للمدارس الإغريقية الأخيرة منكبين بشدة على الفلسفة المشائية، والرياضيات، والطب، والفلك. وكان الخلفاء يوظفونهم فى ترجمة معارف أرسطو، وإقليدس وجالينوس وبطليموس، وباختصار مجمل العلم اليوناني المعروف فـي هـذه الآونة إلى اللغة العربية، وبدأت عقول نشطة مثل الكندى في تأمل المشكلات الخالدة التي تساءل عنها الإنسان دون أن يستطيع إيجاد حلول لها. أطلق علـى هؤلاء فلاسفة، ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه اللفظة الغريبة سيئة السمعة كما لــو كانت تعنى شيئًا غريبا عن الإسلام أصبح "فيلسوف لدى المسلمين صفة تدعو إلى الريبة، وتجلب في الغالب على صاحبها الموت أو الاضطهاد، مثل صفات كالزنديق وفيما بعد ماسوني.
ينبغي أن نعترف إذن بأن تلك العقلانية كانت العقلانية الأكثر نضجا التي أنتجها الإسلام. كما أخذت جمعية فلسفية تسمى إخوان الصفا في نشر دائرة معارف فلسفية فريدة في الحكمة وسمو الأفكار. ويحتل فيما بعد رجلان عظيمان هما الفارابي وابن سينا مكانا في صفوف أعظم المفكرين كمالا. ويتطور الفلك والجبر بشكل فريد خاصة في فارس. وتستمر الكيمياء في متابعة نهجها السرى الطويل الذى كشف عن نتائج عجيبة خارج نطاقها مثل التقطير، وربما البارود. وانكبت أسبانيا المسلمة على هذه الدراسات على نسق الشرق؛ وتعاون اليهود في ذلك تعاونا نشطا. وفي القرن الثاني عشر دفـع ابـن باجة وابن طفيل وابن رشد إلى آفاق لم يبلغها الفكر الفلسفي قط منذ العصر الكلاسيكي. ذلك هو المجمل الفلسفي العظيم الذى تعودنا على تسميته بالعربي، لأنه قد كتب بالعربية، إلا أنه في الحقيقة يوناني – ساساني. والأقرب إلى الصواب أن نقول بأنه يوناني؛ لأن العنصر الخصب في كل هذا كان قد جاء في الحقيقة من اليونان. كنا نقيم فى هذه العصور بمقدار ما كنا نعرفه عن اليونان القديمة. إذ كانت اليونان هى المنبع الوحيد للعلم والفكر المستقيم. من هنا فإن تفوق سوريا وبغداد على الغرب اللاتينى جاء نتيجة لما كنا نلمسه لديهما فحسب من اقتراب شديد من التراث اليوناني. إذ كان من السهل جدا الحصول على أعمال إقليدس، وبطليموس، وأرسطو في حُران، وفى بغداد أكثر من الحصول عليها من باريس. وعملت الترجمات العربية لكتب العلم والفلسفة اليونانية على أن تستقبل أوروبا خميرة التراث القديم الضروري لتفتح عبقريتها بالفعل عندما كان ابن رشد آخر فيلسوف عربي يحتضر في المغرب بين الحزن والإهمال، كان غربنا في أقصى اليقظة.
عندما كان العلم المسمى عربى يحتضر فى الوقت الذي غرس فيه بذرة الحياة في الغرب اللاتيني، وفى الوقت الذي وصل فيه ابن رشد للمدارس اللاتينية بشهرة ربما تساوی شهرة أرسطو، كان قد تم نسيانه عند مشاركيه في الدين. وعندما حل عام ۱۲۰۰ على وجه التقريب لم يعد هناك فيلسوف عربى ذا سمعة. وظلت الفلسفة دائما مضطهدة فى مجتمع الإسلام، ولكن بشكل لم ينجح في إلغائها. وبداية من عام ۱۲۰۰ انتصرت الرجعية الدينية تماما. بإلغاء الفلسفة في البلدان الإسلامية. ولم يعد المؤرخون ولا أصحاب التصنيفات يذكرونها إلا باعتبارها ذكرى، بل وذكرى سيئة. فأتلفت المخطوطات الفلسفية وأصبحت نادرة. ولم يتم التسامح مع علم الفلك إلا من جهة أنه يستخدم في تحديد اتجاهات القبلة للصلاة. وفيما بعد هيمن الجنس التركي على الإسلام ورجحت كفة الغياب الكامل للعقل الفلسفي والعلمى فى كل مكان. وانطلاقا من تلك اللحظة - ببضع استثناءات نادرة، كابن خلدون - لم يعد في كنف الإسلام أى عقل متحرر ؛ حيث قتل العلم والفلسفة على أرضه.
ولم أحاول البتة - سادتي - أن أنتقص من دور هذا العلم العظيم المسمى بالعربي والذى يسجل مرحلة شديدة الأهمية فى تاريخ العقل الإنساني. لقد غالينـا في أصالة بعض النقاط، خاصة ما يسمى بعلم الفلك ؛ ولا ينبغي الوقوع في التطرف العكسي عندما نبخسه قدره متجاوزين بذلك الحد.
لقد كان ابن رشد و ابن سينا والباطنى عربا، مثلما كان ألبير الأكبر، وروجيه بيكون، وفرنسيس بيكون، وسبينوزا، لاتينيين. ثمة أيضا سوء فهم كبير عندما نضيف العلم والفلسفة العربية لحساب الجزيرة العربية مثلما نضيف كل الآداب المسيحية للاتينية، وكل الأسكولائيات، وكل النهضة، وكل علم القرن السادس عشر وجزء من القرن السابع عشر لحساب مدينة روما، لأن كل هذا كان قد كتب باللاتينية. إن ما هو جدير بالملاحظة بالفعل هو أنه بين صفوف الفلاسفة والعلماء ممن يطلق عليهم عربا، واحد فقط هو الكندى من أصل عربي؛ بينما ينتمى الآخرون جميعهم إلى فارس، وما وراء النهر، وأسبانيا، وبخاري، وسمرقند، وقرطبة، وإشبيلية. ليس فقط لأنهم ليسوا عربا من ناحية الدم؛ ولكن لأنه ليس لديهم شيء عربي من جهة العقل. استخدموا اللغة العربية إلا أنها أعاقتهم مثلما أعاقت اللاتينية مفكرى العصور الوسطى فكسروها فى استعمالهم. فاللغة العربية وهى صالحة تمامًا للشعر، ولبعض من البلاغة، تعتبر أداة غير صالحة بالمرة للميتافيزيقا.
هذا العلم ليس بعربي، فهل هو على الأقل إسلامي؟ هل قدم الإسلام لهذه البحوث العقلية نجدة ما لحمايتها؟ عجبًا! على الإطلاق! فهذه الحركة المتقدمة للدراسات كانت كلها نتيجة عمل الفرس والمسيحيين واليهود، والحرانيين والإسماعيليين، والمسلمين المتمردين فى الداخل على دينهم. ولم تتلق تلك الحركة إلا اللعنات من المسلمين الأصوليين. فالمأمون وهو من الخلفاء الذين أبدوا جهـذا كبيرا في الانفتاح على الفلسفة اليونانية لعنه علماء الدين دون رحمة، كما اعتبروا أن المصائب التي أبتلى بها حكمه كانت عبارة عن عقاب أُحيق به لتسامحه، المذاهب الدخيلة على الإسلام. ولم يكن نادرا أن يقوم بحرق كتب الفلسفة وعلم الفلك في الميادين العامة، بل وأن يلقى بها فى الآبار والأحواض كسبا لرضا الجمهور الذي كان يثيره الأئمة. كان يُطلق على من يعمل بهذه الدراسات زنادقة؛ وكانوا يُضربون في الشوارع، وتحرق بيوتهم، وغالبًا ما كانت تلجأ السلطة إلى إعدامهم لكى ترضى الجمهور. مع في حقيقة الأمر إذن قام دائمًا الإسلام باضطهاد العلم والفلسفة. وانتهى بأن خنقهما.
وعلينا في هذا الشأن أن نميز بين عصرين في تاريخ الإسلام؛ يبدأ الأول منذ بداياته وحتى القرن الثاني عشر، ويبدأ العصر الثانى منذ القرن الثالث عشر وحتى أيامنا تلك. في العصر الأول لغمته الفرق الدينية وتم تخفيف غلوائه عن طريق نوع من البروتستانتية (وهو ما نسميه بمذهب المعتزلة). عندما كان الإسلام أقل تنظيما كان أقل تعصبا، وهو على عكس ما كان عليه في العصر الثاني، عندما وقع في أيدى جنسى التتار والبربر، وهى أجناس غلظة فظة جاهلة.
لم تجرح الحرية أبدًا بمثل هذا العمق الشديد إلا عن طريق تنظيم اجتماعي تحكمه الدوغما وتهيمن على حياته المدنية تماما. ولم نر فى العصور الحديثة سوى مثالين لنظام كهذا من جهة الدول الإسلامية، ومن جهة أخرى الدولة البابوية القديمة لعصر السلطة الزمنية. ولابد من القول أن البابوية الزمنية لم ترخ بظلها إلا على بلد صغير، بينما يسحق الإسلام نسبة واسعة من البلدان على كوكبنا متمسكا فيها بالفكرة الأكثر تعارضا للتقدم: فالدولة الإسلامية قد أسست على وحى مزعوم مما جعـل الـدوغما تحكــم والليبراليون الذين يدافعون عن الإسلام لا يعرفونه حق المعرفة. فالإسلام هو الوحدة غير المنفصلة بين الروحى والزمني، إنه حكم الدوغما، إنه السلسلة شديدة الغلظة التى لم تتقيد بها الإنسانية أبدًا من قبل.
في النصف الأول من العصور الوسطى، احتمل الإسلام الفلسفة لأنه لم يستطع منعها، حيث لم يكن متماسكا كما أنه كان قليل الجاهزية للإرهاب. كانت الشرطة فى أيدى المسيحيين وكان ما يشغلها بالدرجة الأولى هو ملاحقة مساعي العلويين (أبناء علي). إلا أنه عندما حاز الإسلام على فئات شديدة الاعتقاد خنق كل شيء. وأصبح الإرهاب الديني والرياء هما سيدا الموقف كان الإسلام ليبراليًا عندما كان ضعيفا، وعنيفا عندما كان قويًّا. علينا إذن ألا نمنحه الشرف على ما لم يستطع منعه. إن منح شرف الفلسفة والعلوم إلى الإسلام لأنه لم يلغهما، مثله مثل لو منحنا الشرف لرجال الدين على اكتشافات العلم الحديث. فهذه الاكتشافات تمت رغم أنف رجال الدين. فلم يكن اللاهوت الغربى أقل اضطهادا من نظيره الإسلامي. إنه فقط لـم ينجح، ولم يسحق العقل الحديث، كما سحق الإسلام العقل في البلدان التي فتحها.
إن الديانات لها عصورها المزدهرة، عندما تواسى وتكشف عن الأجزاء الضعيفة في إنسانيتنا البائسة؛ فلا ينبغى الامتنان لها على هذا الذى خُلق رغما عنها، ومــا حاولت هي أن تمنعه. فنحن لا نرث من نقتلهم؛ ولا ينبغى أبدًا أن نعمل على أن ينتفع المضطهدون بما قاموا به من اضطهاد وهذا ما نقوم به عندما نسند إلى تأثير الإسلام قيام حركة رغم أنف الإسلام، وضد الإسلام والإسلام، لحسن الحظ، لــم يستطع أن يمنعها. منح الشرف إلى إسلام ابن سينا، وابن زهر، وابن رشد كما لو كنــا سنمنح الشرف إلى كاثوليكية جاليليو.
والإسلام باعتباره دينا له جوانبه الجميلة، فأنا لم أدخل أبدًا مسجدًا دون تأثر عميق، أأقولها؟ دون بعض من الأسف على أنى لست بمسلم. إلا أنه بالنسبة للعقل الإنساني، فالإسلام لم يكن إلا ضارا. إن العقول التى أغلقها عن التنوير كانت من قبل دون شك مغلقة بفعل حدودها الداخلية، إلا أنه اضطهد الفكر الحر، لن أقول بعنف بالغ عن بعض الأنظمة الدينية الأخرى، ولكن بكفاءة بالغة. لقد جعـــل مـن البلدان التي فتحها مجالاً مغلقا أمام الثقافة العقلانية للعقل.
إن ما يميز المسلم في الواقع بشكل جوهرى هو كراهية العلم، إنه الاقتناع بأن البحث فيه لا جدوى منه، باطل، وكافر. فعلم الطبيعة لكونه منافسة الله، وعلم التاريخ لكونه ينطبق على عصور ما قبل الإسلام، فيمكنه إعادة إحياء الضلالات القديمة.
واحدة من الشهادات الأكثر عجبًا في هذا المجال هي شهادة الشيخ رفاعة الطهطاوي الذى أقام عدة سنوات في باريس كإمام في المدرسة المصرية، والذى بعد عودته لمصر كتب كتابًا مليئًا بالملاحظات شديدة العجـب عــن المجتمع الفرنسي. فكرته المحددة هى أن العلم الأوروبي، خاصة بمبدأه في استمرارية قوانين الطبيعة هو من جهة لأخرى بدعة ؛ ولابد من القول أنه لم يكن مخطنا تماما من وجهة نظر الإسلام فالدوغمائية المنزلة تظل دائما في تعارض مع البحث الحر.
رد السيد جمال الدين الأفغاني: يقول (سيدى، قرأت في جريدتكم الغراء يوم ۲۹ مارس الماضي مقالاً حول الإسلام والعلم كان قد ألقاه على شكل محاضرة بالسوربون أمام جمع متميز فيلسوف عصرنا الكبير، والشهير السيد رينان الذي طبقت شهرته الغرب كله، بل وغزت هذه الشهرة أبعد بلدان الشرق ؛ وبما أن هذا المقال قد أوحى إلى ببعض الملاحظات، فسمحت لنفسي بأن أصيغها في تلك الرسالة التي يشرفني بأن أتوجه بها إليكم آملاً أن تفسحوا لها مجالاً بأعمدة جريدتكم.
لم يسع السيد رينـــان قـط ولتصدقوني إلى هدم مجد العرب التليد بل التزم بالكشف عن الحقيقة التاريخية والتعريف بها لمن يجهلونها ممن يتعقبون آثار الديانات في تاريخ الأمم وخاصة تاريخ الحضارة. وأبادر إلى الاعتراف بأن السيد رينان قد أوفي بشكل رائع حــــق هذه المهمة شديدة الصعوبة عندما ذكر ببعض الأحداث التي مرت مرور الكرام إلى يومنا هذا. إننى أجد في مقالته ملاحظات رائعة ولمحات جديدة وسحر يعز عن الوصف.
اشتمل مقال السيد رينان على نقطتين رئيسيتين، انكب الفيلسوف اللامع على التدليل على أن الدين الإسلامي كان في جوهره ذاته معارضا لتقدم العلم، وأن الشعب العربي بطبيعته لا يحب العلوم الميتافيزيقية ولا الفلسفة.
إلا أنه وبعد قراءة هذا المقال لا يمكن أن يمنع المرء نفسه عن التساؤل إذا ما كانت هذه العقبات تأتى باعتبارها نتيجة فحسب للدين الإسلامي نفسه، أو من الطريقة التي انتشر بها في العالم، أى من سجية وأعراف، ومواهب الشعوب التي اعتنقت هذه الديانة، أو من سجية وأعراف ومواهب الأمم التي فرض عليها هذا الدين فرضا. لا شك أن قلة الوقت هي التي منعت السيد رينان من توضيح هذه النقاط: إلا أن الداء موجود مع ذلك، وإذا كان من الصعب تحديد الأسباب على نحو دقيق وبحجج غير قابلة للدحض، فإنه من الصعب أيضا الإشارة إلى الدواء.
فيما يتصل بالنقطة الأولى فسأقول إنه ليست هناك أمة في منشأها بقــــادرة على الانقياد بالعقل المحض. مهمومة بالذعر الذي لا يمكنها التملص منه، غير قادرة على تمييز الخير من الشر، أو معرفة ما يمكن أن يعمل على سعادتها من هذا الذي يمكن أن يكون المنبع الذي لا ينضب لتعاستها ونكباتها. وباختصار فهى عاجزة عن العودة إلى الأسباب وتبين النتائج. هذه الثغرة تجعلنا عاجزين عن اقتيادها سواء بالقوة أو بالإقناع لممارسة الأعمال المفيدة لها أو عن صدها عن الأعمال الضارة بها. كان إذن على الإنسانية أن تبحث خارج ذاتها عن ملاذ، عن ركن آمن حيث يستطيع ضميرها المعذب أن يجد راحته، وعندئذ ظهر معلم ما – وأقول بصوت عال - ليس لديه القدرة الضرورية لكي يرغمها على أتباع صوت العقل، فألقى بها في المجهول وفتح لها الآفاق العريضة حيث يرخى الخيال لنفسه العنان، وحيث عثرت إن لم يكن على التلبية الكاملة لرغباتها، فعلى الأقل على مجـال لا محدود لآمالها. وبما أن الإنسانية في منشأها كانت تجهل أسباب الأحداث التي كانت تمــــر أمام عينيها، وأسرار الكائنات، وهكذا وجدت نفسها منقادة لاتباع نصائح مربيها وأوامرهم التي كانوا يأمرونها بها. فرضت هذه الطاعة عليها باسم الكائن الأعلى الذي يعزو إليه مربوها كل الأحداث دون السماح لها بمناقشة منافعها وأضرارها.
دون شك أعرف أن ذلك مثل بالنسبة للإنسان نير شديد الوطأة، والإذلال، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أنه بهذا التعليم الديني سواء كان إسلاميا أو مسيحيًّا أو وثنيا خرجت كل الأمم من حالة البربرية واتجهت نحو الحضارة المتقدمة.
إذا كان صحيحا أن الدين الإسلامي عقبة في وجه تطور العلوم، فهل يمكننا القول بأن هذه العقبة لن تختفى ذات يوم؟ وفى ماذا تختلف الديانة الإسلامية في هذه النقطة عن الأديان الأخرى؟ فكل الأديان،متعصبة، كل منها على طريقته.
الديانة المسيحية، أقصد المجتمع الذى اتبع إرشاداتها وتعاليمها والذي شكلها على صورته، خرج من العصر الأول الذى ألمحت إليه توا: ومنذ ذلك الحين بات حرا مستقلاً، ويبدو يتقدم بسرعة على طريق التقدم والعلوم بينما لم يتحرر المجتمع الإسلامي بعد من وصاية الدين. بيد أني وأنا أعى أن الديانة المسيحية قد سبقت الديانة الإسلامية بعدة قرون، فلا يسعني إلا أن أمل في أن يصل المجتمع المحمدى ذات يوم إلى أن يحطم قيوده ويتقدم بتصميم على طريق الحضارة على غرار المجتمع الغربى والذى لم تكن لديه العقيدة المسيحية بالرغم من تزمتها وتعصبها عقبة لا تقهر ولا أستطيع التسليم بأن هذا الأمل بعيد المنال بالنسبة للإسلام.
وأدافع هنا لدى السيد رينان بأنه ليس بسبب الدين الإسلامي ولكن بسبب عديد المئات من ملايين الرجال الذين حكم عليهم بالعيش في البربرية والجهل.
في الحقيقة، فقد حاولت الديانة الإسلامية خنق العلم وإيقاف التقدم. كذلك قـــد نجحت في عرقلة الحركة الفكرية أو الفلسفية وفي تحويل العقول من البحث في الحقيقة العلمية. نفس المحاولة إن لم أخطئ كانت قد قامت بها الديانة المسيحية، وما زال الرؤساء الأجلاء للكنيسة الكاثوليكية على حد علمى لم يردعوا بعـد عـن ذلك. فمازالوا يناضلون بصرامة ضد ما يدعونه روح الضلال والتضليل.
أعرف كل الصعوبات التي على المسلمين أن يتخطوها لكي يصلوا لنفس الدرجــة مــن الحضارة، نظرًا لأن المدخل إلى الحقيقة بفضل المناهج الفلسفية والعلمية قد سُدَّ دونهم، على المؤمن الحقيقى بالفعل الانصراف إلى طريق الدراسات العلمية، التي تتبعها جميع الحقائق، تبعًا لرأى يتفق عليه البعض على الأقل في أوروبا. وهو مشدود إلى عقيدته التي استرقته كالثور إلى المحراث، أن يمشى أبدا في نفس الخط الذي رسمه له سلفًا شراح الشريعة. وقد اقتنع فضلا عن ذلك بأن دينه يشتمل على كل الأخلاق وكل العلوم، فيرتبط به بتصميم ولا يقوم بأقل جهد للذهاب لأبعد من ذلك. لماذا يهدر جهوده في مثل هذه المحاولات الفاشلة؟ ما يجديه الحقيقة طالما يعتقد أنه يمتلكها كاملة؟ ترى هل سيكون سعيدا فى اليوم الذى بتخلى فيه عن إيمانه، في اليوم الذى سيتوقف فيه عن الإيمان بأن كل الكمالات توجد في الدين الذي يمارسه وليس فــــي دين آخر! عندئذ يحتقر العلم.
أعرف كل هذا، إلا أنى أعرف أيضا أن هذا الطفل المسلم والعربي الذي يرسم السيد رينان لكم صورته بتعبيرات صارمة وهو الذى سيغدو في عمر أكثر تقدما متعصبا" مفعما بعزة بلهاء أوقعت في روعه ما ظنه الحقيقة المطلقة، ينتمى لجنس قد رسم طريقه في العالم، ليس فحسب بالنار والدم، بل أيضا بأعمال باهرة وخصبة تبرهن على ميله للعلم، ولكل العلوم، بمــــا فيها الفلسفية، والحق يقال بأنه لم يستطع أن يتعايش معها طويلاً.
مع ذلك، فالتساؤل مسموح حول: كيف أن الحضارة العربية، بعد أن ألقت وهجا حيًا كهذا على العالم، انطفأت فجأة، وكيف أن هذه الشعلة لم يُعاد إضاءتها منذ ذلك الحين، ولماذا يبقى العالم العربي دائمًا قابعًا في هذه الظلمات الحالكة. تبدو مسئولية العقيدة الإسلامية هنا مسئولية كاملة إنه لمن الواضح أنه فــــي أي مكان استقرت فيه هذه العقيدة حاولت خنق العلوم واستخدمت بشكل رائع فـــي مقاصدها عن طريق الاستبداد. ويحكى السيوطى أن الخليفة الهادى قد أباد في بغداد خمسة آلاف من الفلاسفة حتى يصل لهدم مبدأ العلوم في البلدان الإسلامية. ومع افتراض أن هـذا المؤرخ قد بالغ فى عدد الضحايا، فلن يبقى مؤكدًا على الأقل من هذا سوى أن هذا الاضطهاد قد وقع، ويا لها من مهمة دموية لتاريخ ديانة ما مثلما هي لتاريخ شعب. سيمكنني أن أجد في ماضي الديانة المسيحية وقائع مماثلة فالديانات من بعض مــا أشرنا إليه، تتشابه جميعها فلا يمكن أن يكون هناك اتفاق أو مصالحة بين هذه الأديان والفلسفة. إذ يفرض الدين عقيدته وإيمانه على الإنسان، بينما تعمل الفلسفة على أن يتجاوز ذلك كله أو بعضه. فكيف نريد بعدئذ أن يتفاهما فيما بينهما؟
كل إيمان يكون خلفه الدين سوف يمحو الفلسفة؛ ويحدث العكس عندما تحكم الفلسفة وتكون السيدة الحاكمة. ومتى وجدت الإنسانية فإن الصراع لن يتوقف بين المبـدأ الدوغمائي والاختيار الحر، بين الدين والفلسفة، صراع ضارى أخشى منه، فالانتصار لـن يكون للفكر الحر، لأن العقل يزعج الجمهور، ولأن تعاليمه لا يفهمها سوى قلة أذكياء الخاصة.
مناظرة الإسلام والعلم، ص 34-62 باختصار.
انتهى كلام السيد جمال الدين الأفغاني، وهو كلام قيم خطير يدل على أن الرجل قد فهم وأدرك سر الإنحطاط والتقدم. ولو تذكرنا عبارة الشيخ محمد عبده وجمعناها معه، وهي قوله أن هذا الرد لا يصلح أن يُعرض للعامة، فإننا ندرك هنا أن كليهما اكتشفا السر أو الحقيقة، ولكن لم يكن بوسعهما الجهر بها بين عموم الناس. وإن كان هناك من شيء أقوله أمام هاتين القامتين، فإني أقول أنهما كانا من الرجال العظام بحق، لأنهما استطاعا أن يتحررا من ثقل وهيمنة التراث على رجل الدين، وهذا التحرر يحدث بنسب متفاوتة بين رجل وآخر، وأما أن يصل رجل دين إلى هذه الحقيقة دون أن يفقد إيمانه بالله، فهذه هي العظمة التي تمتع بها فلاسفة عصر الأنوار في أوروبا، وكانوا يعتقدون بوحدة الوجود المثالية الروحية التي ترى الله متجلياً في العالم مع إثبات وجود أصيل متعال على الطبيعة والإنسان. وقد وجدت كلاماً للشيخان الأفغاني ومحمد عبده في الأعمال الكاملة للشيخ جمال الدين الأفغاني، يقولان فيه بوحدة الوجود المثالية تلك، وسوف أعرضه بكماله في الفصل المخصص لوحدة الوجود.
بقي أن أقول أنني كنت قرأت كلاماً للسيد جمال الدين الأفغاني في رسالة "الرد على الدهريين" يحط فيه على فولتير وروسو، ويصفهما بالملحدَيْن والدهريين، لأنهما أخرجا الفرنسيين عن المسيحية، وهو ما يتعارض مع كلامه هنا.. وهذا ليس له تفسير عندي إلا أنه ألف كتابه في الرد على الدهريين في أول حياته، ثم كتب رده على رينان في كبر سنه بعدما اتسع علمه واكتسب من المعرفة الموسوعية، غير المقتصرة على المباحث الدينية، واطلع على تاريخ الصراع بين العلم والدين في أوروبا، بما أهله أن يقول هذا الكلام القيم الرائع.
تحية إجلال للسيد جمال الدين الأفغاني.

سر العداء بين الدين والفلسفة
سوف ألخص هنا كلاماً ثميناً وقفت عليه للدكتور فؤاد زكريا، حول هذا الموضوع، وحول أهمية الفلسفة في حياتنا المعاصرة، في ظل سيطرة الفكر السلفي على الناس، يقول:
لو تأمَّلنا نوع المشكلات التي كانت الفلسفة تعالجها خلال أهمِّ فترات تاريخها، وقارنَّاه بالموضوعات الرئيسية للعقيدة الدينية، لبَدَا لنا أنَّ الخلاف الطويل الأمد بين الفلسفة والدين لم يكُن له داعٍ على الإطلاق؛ ذلك لأنَّ الفلسفة ظلَّت تُبدي اهتمامًا أساسيًّا بالبحث في أصل الكون ونشأته، والغاية التي يتجه إليها، وفي مركز الإنسان أو موقعه من العالم، وفي الحياة الأخلاقية وسُبُل تحقيقها، وفي مركز الإنسان ومآله، وهل سيفنى بعد الموت أم يبقى. وهذه المشكلات تُكوِّن في الوقت ذاته محور العقيدة (في الأديان السماوية على الأقل). ومن ثَم فإنَّ ميدان اهتمام الفلسفة، في صورتها التقليدية على الأقل، لم يكُن يختلف كثيرًا عن ميدان اهتمام الدين. وهنا يحقُّ للمرء أن يتساءل: لماذا إذَن كان هذا التاريخ الطويل من العداء وفقدان الثقة بين الطرفَين؟ ولماذا ظلَّ الاعتقاد راسخًا لدى الكثيرين بأنَّ بين الفلسفة والدين منافسةً لا ترحم، وبأنَّ عقل الإنسان أو روحه لا يتسع للاثنين معًا، فإمَّا أحدهما وإمَّا الآخر؟
إنَّ قصة العلاقة بين الفلسفة والدين قصة طويلة شديدة التعقيد، لم يكُن المسار فيها واضحًا مستقيمًا، بل كان يسير في معظم الأحيان في خطوط شديدة التعرُّج والالتواء. وليس من مهمَّتنا في هذا البحث أن نتتبع هذه العلاقة في تفصيلاتها المُعقَّدة، وإنَّما يكفينا أن نشير إلى أنَّ السبب الأكبر للتعارض بين الفلسفة والدين، طوال تاريخ الحضارة الإنسانية، لم يكُن نوع الأفكار التي ينادي بها كلا الطرفَين، وإنَّما طريقة التفكير لدى كلٍّ منهما. إنَّ الخلاف بين الفلسفة والدين لم يكُن في الأساس خلافًا في المحتوى أو المضمون، بل كان خلافًا في المنهج. ويتلخَّص هذا الخلاف في أنَّ منهج التفكير الفلسفي نقدي، على حين أنَّ منهج التفكير الديني إيماني. إنَّ الفلسفة تناقش كافة المسلَّمات، ولا تعترف إلَّا بما يصمد لاختبار المنطق الدقيق، على حين أنَّ مبدأ «التسليم» ذاته أساسي في الإيمان الديني، وأقصى غايات ذلك الإيمان هي أن يؤدِّي بالمرء إلى قبول المُعتقَد بلا مناقشة، بل بغير أن تطرأ على باله أصلًا فكرة المناقشة وعلى حين أنَّ التناقض هو المعيار الأول للرفض في الفلسفة، فإنَّ الإيمان الديني لا يبحث أصلًا عن التناقض، بل يصل الأمر ببعض اللاهوتيين إلى حدِّ القول إنَّ المرء يؤمن لأنَّ ما يؤمن به ممتنع ومتناقض، ويرى في قبول المتناقص والممتنع أبلغ دليل على رسوخ الإيمان.
إنَّ المنهج الفلسفي يسير في طريق التشكيك والتدقيق إلى نهايته، بينما الإيمان يرتكز على القبول والتصديق. بل إنَّ اللفظ المُعبِّر عن الإيمان هو نفسه المُعبِّر عن التصديق في كثير من اللغات (الإنجليزية belief، والفرنسية Croyance، والألمانية Glaube … إلخ). وإذا كان بعض المُفكرين قد سعَوا إلى دعم الإيمان ومعتقداته الأساسية (كوجود الله وخلود النفس وخلق العالم … إلخ) على أساس براهين عقلية ومنطقية، فإنَّ هؤلاء كانوا، في هذه المسألة بالذات، أقرب إلى الفلاسفة منهم إلى رجال الدين، فضلًا عن ذلك فإنَّ أمثال هذه البراهين لم تكُن، في الأغلب، تسير في الطريق العقلي من بدايتها إلى نهايتها، بل كانت بدَورها ترتكز في مراحلها الحاسمة، على قبول مسلَّمات دينية مُعيَّنة، ثم تُكمِل هذه المسلَّمات بالاستدلال العقلي. وهكذا فإنَّ الأُسس الأولى للحوار بين الفلسفة والدين لا ترتكز على أرض صلبة؛ ذلك لأنَّ الفيلسوف يريد أن يناقش كل شيء. على حين أنَّ رجل الدين، حتى لو اعترف بمبدأ المناقشة، لا يسمح بهذه المناقشة إلا في حدود مُعيَّنة، ويرفض أن تمتدَّ حتى تشمل المعتقدات الأساسية. وحين يصرُّ الفيلسوف على أن يُخضِع كل المعتقدات لاختبار العقل، فهو في كثير من الأحيان لا يفعل ذلك لأنَّه يسعى إلى هدمها، وإنَّما هو يتمسك بمنهجه الخاص بطريقة مُنسَّقة فحسب، ولو وصلَت هذه المناقشة إلى دعم تلك المعتقدات الدينية فلن يعترض على ذلك، وكل ما في الأمر أنَّه سيكون عندئذٍ قد وصل إلى هذه المعتقدات لأنَّه «اقتنع» بها، لا لأنَّه «سلَّم بها».
ومن جهة أخرى فإنَّ رجل الدين حين يصرُّ على أنَّ المنطق لا مكان له في عقيدته، فإنَّه لا يفعل ذلك كراهيةً في المنطق، بل إنَّه قد يقبل المنطق والتفكير المنطقي، ويطبِّقهما في مجالات أخرى عديدة غير المجال الديني، وكل ما في الأمر أنَّه يتمسك بالمعنى الأصلي للإيمان من حيث هو تسليم وتصديق لا مجال فيه للتدقيق أو التحقيق. وتترتَّب على هذا الاختلاف نتائج أساسية تشير إلى فوارق هامة بين المجالين؛ فالفلسفة (فيما عدَا استثناءات قليلة) تُغلِّب جانب العقل، على حين أنَّ الدين يُغلِّب جانب العاطفة والشعور الوجداني. والفلسفة إنسانية المصدر، بينما الدين (في حالة العقائد السماوية على الأقل) وحي إلهي. ولعلَّ أهمَّ هذه النتائج جميعًا هو أنَّ الدين يقوم على أساس فكرة الحقيقة الواحدة المطلقة. فمُعتنقُو كل عقيدة دينية يؤمنون بأنَّهم هم الذين يملكون «الحقيقة». وحتى لو اعترفوا بالعقائد الأخرى، فإنَّهم يرَون فيها مجرَّد تمهيد لعقيدتهم، كان ينبغي أن يختفي وينتهي دَوره في اللحظة التي تظهر فيها «الحقيقة» في صورتها النهائية المكتملة. أيْ إنَّ أقصى ما تفعله العقيدة المتسامحة هو أن تَعُدَّ غيرها من العقائد صورةً ناقصةً للوحي الذي اكتمل فيها هي، أمَّا في بقية الحالات فإنَّنا لا نجد إلا إنكارًا تامًّا للعقائد الأخرى، وتأكيدًا بأنَّ كل ما عداها هو عقائد «دخيلة» زيفَت بشكل أو بآخر.

الحوار بين الدين والفلسفة
يقول د. فؤاد زكريا: هل هناك حوار حقيقي بين الدين والفلسفة في مجتمعنا المعاصر؟ في رأيي أنَّ الشروط الأساسية لهذا الحوار غير قائمة، ومن ثَم فإنَّ الوصف الأصدق للعلاقة بين هذين الطرفَين - في ظلِّ أوضاعنا الفكرية والاجتماعية السائدة - هو «المواجهة» وليس الحوار. إنَّ الشرط الأول للحوار هو أن يقوم بين طرفَيه نوعٌ من التكافؤ في الفرص على الأقل، ولكن هذا الشرط مُفتقَد في حالة الفلسفة والدين. فالفلسفة تفترض مقدَّمًا تعدُّد الآراء، وتَقبَل الرأي الآخر وتناقشه وتنقده، وترى في ذلك إثراءً لها. أمَّا الدين فإنَّ ارتكازه على فكرة الحقيقة المطلقة يؤدِّي به إلى أن يرى في الرأي الآخر مروقًا وزندقة، أو بدعةً على أقلِّ تقدير.
إنَّ مناقشة الأُسس والمبادئ الأولى جوهرية في الفلسفة، وهي مصدر غناها الفكري، على حين أنَّ هذه المناقشة مستحيلة في الدين، إذ إنَّ ما يمكن أن يُناقَش فيه ليس إلَّا الفروع لا الأصول. وحتى الفروع قد لا تُقبل مناقشتُها في عصور التزمُّت والانغلاق الفكري. وهكذا فإنَّ معارضة أيَّة نظرية فلسفية هي تعميق لها، على حين أنَّ معارضة عقيدة أساسية قد يُعَدُّ «كفرًا». ومن ثَم تُمنع ممارسة هذه المعارضة بكافة ضروب التحريم المعنوي، والتجريم المادي.
وإذا كانت أوروبا في القرون الوسطى قد مارست هذا الحظر بكل قسوة، ووسَّعَت نطاق التحريم والتجريم، بحيث اشتمل على أبسط خروج عن الخطِّ الرسمي للكنيسة، فإنَّ مجتمعنا العربي المعاصر لا يعدم أمثلةً قريبة الشَّبه بهذه، يمارس بعضها بسُلطة الدولة الرسمية، والبعض الآخر عن طريق جماعات مُنشقَّة عن الدولة، تحكم بسهولة بتكفير مَن لا يتفق معها في تفسيرها الخاص للدين، ومن ثَم تُحِلُّ دمه. وليست هذه بالطبع هي الصورة الكاملة، ولكن وجود مثل هذه الحالات المتطرفة هو وحده كافٍ لإفقاد الحوار شرطه الأساسي، وأعني به التكافؤ. فماذا يكون شكل الحوار بين الفلسفة والدين، في ظلِّ أوضاع كهذه؟ لقد أدَّت هذه الأوضاع إلى عجز الفلسفة عن مناقشة المسائل الدينية بطريقتها الخاصة، وعلى أرضها هي. فهي لا تستطيع أن تنظر إلى هذه المسائل على أنَّها تؤلِّف نسقًا فكريًّا قابلًا للنقد، سواء في أُسسه الأولى أم في نتائجه.
إنَّ المرحلة المعاصرة للعلاقة بين الدين والفلسفة، تتسم بسمة ينبغي ألَّا يتجاهلها أيُّ باحث علمي نزيه لهذا الموضوع، وأعني بها عنصر الخوف. فقد تدهور مستوى التسامح الفكري في عالمنا العربي، خلال القرن الأخير، تدهورًا ملحوظًا، وهبط الخطُّ البياني لحرية الفكر هبوطًا حادًّا، في السنوات الأخيرة بوجه خاص، وأصبحَت كثير من الموضوعات التي كانت تُناقَش بسماحة وسعة أفق في أوائل هذا القرن، بل في القرون الأولى للعصر الإسلامي؛ أصبحَت من الممنوعات والمحظورات، وتحوَّل هذا القرن، الذي اصطلحنا على أن نُسمِّيَه بعصر النهضة العربية؛ تحوَّل إلى عصر كبوة وارتداد وتخلُّف شديد.
وإن كنت أستطيع أن أقول بوجه عام إنَّ التسلط السياسي والاستبداد في الحكم في العقود الماضية، كان من الضروري أن ينعكس على فكرنا في صورة خضوع متزايد للسُّلطة العقلية والروحية، وانكماش متزايد لقدرتنا على النقد والمعارضة الفكرية، يوازي بالضبط اختفاء المعارضة السياسية من حياتنا.
وعلى أيَّة حال فإنَّ فكرة السُّلطة هذه تنعكس على حياتنا الفكرية بصورة واضحة، إذ نجد في العقود الأخيرة اتجاهًا متزيِّدًا إلى الاستشهاد بالنصوص من أجل حسم أيَّة مشكلة فكرية. ومن الواضح أنَّ منهج الاستشهاد بالنصوص يعكس في داخله اتجاهًا إلى التخويف، ومن ثَم فإنه هو نفسه - في جانب من جوانبه - يُمثِّل نوعًا خاصًّا من ممارسة الإرهاب؛ إذ إنَّ الفكرة الكامنة من ورائه هي: «هذا ما يقوله النص، فإمَّا أن تقبله كما هو، وتقبل بالتالي وجهة نظرنا، وإمَّا أن تتحدى النَّص إن كنت تملك الشجاعة، وعليك بعد ذلك أن تتحمل العواقب!» وغنيٌّ عن البيان أنَّ هذا ليس على الإطلاق أسلوب حوار يستطيع الفكر الفلسفي أن يشارك فيه، لأنَّ عملية التحريف الكامنة من ورائه تمنع هذا الفكر، منذ البداية، من ممارسة فاعليته. فما الذي يفعله الفكر لكي يتخلَّص من موقف كهذا؟ إنَّه يتحايل على هذا الموقف بأن يلجأ، هو بدَوره، إلى الاستشهاد بالنصوص لتأييد وجهة نظره الخاصة، أيْ إنَّه يصبح طرفًا فيما أُحبُّ أن أطلق عليه اسم «لعبة النصوص». فإذا كان هناك مَن يستشهدون بالنصوص من أجل تأييد وجهة نظر مضادَّة للفكر الفلسفي ومؤكِّدة للسُّلطة القطعية الجازمة، فلماذا لا يستشهد أهل الفلسفة بالنصوص أيضًا لكي يؤيِّدوا وجهة النظر المتسامحة، الواسعة الأفق؟ وبطبيعة الحال فإنَّ في النصوص متسعًا لشتَّى الآراء المتعارضة، وذلك إذا عملنا حسابًا للاختلاف الهائل في السياقات التي وردَت فيها هذه النصوص، وإذا استخدمنا براعتنا في تأويلها بالطريقة التي تدعم وجهة نظرنا. وهكذا تستطيع، بانتزاع النَّص من سياقه، وباستخدام التعدُّد الهائل للنصوص، وبالالتجاء إلى ذكائك في التأويل، أن تستخلص من النصوص تأييدًا لأيَّة وجهة نظر تشاء. والمهمُّ في الأمر أنَّ الفكر الفلسفي، حين يجد نفسه مضطرًّا إلى التخلِّي عن طريقته الخاصة في البحث، وأعني بها طريقة مناقشة المُسلَّمات، مهما كانت أساسية، يلجأ إلى ممارسة فاعليته بشروط الطرف الآخر، وعلى أرض الطرف الآخر، فلا يعود مرتكزًا على المنطق الداخلي لحُجَجه العقلية، وإنَّما يجادل في المسائل الدينية من داخل النصوص الدينية ذاتها، مع تأويلها عقليًّا (كما كان يفعل ابن رشد مثلًا منذ قرون عديدة) على النحو الذي يدعم وجهة نظره.
ومع الاعتراف بأنَّ هذا الأسلوب قد يكون هو الوسيلة الوحيدة المتاحة في ظروف كهذه للاحتفاظ بقدْر من الاستنارة العقلية وسط موجات جارفة من التيارات التي تهدف إلى إلغاء العقل والاعتماد المطلق على التقليد والاتباع، فلا بدَّ لنا أن نشير إلى أنَّ هذه الطريقة في المعالجة يشوبها، من وجهة النظر الفلسفية الخالصة، عيبان أساسيان:
أولهما: أنَّ الفكر الفلسفي حين يلجأ إلى المواجهة من خلال النَّص يكون قد اعترف بأنَّه ألقى سلاح العقل والمنطق؛ أعني أنَّه اتخذ موقف المهزوم الذي سلَّم مقدَّمًا بأنَّه خسر أهمَّ أرض يرتكز عليها، فهو حين يفترض أنَّ النَّص لا يقبل المناقشة، وحين يدعم موقفه الخاص من خلال نصوص يواجه بها تلك النصوص الأخرى التي يلجأ إليها الطرف الآخر، يكون قد سلَّم مقدَّمًا بأنَّ النَّص هو المرجع غير القابل للمناقشة العقلية، وهو الذي يُمثِّل حقيقةً مطلقةً تتجاوز المنطق والعقل، وهو تسليم ينطوي ضمنًا على اعتراف بأنَّ العقل النقدي قد توقَّف عن ممارسة عمله.
العيب الثاني: الذي يرتبط بالأول ويترتَّب عليه، فهو أنَّ هناك تناقضًا داخليًّا في المحاولة ذاتها؛ أعنى في أن تلجأ إلى سُلطة النَّص لكي تستخلص منها موقفًا عقلانيًّا يسمح بالمناقشة المنطقية المفتوحة؛ ذلك لأنَّ هذه المناقشة المنطقية، إذا شاءت أن تكون متسقةً مع ذاتها، ينبغي أن تكون (من الوجهة النظرية على الأقل) قادرةً على التصدِّي للنصِّ ذاته، بحيث لا تكون هناك حدود لقدرتها على النقد والتقويم. ومن هنا فإن المرء لا يستطيع منطقيًّا أن يتخذ في آنٍ واحد موقف الاعتراف بسُلطة مطلقة، ويحاول استخلاص موقف نقدي عقلاني من داخل هذه السُّلطة. فالتناقض واضح؛ لأنَّ السُّلطة نقيض العقل النقدي، واستخلاص أحد الطرفَين من الآخر ممتنع عقليًّا.
واستكمالًا لهذه المناقشة النظرية، نستطيع أن نقول إنَّ من الممكن تصوُّر مواقف أخرى، مغايرة تمامًا، تتخذها الفلسفة إزاء النَّص الديني، وهي مواقف اتخذَتها الفلسفة بالفعل في بعض مراحل الحضارة الغربية، ويكفينا أن نشير إليها بوصفها ممكناتٍ نظريةً فحسب، بغضِّ النظر عن كونها مقبولةً أو غير مقبولةٍ في مجتمعنا:
(أ) ففي كثير من الفلسفات الدينية الغربية التي بدأت مع حركة النقد التاريخي للنصوص، كان يُنظر إلى النَّص الديني على أنَّه نسبي زمنيًّا، أيْ على أنَّه موجَّه إلى عصر مُعيَّن. كما أصبحَت فكرة النسبية تسري على النطاق الذي ينطبق عليه النَّص الديني، فيُقال إنَّ مهمَّته هي الإرشاد الأخلاقي والمعنوي للإنسان، ومن ثَم فإنَّه يُقدِّم توجيهاتٍ ومبادئَ إنسانيةً عامة، أمَّا التفاصيل المتعلقة بالشئون الدنيوية فتُترك لعقل الإنسان وتجربته.
(ب) بل إنَّ بعض الفلسفات الغربية (أوجست كونت مثلًا) ذهبَت أبعد من ذلك، فنظرَت إلى المرحلة الدينية بأَسرها على أنَّها مرحلة أولية من مراحل الفكر البشري، ومن ثَم فلا بدَّ من تجاوزها. وبالفعل فإنَّ عصر العلم يتجاوز هذه المرحلة بحيث لا تعود لها أهمية إلَّا من حيث أنها تُمثِّل مرحلةً تاريخيةً غابرةً فحسب.
هاتان، كما قُلت، حالتان ممكنتان نظريًّا، وهما تُمثِّلان موقفًا للفلسفة إزاء سُلطة النَّص الديني يختلف كل الاختلاف عن ذلك الذي يتخذه الفكر العربي المعاصر من هذه المسألة.
وهكذا فإنَّ الشكل الذي تتخذه العلاقة بين الفلسفة والدين، في مجتمعنا الحالي، لا تُمليه الاعتبارات العقلية وحدها، بل إنَّ هناك عناصر أخرى تتدخَّل في تحديد شكل هذه العلاقة، أهمُّها — إذا شئنا أن نطلق على الظواهر أسماءها الصحيحة — الخوف، الذي يُضفي على الحوار سماته الخاصة المميزة، فأحد الطرفَين، وهو الفلسفة، لا يستطيع أبدًا أن يمضيَ في ممارسة عمله إلى المدى الذي وصلَت إليه الفلسفة في المجتمعات التي تحرَّرَت من الخوف منذ أمد بعيد، ومن ثَم يظلُّ جهده في هذا الميدان محدودًا، وتظلُّ مناقشاته ملتويةً غير مباشرة، بل يمكن القول إنَّ دخول الفكر الفلسفي العربي المعاصر في «لعبة النصوص» — وهو أمر أصبح عظيم الشيوع في هذه الأيام — هو ذاته أوضح مظاهر الخوف في الفكر الفلسفي. وبعبارة أخرى، فحتى لو جاز لنا أن نطلق اسم «الحوار» على المناقشات الفكرية للمسائل الدينية في مجتمعنا المعاصر، فلا بدَّ أن تكون على وعي بأنَّ هذا حوار يستطيع فيه أحد الطرفين، وهو الطرف الديني، أن يُعبِّر عن وجهة نظره كما يشاء، على حين أنَّ الطرف الآخر مغلول بألف قيد وقيد، ووجود هذه القيود يفرض عليه أن يلجأ أحيانًا إلى التحايل والالتفاف حول أهدافه بطُرق غير مباشرة، بل قد يرغمه على اللجوء إلى الخداع.
إنَّ العامل الديني هو الذي يُحدِّد موقف الكثيرين إزاء المذاهب الفلسفية المختلفة، بحيث لا يُصدِرون حُكمهم على هذه المذاهب تبعًا لمنطقها الداخلي، بقدْر ما يُخضِعونه لاعتبارات إيمانية وأخلاقية قد لا تكون لها في الواقع صلة حقيقية بتلك المذاهب. وهذا يُمثِّل الموقف العكسي بالقياس إلى ما رأيناه في الفكر الأوروبي الحديث، الذي يكون فيه الموقف الفلسفي هو المتحكِّم في تشكيل كثير من المفاهيم الدينية وتحديد طبيعتها.

تحليل مظاهر الاختلاف بين الفلسفة والدين
يقول د. زكريا:
أولًا: لا شكَّ أنَّ التضاد بين الفكر الفلسفي والفكر الديني في مجتمعنا المعاصر يظهر بأوضح صوره في موقف كلٍّ منهما من المنهج العلمي الذي يسير وفق منطق صارم دقيق. فالفلسفة لا تُشكِّك في هذا المنهج العلمي، بل إنَّها تقبله وتعمل على تحليله وكشف أُسسه النظرية، بل إنَّها ربما أسهمَت بإضافات هامة تساعد العلماء أنفسهم على إدراك الطريق الذي يسلكونه بوضوح، أمَّا التيارات الدينية المعاصرة فإنَّ قِلَّة منها هي تلك التي تتقبَّل هذا المنهج، وأغلب هذه التيارات يتخذ موقفًا قَلِقًا من أساليب التفكير العلمي، يهدف في نهاية الأمر إلى إثبات أنَّ علم الإنسان قليل، مهما اتسع، وعقله هشٌّ هزيل، مهما اكتشف واخترع، ومن ثَم فإنَّ الوحي — الذي يضعونه في مقابل الاستدلال العقلي والعلمي، هو المصدر الحقيقي للمعرفة.
هذا الهجوم على العلم وعلى المنهج العلمي، يتخذ أشكالًا متعددة:
(أ)التشكيك في مبدأ التفكير المنطقي ذاته، وهو المبدأ الذي يرتكز عليه كل منهج علمي، على أساس أنَّه يؤدِّي إلى زعزعة العقيدة الدينية وتخلخُل الإيمان. وهنا نجد أنَّ هذا الهجوم ليس إلا إحياءً للشعار القديم المشهور «مَن تَمَنطَق تَزندَق». فما هو بالضبط المضمون الذي ينطوي عليه هذا الشعار؟ ينبغي أن نُلاحظ أنَّ هذا الشعار لا يتحدث في الواقع عن محتويَين فكريَّين، هما المنطق والزندقة، يؤدِّي أحدهما إلى الآخر؛ ذلك لأنَّ المنطق، وعمليات التفكير المنطقي التي ينطوي عليها كل استدلال علمي، والتي يُعبِّر عنها لفظ «تَمنطَق»، ليس مجموعةً من التعاليم والنظريات التي تُقال بشأن العالِم والإنسان … إلخ، وإنَّما المنطق — كما أدرك العقل الإنساني منذ القِدَم — أداة، أو طريقة مُعيَّنة في التفكير، أساسها الحُجَّة العقلية والاستدلال السليم الذي يُفضي إلى الإقناع. وهكذا فإنَّ ما يؤدِّي إلى الزندقة، وفقًا لهذا الشعار، ليس مجموعةً من الآراء أو النظريات التي ينادي بها أهل الفلسفة أو العلم، الذين يستخدمون المنطق، وإنَّما هو «منهج» التفكير العقلي المنطقي الذي يسيرون وفقًا له. فالشعار يقول في الواقع إنَّكَ إذا استخدمتَ عقلكَ وفكَّرتَ تفكيرًا منطقيًّا متماسكًا، أوصلكَ هذا إلى الزندقة.
وغنيٌّ عن البيان أنَّ الشعار، بصورته هذه، لا يخدم قضية القائلين به على الإطلاق، ففي الوقت الذي يهدفون فيه إلى الدفاع عن الدين، تراهم يصوِّرون الدين وكأنَّه يهتزُّ ويضعُف بمجرَّد أن يبدأ المرء في استخدام عقله والاستدلال على النتائج من المقدِّمات بطريقة مُتَّسقة متماسكة. وهم الذين يجعلون بناء الدين هشًّا إلى حدٍّ أنَّه لا يستمدُّ قوته وسيطرته على النفوس إلَّا من ابتعاد العقل عنه، ووقوف التفكير المنطقي بمعزل عن حصن الإيمان المتين، أمَّا لو اقترب العقل من الوحي أو حاول التفكير المنطقي مهاجمة قلعة الإيمان، فإنَّها سرعان ما تستسلم. هذا إذَن موقف يضرُّ بقضية الإيمان إضرارًا بالغًا، وهو يتعارض بالطبع - كما لاحظ الكثيرون - مع نصوص دينية كثيرة تدعو إلى التفكُّر والتدبُّر وإعمال العقل، بل يتعارض مع ممارسات كثير من الفقهاء الذين طبَّقوا الاستدلال العقلي على الأحكام الفقهية، فألقَوا بذلك ضوءًا ساطعًا على الكثير منها.
والواقع أنَّ هذا الشعار، على الرغم من أنَّه ينتمي إلى عصر غابر، ما زال كامنًا من وراء نظرة كثير من نُقَّاد الفكر العلمي باسم الدين؛ فالعقل الإنساني في نظرهم متغير زائل، وقدرتنا على اكتساب المعرفة هزيلة، وحقائقنا العلمية تعطينا إحساسًا بالثقة الكاذبة في أنفسنا، وكأننا قادرون على الإحاطة بكل شيء علمًا. وفي هذا كله يخدعنا العلم الحديث ويدفعنا، دون أن نشعر، بعيدًا عن طريق الإيمان.
ولكن، يكفينا أن نشير إلى أنَّه مثلما أدَّى اختلاق معركة بين التفكير المنطقي والإيمان إلى عكس الهدف المقصود منه، فكذلك لا بدَّ أن يؤدِّي التقابل المُصطنَع بين عقل الإنسان، وهو يسعى إلى المعرفة العلمية، وعقل الإنسان وهو يبحث عن الحقائق الدينية، إلى موقف لا يخدم قضية العلم ولا قضية الإيمان.
(ب)أمَّا الشكل الثاني الذي يتخذه الهجوم على الفكر العلمي في مجتمعنا، فهو التوسُّع في تفسير النصوص الدينية إلى الحدِّ الذي يجعلها صالحة لتفسير أحدث النظريات العلمية، وهذا، كما نعلم، اتجاه واسع الانتشار بين مجموعة من المُفكرين الذين ينسبون أنفسهم إلى الفكر الديني بحماسة شديدة، ويدافع كلٌّ منهم عن شكل من أشكال «التفسير العصري للقرآن»، يستمدُّ فيه حقائقَ ومفاهيمَ ونظرياتٍ علمية، في أصل الكون وفي الفيزياء وفي علم الأحياء، بل وفي علوم الفضاء، من النصوص الدينية.
ومن الجدير بالذكر أنَّ الفلسفة قد تراجعَت، منذ وقت طويل، عن الخوض في هذا الميدان. فمن الجائز أنَّه كان هناك تداخُل، وأحيانًا تنافُس، بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة العلمية في العصور القديمة، ولكن منذ اللحظة التي أصبح فيها للعلم منهجُه المستقل، وأخذ فيه نجاحُ العلم، بفضل منهجه هذا، يظهر للعيان بصورة لا تقبل الجدل؛ منذ هذه اللحظة توقَّفَت الفلسفة عن التنافس مع العلم في هذا الميدان، فلم تعد تدَّعي مثلًا (كما كانت تفعل في العصور القديمة) أنَّها قادرة على تقديم تفسير لأصل الكون أو مبادئه الأولى، وتركَت هذا الميدان كليَّةً للعلم. وحتى في الحالات التي يبدو فيها أنَّ الفيلسوف قد تخطَّى الحدَّ المقبول، واقتحم أرض العلم بغير مُبرِّر، كما في حالة التجاء ديكارت إلى المنهج الاستنباطي من أجل كشف قوانين طبيعية، أو استنباط هيجل للعلم الطبيعي بالعقل المجرَّد — يظلُّ الفيلسوف في هذه الميادين «تابعًا للعالِم»، لأنَّ أقصى ما يفعله هو أن يستنبط بالعقل الخالص ما سبق أن توصَّل إليه العالِم بمناهجه التجريبية أو الرياضية الخاصة. ومن هنا فلن يكون المرء قد جانَب الصواب إذا قال إنَّ الفلسفة تخلَّت للعلم عن البحث في الكونيات والطبيعيات منذ بداية العصر الحديث، وكفَت نفسها بذلك مئونة الدخول في معركة لن تخرج منها منتصرةً بأيِّ حال من الأحوال.
أمَّا أصحاب التفسيرات العصرية للنصوص الدينية، ممَّن يضعون أنفسهم في معسكر المُدافعين عن الدين، فإنَّهم يُصرُّون على إحياء منافسة ما كان ينبغي لها أن تظهر أصلًا في عصر العلم، فعلى الرغم من ادِّعائهم «العصرية»، فإنَّ جوهر قضيتهم، والهدف الأساسي الذي يسعَون إلى تحقيقه، ينتمي في الواقع إلى عصور سحيقة، كان الإنسان يتصوَّر فيها أنَّه قادر على تفسير الظواهر الكونية، في جملتها وتفاصيلها، بوسائل أخرى غير العلم.
(جـ)وأخيرًا، فإنَّ الهجوم على العلم يتخذ شكلًا ثالثًا، لا نعتقد أنَّه، بدَوره، قادر على الصمود في وجه التحليل الفلسفي. فالعلم يُوصَف بأنَّه «مادي»، وقد أصبح تعبير «العلم الغربي المادي» من التعبيرات الواسعة الانتشار في أدبيات الكُتَّاب الإسلاميين المعاصرين، فضلًا عن ترديده بلا انقطاع في الأحاديث والخُطَب وعلى المنابر. والتعبير يُقال، بالطبع، بمعنًى مذموم، دون أن يبذل أحدٌ ممَّن يستخدمونه أيَّ مجهود لكي يفكر في مدى صحة استخدامه على هذا النحو. ونتيجة ذلك هي أنَّ العلم، بمنهجه هذا الذي يُحلِّله الفكر الفلسفي ويشارك في بنائه، مرفوض من وجهة النظر الدينية، لأنَّه يرتبط ﺑ «الماديات»، ولا يوصلنا، آخر الأمر، إلَّا إلى بعض المكاسب التي تمسُّ حياة الإنسان «المادية»، ولكنها لا ترتقي بروحه ولا تُعينه على أن يعيش حياةً نقيةً طاهرة. وهو أيضًا علم يتعلَّق ﺑ «القشور»، مهما تعدَّدَت انتصاراتُه وامتدَّت إنجازاتُه، لأنَّ العالم المادي، الذي تنحصر فيه تلك الإنجازات، عالم زائل، ومن ثَم فإنَّ مَن يبحث عمَّا هو دائمٌ وباقٍ ينبغي أن يولِّي وجهه بعيدًا عن العلم.
هذه، كما قُلتُ، مجموعةٌ من الآراء التي تشيع على نطاق واسع في نظرة كثير من المُفكرين الدينيين إلى العلم، وإلى الفكر الفلسفي الذي يسانده ويرتبط به. ولا يتسع المقام ها هنا لتقديم تفنيد مُفصَّل لهذه الآراء، بل يكفينا أن نشير إلى أنَّها ترتكز كلها على مجموعة من المغالطات الفكرية، أو الأحكام المُبتَسَرة التي تُطلَق بتسرُّع وبلا رويَّة؛ ذلك لأنَّ العلم أعظم انتصار لروح الإنسان على المادة. وحين يفهم العقل الإنساني الطبيعة ويكشف قوانينها ثم يسيطر عليها، فإنَّه يعلن بذلك سيادة عقله على العالم المادي. أمَّا الابتعاد عن العالم والانصراف عن المادة بحُجَّة العزوف عنها والترفُّع عليها، فإنَّه يُبقي الإنسان في حالة من الجهل المقيم، والخضوع الدائم لتقلُّبات العالم الطبيعي، ومن ثَم فإنَّه هو الذي يؤدِّي بالفعل إلى أسوأ أنواع المادية. إنَّ انتصار الإنسان على الطبيعة ليس على الإطلاق إعلاءً للمادة، بل هو أعظم دليل على انتصار الجوانب العقلية والمعنوية في الإنسان.
وإذا كانت فكرة السيطرة على الطبيعة عن طريق العلم قد اقترنَت، في الحضارة الغربية بالذات، بالتوسُّع الاستعماري والاستخدام اللاإنساني لأدوات الحرب والقتل والدمار، وإذا كانت هذه الحضارة قد اشترَت كثيرًا من انتصاراتها العلمية والتطبيقية على حساب إنسانية الشعوب الأخرى واستقلالها ورخائها، فمن الواجب أن نُحذِّر من الربط الدائم بين الأمرَين؛ ذلك لأنَّه لا مبرِّر على الإطلاق للاعتقاد بأنَّ العلم لا بدَّ أن يؤدِّيَ إلى تطوير أسلحة الحرب الفتَّاكة، وإلى استعمار الشعوب الأخرى واستغلالها. فقد تمَّ هذا الربطُ في الحضارة الغربية في إطار ظروف مُعيَّنة، ومن المشروع تمامًا أن نتصوَّر مسارًا آخر للتقدُّم يكون العلم فيه مُسخَّرًا لخدمة البشرية كلها، لا لخدمة شعوب على حساب غيرها، والمهمُّ أنَّ هذا الارتباط عارض، مهما بدَا قويًّا في عصر السيطرة الغربية الذي امتدَّ طوال القرون الأربعة الأخيرة. والشيء الأصيل حقًّا هو أنَّ قدرة الإنسان على تلجيم الطبيعة المادية وكبح جماحها بالعقل، وإعلاء حكم التفكير المنظَّم على الاضطراب والفوضى الظاهرية للطبيعة؛ هو انتصار هائل للروح على المادة، وليس على الإطلاق «علمًا ماديًّا» كما يُردِّد بعض الدُّعاة بلا فهم. فإذا أضفنا إلى ذلك ما يفترضه البحث العلمي من جهد عقلي صارم، ومن نزعات أخلاقية رفيعة، تُعين الباحث على تحمُّل مشاقِّ عمله، وما يبعثه الكشف من متعة معنوية وروحية هائلة في نفوس العلماء، اتضح لنا مدى زيف العبارات السطحية التي تتداولها الألسُن وتُضلِّل بها عقول أجيال كاملة.
ثانيًا: لقد أشرنا من قبل إلى أنَّ فكرة الحقيقة الواحدة، المطلقة، تُمثِّل جانبًا أساسيًّا من جوانب الاختلاف بين الفكر الفلسفي وبين الطريقة التي يُعرَض بها الفكر الديني. والواقع أنَّ فكرة الحقيقة المطلقة لا تتَّخذ شكلًا واحدًا، وإنَّما يضيق نطاقها تدريجيًّا، ويضيق معها نطاق التسامح واتساع الأفق في عقول مُعتنقيها. وفي وُسعنا أن نتتبَّع مراحل هذا الاتجاه التدريجي إلى التضييق من نطاق الحقيقة الواحدة، وما يترتَّب عليه من نمو متدرج للتعصُّب وللتسلُّط الفكري وضِيق الأفق العقلي.
ففي البدء كانت الحقيقة الواحدة المطلقة في الدين بوجه عام، من حيث هو مُستمَد من مصدر إلهي، في مقابل حقائق المعرفة المُستمَدة من مصادر بشرية متعددة ومتغيرة، وكان من الطبيعي أن تتخذ هذه الحقيقة المطلقة شكل دين مُعيَّن، بحيث يُقال عن الأديان الأخرى إنَّها مراحل أو خطوات على طريق الوصول إلى حقيقة هذا الدين الواحد، وهنا يظلُّ التسامح سائدًا على وجه العموم، في نظرة الدين الواحد إلى غيره من الأديان، ويتمثَّل ذلك بوجه خاص حين ينظر الإسلام إلى أصحاب الأديان الأخرى على أنَّهم من «أهل الكتاب». ولكن كل دين آخر كانت له حقيقته المطلقة في إطاره الخاص، وكان ينظر إلى غيره على نحوٍ مُشابه، أيْ على أنَّه غير مكتمل بالقياس إليه.
ثم يزداد ضِيق «الحقيقة المطلقة»، فإذا بها المذهب الخاص الذي تعتنقه جماعة مُعيَّنة، كالسُّنة مثلًا في مقابل الشيعة (أو الكاثوليك في مقابل البروتستانت)، ولمَّا كان كل مذهب ينسب لنفسه الصحة المطلقة على حساب غيره، فقد كان من الطبيعي أن يضيق نطاق التسامح في ظلِّ هذه النظرة، وأن تشهد المجتمعات التي تأخذ بها، من آنٍ لآخر، مظاهر للاضطهاد، كانت تصل أحيانًا إلى حدِّ قيام حروب وارتكاب مذابح. وأخيرًا، تزداد الحقيقة المطلقة ضِيقًا، فتصبح هي تفسير جماعة أو فِرقة مُعيَّنة لهذا المذهب، بحيث إنَّ كل مَن يفسرونه على نحوٍ آخر يخرجون عن نطاق الحقيقة المطلقة، ومن ثَم فهم «كافرون».
هكذا أمكن ظهور جماعة مثل «التكفير والهجرة»، يدل اسمها ذاته على أنَّ الحقيقة المطلقة عندها هي فهمها الخاص للدين، وكل ما عداها، حتى في إطار عقيدتها نفسها، بُطلان وكفر، وأمكن ظهور تنظيم «الجهاد، وتنظيم القاعدة، وداعش» الذي لا يكتفي بتوسيع نطاق التكفير إلى أبعد حد، بل يُنفِّذ العقوبة على مَن يتصفون في رأيه بهذه الصفة، فيصبح دمهم مُستباحًا وقتلهم حلالًا. وهم أبناء عقيدتهم، إن لم يكونوا يشاركونهم تفسيرهم الخاص للدين.
إنَّ زوال حُكم العقل، وانعدام النقد والمناقشة، وتأكيد السُّلطة المطلقة، هو قاسم مشترك بين التطرُّف الديني والاستبداد السياسي، وكلاهما يساند وجود الآخر ويدعمه حتى لو حاربه وقاتله. وعلى العكس من ذلك فإنَّ التطرُّف الديني لا يظهر عندما ينتشر المدُّ الديمقراطي المستنير، ويتجلَّى ذلك بوضوح في تلك الفترات القصيرة التي استمتعَت فيها بعض البلاد العربية بفترات من الديمقراطية النسبية؛ إذ لم يكُن للجماعات المتطرفة دينيًّا أيُّ كيان حقيقي في تلك الفترات، ولم تستطع أن تستقطب الشباب إليها كما أصبحَت تفعل في العقد الأخير. وهذا أمر طبيعي؛ لأنَّ الديمقراطية تفترض سيادة حُكم العقل والكمال وانكماش السُّلطة المطلقة، الاختبار الحر بين الاتجاهات والتفضيل بينها، بعد أن يكون كلٌّ منها قد شرح برنامجه بوضوح. وفي مثل هذا الجو يذبل التطرُّف من تلقاء ذاته، دون حاجة إلى القمع أو إلى خوض معارك دموية. وفي اعتقادي أنَّ هذا هو السبب الحقيقي للعداء بين الحركات الدينية المتطرِّفة وبين الديمقراطية.
ولو تساءلنا عن موقع الفلسفة من هذا الصراع، وعن الوضع الذي تزدهر فيه، لكان الجواب واضحًا؛ فالفلسفة، بوصفها جدلًا يرتكز على الحُجَّة والبرهان، هي ذاتها نوع من الديمقراطية العقلية. وهي لا تعيش طويلًا في جوِّ الاستبداد السياسي أو السُّلطة الدينية المطلقة، إنَّها تذبل إذا ما ساد الاعتقاد بأنَّ هناك مَن هو معصوم من الخطأ، سواء أكانت هذه العصمة لشخص الحاكم، أو لمذهب أو تيار مُعيَّن. إنَّ الديمقراطية، إذا ما فُهِمَت بمعناها الصحيح، هي المبدأ السياسي الذي يساعد جموع الشعب على أن تقول «لا» في الوقت المناسب، وعلى أن تناقش وتعترض ولا تقبل مُسلَّمات مطلقة، وتلك كلها مُقوِّمات أساسية للفكر الفلسفي. أمَّا تلك الاتجاهات التي ترتكز على الطاعة المطلقة، سواء أكانت سياسيةً أو دينيةً متطرِّفة، فإنَّها تُولِّد في الناس أبعد الصفات عن الطبع الفلسفي الأصيل.
إن الجماعات الإسلامية تسهم، بصورة أو بأخرى، في الأوضاع التي تجعل من المستحيل تحقُّق الحدِّ الأدنى من العقلانية، ومن الديمقراطية، ومن الفكر الناقد الذي هو شرط أساسي لازدهار الفلسفة. فهل من المُستغرَب أن نجد بعضًا من أقطاب هذه الصحوة يهاجمون الفكر الفلسفي بكل عنف، ويؤكدون أنَّ فتح أبواب العالم الإسلامي أمام الفلسفة اليونانية، أيام الرشيد والمأمون، كان أكبر جريمةٍ ارتكبها خلفاء ذلك العصر؟
ثالثًا: يتصف الفكر الديني في عالمنا العربي المعاصر - باستثناء تيارات قليلة مستنيرة فيه، لا تزال تُشكِّل أقليَّة ضعيفة - بنظرة خاصة إلى الزمان تتجاهل البُعد الرئيسي فيه، وهو الحاضر، لحساب الماضي في المحلِّ الأول. ذلك لأنَّ الصيغة التي عرضناها منذ قليل، والتي تنادي بإصلاح الحاضر من خلال إعادة بعث نمط الحياة الذي كان سائدًا في عصر ذهبي ماضٍ؛ هذه الصيغة تنطوي في صميمها على إغفال لكل ما هو مميز للعصر المحاضر، وعلى نظرة جامدة إلى تيار التاريخ الطويل وتقلُّباته فيما بين البداية المجيدة والواقع المُتردِّي. إنَّها، ببساطة، تُسقط من حسابها قرونًا عديدةً من التغير والتطور، وتُبسِّط الأمور تبسيطًا مُخِلًّا حين تتصور أنَّ الأُسس التي أصلحَت حياة أُمة، منذ أربعة عشر قرنًا، هي ذاتها التي يمكن أن تُصلح حياتها الآن.
وليس المقصود من ذلك نقدًا لهذه الأُسس أو انتقاصًا من شأنها، بل إن ما نعنيه هو أنَّ إخراج المبادئ من سياقها التاريخي لا بدَّ أن يُفقدها طابعها الأصلي، ولا مفرَّ من إدخال تغييرات جوهرية على المبادئ لكي تصبح قابلةً للانطباق بعد هذه المسافة الزمنية الهائلة. فما أسهل أن يُقال، مثلًا، إنَّ ما ينقصنا، من أجل علاج مشاكلنا الراهنة، هو ذلك الإيمان المتوقِّد الذي أتاح للمسلمين الأوائل أن يهزموا أعظم أمم الأرض وأضخم إمبراطورياتها. ولكن الواقع يشهد بأنَّ هذا الإيمان المتوقِّد لا بدَّ أن يكمله اقتصاد قوي، ويسنده علم متقدِّم، وتدعمه تكنولوجيا راقية، ويحافظ عليه نظام سياسي متين، حتى يستطيع أن يُحدِث في عصرنا نفس الأثر الذي أحدثه في العهد الأول من حياة المسلمين. والواقع يشهد بأنَّ هزيمة أعظم أمم الأرض، إذا كانت قد أصبحَت ممكنةً في نمط الحروب الذي كان سائدًا عندئذٍ، فإنَّها تصبح في ظروف عصرنا الحاضر مستحيلة، وهي على أيَّة حال ليست أمنيةً تستحقُّ أن نسعى وراءها، بل إنَّ أقصى ما نأمل فيه هو أن نعيش أحرارًا، ونصدَّ عن أنفسنا ضروب العدوان الداخلي والخارجي، ونرسم طريقنا لأنفسنا بأنفسنا. هذان مَثَلان واضحان يكشفان لنا عن عنصر هام من عناصر الفكر الديني المعاصر في مجتمعنا، وأعني به تجاهل الحاضر من حيث هو حاضر، والعجز عن تكوين فهم تاريخي ناضج لتطوُّر أوضاعنا، والامتناع عن مواجهة الواقع من خلال مقولاته الخاصة، والتصدِّي له — بدلًا من ذلك — من خلال مقولات عصر تفصله عن عصرنا مسافات زمنية هائلة.
هذا الإسقاط الغريب للحواجز الزمنية الضخمة لا يقتصر على الفكر النظري أو الدعوة العقائدية وحدها، بل إنَّه يترجم نفسه عمليًّا في ظروف حية وملموسة إلى أبعد حد. ففي حرب أكتوبر ١٩٧٣م لم يكُن اسم «بدر» مجرَّد رمز للعملية القتالية، بل كان العبور في نظر كثير من الدُّعاة الدينيين تكرارًا لغزوة بدر، بملائكتها ومعجزاتها وجند الله الذين حاربوا معنا دون أن يراهم أحد. وفي الحرب العراقية الإيرانية لا يكفُّ أحد الطرفَين عن الحديث عن استشهاد الحسين وأهله وتنكيل يزيد بن معاوية به، كوسيلة لشحذ همم المقاتلين، فيجد الطرف الآخر نفسه مضطرًّا إلى الحديث عن تلك الحرب بوصفها «القادسية» الجديدة، ويجعل هذا الاسم محورًا لتوجُّهاته الإعلامية.
ويصل الأمر إلى حدِّ شحذ همم الشباب من أجل القضاء على رئيس دولة أصبح رمزًا للتهاون والتفريط في حقِّ الوطن، عن طريق فتوى تُشبِّه إسلامه بإسلام التتار الذين أحلَّ ابن تيمية دمهم. في هذه الحالات - وكثير غيرها - يُسقط الفكر الديني الزمن من الحساب، ويعالج الأمور وكأنَّ مسار التاريخ متوقِّف، أو كأنَّ مُضيَّ القرون لا يحمل في طيَّاته إلا تكرارًا لمواقف وأوضاع متماثلة.
وعلى حين يتجه الفكر الديني في بلادنا، بصورة متزايدة، نحو هذه النظرة اللازمانية، نجد الفكر الفلسفي يزداد اعترافًا، يومًا بعد يوم، بالنسبية التاريخية، ويربط على نحوٍ متزايدٍ بين الفكر المجرَّد وظروف العصر الذي نشأ فيه.
إنَّ مبدأ «الصلاحية لكل زمان ومكان»، الذي يحتلُّ مكانةً هامةً في الفكر الديني المعاصر (وفي كل فكر ديني لو شئنا الدقة) ليس له دَورٌ في الفلسفة، وهو يُمثِّل بذلك نقطة افتراق هامة بين الفكر الفلسفي والفكر الديني في عالمنا العربي.
رابعًا: وأخيرًا، فإنَّ الفلسفة - كما قُلنا في بداية هذا البحث - تُقدِّم نفسها إلينا بوصفها نشاطًا إنسانيًّا. وهكذا يدور الفكر الفلسفي أساسًا حول الإنسان، ويتصف كل مذهب فلسفي بقدْر - يزيد أو ينقص - من النزعة الإنسانية، حتى لو كان المحور الذي يدور ذلك المذهب حوله موضوعاتٍ تبدو متجاوِزةً للإنسان كالإلهيات والطبيعيات؛ إذ إنَّه يُقدِّم هذه الموضوعات على الدوام من منظور إنساني، ويطرح خلال معالجته لها آراء تستهدف، في أغلب الأحوال، غاباتٍ إنسانيةً عمليةً أو نظرية.
أمَّا الفكر الديني فيؤكد على الدوام أنَّ مصدره هو الوحي الإلهي، ومن ثَم فإنَّ حقيقته تعلو على كل ما يستطيع العقل الإنساني أن يصل إليه. وهكذا فإنَّ الإنسان، في نظر هذا الفكر، ليس هو المصدر، ولكنَّه قد يكون الهدف، أعني أنَّ غاية الدين في النهاية هي سعادة الإنسان بقدْر ما يظلُّ متصلًا بالوحي الإلهي وممتثلًا لأوامره. وقد اتخذ هذا التقابل في عالمنا العربي المعاصر شكلًا عمليًّا سياسيًّا واجتماعيًّا، هو الدعوة إلى «الحاكمية»، بمعنى أنَّ الحكم في المجتمع ينبغي أن يكون لله لا للبشر. وهكذا فإنَّ القوانين الوضعية والدساتير تُوصَف بأنَّها نتاج عقول بشرية فانية قاصرة، على حين أنَّ الشريعة السماوية هي التي ينبغي أن تكون مصدر الحكم في كافة شئون البشر. ومن المهمِّ أن نشير إلى أنَّ فكرة «الحاكمية» هي، في نظر البعض، فكرة محدودة النطاق، يقتصر القول بها على جماعات دينية مُعيَّنة مرَّت بظروف خاصة (هي الجماعات المتأثرة بفكر المودودي وسيد قطب … إلخ)، ولكنَّنا إذ أمعنَّا النظر في جوهر الفكر الديني المعاصر وجدناه يقترب منها إلى حدٍّ كبير، واتضح لنا أنَّ الفكرة، في صيغها المختلفة، أوسع انتشارًا بكثير ممَّا يبدو للوهلة الأولى. فالدعوة إلى أن يكون الإسلام «دينًا ودنيا» كانت محدودة النطاق في القرن الماضي. وفكرة أن يكون الإسلام «دنيا» تمتدُّ رويدًا رويدًا فتشمل ميادين السياسة والتشريع وتنظيم المجتمع والأحوال الشخصية والاقتصاد … إلخ. وفي نهاية الأمر يكون النَّص الديني هو الحاكم في هذه الميادين، وتصبح النظم التشريعية مُستمَدة منه، ومطابقة له، فإذا تأمَّلنا هذا المطلب بمزيد من التعمُّق، ألن نجد فيه صيغةً من صيغ فكرة «الحاكمية»؟ يبدو لي أنَّ الفكرة أساسية لدى الجميع، وكل ما في الأمر أنَّ البعض كانوا أصرح من غيرهم في الدعوة إليها بعد بطريقة مباشرة.
إنَّ فكرة الحاكمية بصيغها المتعددة، هي النقيض المباشر للنزعة الإنسانية في التراث الفلسفي؛ فالأخيرة تؤمن بالإنسان، مع اعترافها بأنَّه مخلوق فانٍ، قاصر العقل، مُعرَّض للزلل، وتنظر إلى تطوُّر البشرية على أنَّه محاولة لا تنقطع للسير في طريق لا نهاية له، يُمارس فيه الإنسان قُدراته المحدودة. ويُحقِّق خلال حياته إنجازاتٍ محدودة، ولكن الطريق كله يُمثِّل جهدًا ضخمًا رائعًا، وتجربةً شيقة لروح تسعى إلى تجاوُز ذاتها على الدوام. وهكذا يستمد الإنسان في نظرها قوةً من ضعفه وقصوره ذاته، ويكون أروع ما في الإنسان هو محاولته التي لا تكلُّ لكي يعلوَ على ذلك الوضع الفاني، الهش، الذي وجد نفسه فيه. أمَّا فكرة الحاكمية فتعلن صراحةً عدم ثقتها بالمحاوَلة الإنسانية برُمَّتها، وتلتزم بالمصدر الإلهي لأنَّه يعلو على ضعف الإنسان وتغيُّره وتقلُّبه. ويصل موقف الحركات الدينية المعاصرة من كل نزعة إنسانية إلى حدِّ العداء الصريح، الذي يتمثَّل فيما أصبح لفظ «العلمانية» يحمله عندها من معانٍ سلبية مذمومة. لقد أصبح يكفي، في حياتنا الفكرية المعاصرة، أن يُوصَف أيُّ اتجاه، أو أيُّ شخص، بأنَّه «علماني» لكي يُعَدَّ موصومًا، ويخرج تلقائيًّا من نطاق ما هو مقبول وما يمكن التعامل معه.
ولكن المشكلة التي تغيب عن ذهن هؤلاء جميعًا هي أنَّ دعوة «الإسلام دين ودنيا»، وصيغتها الواضحة والمتطرفة في فكرة «الحاكمية»، لن تستطيع - مهما فعلَت - أن تفلت من سيطرة النزعة الإنسانية التي تتعالى عليها؛ ذلك لأنَّ الوحي الإلهي ليس هو الذي يحكم بيننا بنفسه، وإنَّما يحكم دائمًا من خلال بشر يفهمونه، ويُفسِّرونه ويُقنِّنونه، ويطبقونه، أعني أنَّ النصوص لا بدَّ، قبل أن تصبح واقعًا متحقِّقًا، أن تمرَّ بذهن «إنسان» يفسِّرها ويطبِّقها. إنَّ المصدر الإلهي للوحي لن يغنينا بأيَّة حال عن الإنسان، بكل ما يتسم به من قصور وضعف وهوى. والنَّص الإلهي بمجرَّد أن يجد طريقه إلى عقل إنسان يفكر فيه ويستوعبه ويسعى إلى تحقيقه وتجسيده في حياة البشر، يكتسب الكثير من صفات البشر، ويتغيَّر بتغيُّرهم، شِئنا أم أبَينا. والدليل القاطع على ذلك هو الاختلاف الهائل في طُرق فهم النصوص الدينية الواضحة الصريحة. ففي قلب المجتمعات التي تنادي بالتطبيق المباشر للنصِّ الإلهي، تجد البلاد التي تُشكِّل الثروة أساس الحكم فيها تُفسِّر الأحكام الدينية على نحوٍ يؤكد مفهوم التفاوت في الأرزاق، ويُبرِّر غياب العدالة الاجتماعية، على حين أنَّ تلك التي تنادي بالثورية تؤكد «اشتراكية» الإسلام من خلال النصوص أيضًا. وفي المجتمعات الاستبدادية تكون الطاعة لولي الأمر، وفي الليبرالية تؤكِّد فكرة التسامح وقبول الرأي الآخر، فمن أين أتى الاختلاف بين هذه النماذج إن لم يكُن من البشر؟ وهكذا فإنَّ النصوص لا يمكن أن تحكم مجتمعاتنا بنفسها (وليتها كانت تفعل)، إذَن لأراحتنا من عناء لا نهاية له! وإنَّما هي تستطيع أن تحكم فقط من خلال بشر، فيهم كل العيوب والتقلُّبات التي ينسبها الفكر الديني إلى ما هو «علماني». إذَن ﻓ «العلمانية» لا مفرَّ منها. سواء أردنا أم لم نُرد، حتى في صميم الحكم المرتكز على المصدر الديني.

دَور الفلسفة
يقول د. فؤاد زكريا: والآن، ما الذي تستطيع الفلسفة أن تفعله في موقف كهذا؟ إنَّ فلسفة الدين، في المجتمعات المتقدمة، فرع هام من فروع الفلسفة، يشارك فيه رجال الدين بقدْر ما يشارك فيه الفلاسفة، ولم يزعم أحدٌ هناك أنَّ هذا الفرع يستهدف النَّيل من العقيدة، بل إنَّه في نظر المشتغلين به يستهدف تعميق العقيدة وإثراء التفكير في مشكلاتنا. وهذا الفرع يتناول مسائل مثل طبيعة التجربة الدينية وأهميتها والسمات المميزة للإيمان الديني بالقياس إلى أنواع الإيمان الأخرى، ومكانة الدين في الثقافة الإنسانية، وطبيعة الرمز الديني، واللغة الدينية، كما يُلقي ضوءًا على المفاهيم الأساسية، كالوحي والقداسة … إلخ، ولن يستطع أحد أن يزعم أنَّ هذه الموضوعات لا تُهمُّ الإنسان المؤمن؛ لأنَّها تجعله بالفعل أكثر وعيًا وتفتُّحًا في إيمانه. ومع ذلك فنحن لم نقترب منها في عالمنا العربي المعاصر، ولم نحاول أن ندرسها دراسةً منهجيةً منظَّمةً تُقنع العقول المتطلعة إلى الفهم. وإذا كان علماء الكلام، منذ قرون عديدة، قد خاضوا في مشكلات عقلية أثارتها الحياة الدينية في عصرهم، فإنَّ أحدًا لم يعد يجرؤ اليوم على مناقشة المشكلات المعاصرة التي تثيرها التجربة الدينية من الزاوية الفلسفية، ولا يوجَد تجديد عصري بالمعنى الصحيح لذلك الجهد الذي كان يبذله علماء الكلام، بل إنَّ أقصى ما نجده هو ترديد لنفس المشكلات التي أثاروها في ظروف مختلفة عن ظروفنا كل الاختلاف، كمسألة الجبر والاختيار، وقِدَم العالم وحدوثه، والذات والصفات، والعلم والقدرة الإلهية … إلخ، فإذا تساءلنا عن السبب في هذا القصور، كان الجواب الواضح هو أنَّه حاجز التحريم المنيع. وفي اعتقادي أنَّ البحث العلمي، بروح عصرية، في المشكلات المرتبطة بالدين، كان ينبغي أن يحتلَّ مكانةً هامةً في أيَّة «صحوة إسلامية» تُريد أن تكون حقًّا جديرةً بهذا الاسم؛ ذلك لأنَّ هذه الصحوة تدعو إلى أن يكون للدين دَور هام في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومن ثَم كان من الواجب أن تضع أيديها في أيدي الفلسفة من أجل القيام بالتحليلات المُتعمِّقة التي يستلزمها أداء الدين لهذا الدَّور الهام في الحياة المعاصرة. لكنَّها، بدلًا من ذلك اكتفَت بالشعائر والشكليات، وركَّزَت جهودها على المظهر والملبس والحجاب، وأبدَت أعظم اهتمام بالجنس، متمثلًا في منع الاختلاط، وأحيانًا منع السلام باليد بين الجنسين … إلخ، في الوقت الذي تظلُّ فيه الأسئلة العميقة المُلحَّة بلا جواب.
ولا شكَّ أنَّ نقدًا كهذا الذي أُقدِّمه لن يكون له معنًى إلَّا إذا استطعتُ أن أقدِّم نماذج لهذه المسائل التي تثيرها الحياة الدينية للإنسان العربي المعاصر، والتي تستطيع الفلسفة أن تُلقي ضوءًا باهرًا عليها، إذا ما سُمح لها بممارسة نشاطها في هذا الميدان بقدْر معقول من الحرية، وبغير خوف من التأثيم والتكفير.
(١) أول مسألة أساسية بالنسبة إلى الفكر الديني المعاصر، هي العلاقة بين ألوهية التشريع وبشرية القائمين بفهمه وتطبيقه. فإلى أيِّ مدًى تؤثر ذاتية القائم بالتفسير على الحياد والأمانة في تطبيق النص؟ والأهمُّ من ذلك، ما هي العوامل التي تؤدِّي إلى تلك الاختلافات الهائلة في الاتجاهات بين مجتمعات وحركات إسلامية تؤكِّد كلها أنَّها تُطبِّق الشريعة الإسلامية تطبيقًا مباشرًا؟ هل ترجع هذه الاختلافات إلى مصالح دنيوية توجِّه التفسير والتطبيق في اتجاهات تخدم هذه المصالح؟ أم إنَّها ترجع إلى الأفكار المسبقة التي يحملها كل مُفكر وكل مُفسر في ذهنه، والتي لا بدَّ أنَّه قد استمدَّها من مصادر أخرى، ثم أسقطها على تفسيره للنصِّ الديني، أم هي ترجع إلى نوع أنظمة الحُكم التي ينتمي إليها المُفسرون؛ تلك الأنظمة التي استطاعت، في مصر الناصرية مثلًا، أن تستخلص من كبار المُفكرين الدينيين تفسيراتٍ «اشتراكيةً» للدين، ثم عادت فاستخلصَت منهم في العهد الساداتي، تفسيرات تُبرِّر التفاوت بين طبقات الناس والسعي إلى الربح بغير حدود؟ ومن جهة أخرى، فإنَّ التحليل الفلسفي هو الذي يجنِّبنا، ويجنِّب أجيالنا الشابَّة بوجه خاص، خطر الانقياد لأيِّ رأي، قد يكون مُخطئًا أو مُغرضًا، بزعم أنَّه هو وحده المُعبِّر عن وجهة النظر الحقيقية للدين؛ ذلك لأنَّ كثيرًا ممَّن ينتمون إلى الحركات الدينية يتعمدون الخلط بين المصدر الإلهي للنص، وبين أشخاصهم، فيُضفون على آرائهم الخاصة قداسةً لا تستحقُّها، ويُطالبون الشباب بأن يُبدوا لهم نفس القدْر من الطاعة والإذعان الذي يُبدونه لتعاليم الدين الأصلية، ويصل بهم الأمر إلى حدِّ أن يجعلوا من أنفسهم «أمراء» على الجماعات، لهم السمع والطاعة في كل شيء، وهكذا يحتمي هؤلاء بقداسة النَّص الديني، ويدفعون عقول أتباعهم إلى الانزلاق لا شعوريًّا من كلام الله إلى كلام الإنسان، فتسلك تجاه الثاني كما تسلك تجاه الأول. وممَّا يساعد على ذلك بالطبع أنَّ موقف «الإيمان»، الذي هو أساسي في كل عقيدة، يمكن أن يمتدَّ بحيث يسري على البشر المرتبطين بالدين أيضًا، ما دام يُحلِّق في الأذهان حالة نفسية مستعدة للتصديق، وسرعان ما يتحوَّل هذا الإيمان إلى «طاعة» تُضفي على كلام إنسان مُعيَّن قيمةً مُستمَدة من ارتباطه في أذهانهم بالكلام الإلهي، وتجعل لهذا الإنسان تأثيرًا رهيبًا في عقول أتباعه، يمنعهم من اكتساب المعرفة من أيِّ مصدر آخر، ويجعلهم قابلين للتشكُّل بالشكل الذي يريد.
هناك إذَن مجال هام للفلسفة كي تقوم بعملية نقدية تعمِّق فيها الفكر الديني في هذا المجال، وتردُّ بها على كثير من التساؤلات التي قد لا تجرؤ كل الأذهان على طرحها، والتي قد تولِّد في النهاية شكًّا مُدمِّرًا لو تُرِكَت بغير إجابة. وأهمُّ هذه التساؤلات، كما رأينا، هو: ما مدى تأثر النَّص الإلهي بالذهن البشري الذي ينبغي أن يمرَّ من خلاله النَّص كيما يؤدِّي دَوره في حياتنا؟ وأين يقع الحدُّ الفاصل بين مقاصد النَّص وأهدافه وبين تفسيرات البشر ومستوى فهمهم وأغراضهم الجزئية المحدودة؟ إنَّها مشكلة لن يمكن خوضُها إلَّا بمنهج فلسفي قد لا يقول فيها الكلمة الأخيرة، ولكنه سيكشف، بغير شكٍّ، الكثير من أبعادها، ويُلقي عليها أضواءً تحتاج إليها حاجةً مُلحَّةً في حياتنا العربية المعاصرة على وجه التحديد، حيث يبدو لكل عين فاحصة أنَّ فئاتٍ كثيرةً من الشباب الصادق المتحمِّس توجَّه إلى خدمة أهداف وأطماع بشرية ضيِّقة عن طريق استغلال إيمانها الذي لا يتزعزع بالنَّص الإلهي، بعد أن يُفسَّر وفقًا لما يُحقِّق هذه الأهداف.
(٢) ولا تقلُّ عن ذلك أهميةً مشكلة «الصلاحية لكل زمان ومكان»؛ وهو الوصف الذي يُطلقه المُفكرون الدينيون، بسهولة وبغير تحليل في معظم الأحيان، على الأحكام الواردة في النصوص الدينية. ذلك لأنَّ فكرة «الصلاحية لكل زمان ومكان» تبدو متعارضةً مع التغير، الذي لا يستطيع أن ينكره أحد، في أحوال البشر، ممَّا يجعل إطلاق هذا الوصف على الأمور المتعلقة بالظواهر الإنسانية أمرًا شديد الصعوبة من الوجهة العقلية. والواقع أنَّ جدلًا كثيرًا قد دار حول هذا الموضوع في حياتنا الفكرية المعاصرة، وتركز هذا الجدل، على استحياء شديد، حول الحدود التي يمكن في إطارها تطبيق صيغة الصلاحية لكل زمان ومكان.
وكان هناك ما يُشبه الاتفاق بين المُفكرين المستنيرين على أنَّ الاجتهاد في تفسير النصوص أمر لا غَناء عنه لمواجهة تغيرات العصر، وهذا الاجتهاد معناه إضافة تفسيرات مُستمَدة من روح العصر نفسه، تعمل حسابًا لظروفه المميزة. وكلما اتسع نطاق التغير كان من الطبيعي أن يتسع نطاق هذه الاجتهادات، ولمَّا كان معدَّل التغير يزداد بسرعة رهيبة في عصرنا الحالي، ويتسارع على نحوٍ متزايدٍ في كل عقد زمني بالقياس إلى العقد الذي يسبقه، فيبدو أنَّ الأمر لا بدَّ أن ينتهيَ بنا، في حالات كثيرة، إلى أن نكتفيَ بأن نأخذ من النصوص توجهاتها العامة، ونحوِّر جميع التطبيقات والتفاصيل وفقًا لتغيُّر الظروف، ويظل المسار العام لهذه الحركة، إذا شاءت أن تُجاريَ الزمن المتغير، هو أن تزداد الأحكام المأخوذة من النَّص عمومية، ويتسع نطاق الاجتهادات البشرية في كافة التفاصيل.
ومع ذلك فإنَّ هناك فئةً هامةً من المُفكرين الدينيين لا تدرك هذه المشكلة على حقيقتها، وتتجاهلها إلى حدِّ الإصرار على صيغة «الصلاحية لكل زمان ومكان» بلا قيد ولا شرط. والمأزق الذي تواجهه هذه الفئة هو أنَّها إذا تمسَّكَت بحَرفية النصوص دون تصرُّف (هذا إذا افترضنا أنَّ هناك إنسانًا قادرًا على التمسك بحَرفية النصوص)، كان عليها أن تتجاهل أوضاع الواقع وظروف العصر. أمَّا إذا أرادت أن تعمل حسابًا لهذه الأوضاع (وهو أمر لا مفرَّ منه في حياتنا المعاصرة)، فلا بدَّ لها من أن تقصر دَور النصوص على المبادئ والتوجيهات العامة.
ويمكن التعبيرُ عن هذا الإشكال من خلال مقارنته بصيغة أخرى تُتداول بدَورها دون تحليل مُتعمِّق، وهي «الإسلام دين ودنيا»؛ ذلك لأنَّ مفهوم «الدنيا»، في هذه الصيغة، يشمل السياسة وتنظيم المجتمع والمعاملات … إلخ، وكلها أمور يسري عليها التغير والتطور الذي يتسارع معدَّله يومًا بعد يوم. فإذا شئنا أن نعمل حسابًا لهذه «الدنيا» السريعة التغير، التي تزداد المسافة تباعدًا بينها وبين «الدنيا» التي نزل فيها الوحي، وجدنا تعارضًا لا مفرَّ منه بين هذه الصيغة والصيغة السابقة؛ «الصلاحية لكل زمان ومكان»، بحيث يبدو لنا أنَّنا لو أخذنا بالأولى اضطررنا إلى التنازل عن الكثير ممَّا في الثانية، والعكس بالعكس. أمَّا حين يجمع الفكر الديني المعاصر بين الصيغتَين معًا دون أيَّة محاولة لفهم العلاقة العكسية بينهما، أو لبيان الطريقة التي يمكن بها الجمعُ بينهما دون تناقض، في ظروف عصر دائم التغير، فإنَّه يتجاهل بذلك مشكلاتٍ كثيرةً لا يملك العقل الحديث ترف الهروب منها.
ولا بدَّ للفكر الديني هنا من أن يدرس بعمق تجربة المسيحية في أوروبا، ومع علمنا بالفارق الكبير بين التجربتَين، فهناك الكثير ممَّا يمكن تعلُّمُه في هذا الصدد؛ ذلك لأنَّ الكاثوليكية كانت بدَورها في العصور الوسطى، دينًا ودنيا، وليس بصحيح ما يتداوله كثير من المُفكرين الإسلاميين من أنَّ المسيحية دين فقط، لا شأن له بتنظيم كافة جوانب حياة الإنسان اليومية، فقد يكون هذا شأن مسيحية العصر الحديث، أمَّا في العصور الوسطى فقد كوَّنَت المسيحية لنفسها، كما هو معروف، مؤسَّسة رسمية تتدخَّل في شئون الدنيا لدى الفرد والمجتمع والدولة تدخُّلًا كاملًا، ووجود هذه المؤسَّسة الرسمية يُعَدُّ خطوةً تتجاوز كل ما تمَّ تحقيقُه في الإسلام من أجل جَعْل العقيدة «دينًا ودنيا». ولكن الكنيسة منذ عصر النهضة أخذَت تتراجع شيئًا فشيئًا عن التدخل في تفاصيل حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، ولم يتمَّ ذلك إلَّا بعد معارك حامية راح ضحاياها الكثيرون، ففي البدء كانت آيات الكتاب المقدس التي تتعارض مع دوران الأرض وتؤكد أنَّ الأرض مركز للكون وأنَّ السموات «فوقها» … إلخ، تُستخدَم سلاحًا لمقاومة كشوف العلم الحديث، وكانت هذه المقاومة رمزًا للنظرة المتوسِّعة إلى وظيفة الدين. ولم يُكتَب الاستقرار للمجتمع الأوروبي، ولم يبدأ العلم الأوروبي في تحقيق إنجازاته الجبارة، إلَّا بعد أن تراجعَت هذه النظرة المتوسِّعة، وترك رجال الدين مهمَّة تفسير العالم وظواهره الطبيعية (وهي أحد جوانب مفهوم «الدنيا») للعلماء. هذا الدرس ينبغي التفكيرُ فيه، لا لأنَّ الظروف متطابقة بيننا وبينهم، بل لأنَّه يُقدِّم نموذجًا هامًّا للتصادم الذي لا مفرَّ من حدوثه في أيِّ مجتمع. بين النظرة التوسُّعية إلى وظيفة الدين، وبين مقتضيات التغير والتطور في هذا المجتمع، وفي هذا الإطار وحده أعتقد أنَّ من المفيد لفكرنا الديني المعاصر أن يُحلِّل ما حدث في تجربة انتقال أوروبا من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، وهي التجربة التي يبدو أنَّ بعض عناصرها آخذة في الظهور في مجتمعنا المعاصر. ومن الجائز أنَّ المعركة التي تدور في أرضنا العربية لا تتخذ طابع الصراع حول قبول نتائج الكشوف العلمية أو رفضها؛ وذلك لسبب واضح هو أنَّ الموقف الذي نواجهه اليوم يقع في عصر لم يعد فيه العلم يبحث لنفسه عن موطئ قدم، كما كان يفعل في عصر النهضة الأوروبية، بل أصبحَت له مكانةٌ يصعُب أن تنال منها أيَّة قوة أخرى.
ولكن من الأشكال الهامة التي تتخذها هذه المعركة في حياتنا المعاصرة، الصراع بين الشكل والمضمون في العقيدة الدينية. فإذا كان من المُحتَّم، كما رأينا من قبل، أن نأخذ من النَّص الديني توجيهاته العامة في عصر سريع التغير كهذا الذي نعيش فيه، فهل تدخل الأحكام المتعلقة بالملابس، واللحية، والحجاب … إلخ، ضمن هذه التوجيهات العامة، أم إنَّها - شأنها شأن أحكام الحروب والأسرى والرق … إلخ - من باب التفاصيل التي وردَت لتنظيم حياة الناس في عصر مُعيَّن، ولا بدَّ من إخضاعها لسُنن التغير؟ قد لا تكون هذه هي المشكلة الجوهرية في حياة المسلمين المعاصرين، ولكنَّها أصبحَت للأسف تحتلُّ في حياتنا دَورًا هامًّا، وأُعطِيَت حجمًا أكبر ممَّا تستحق، نتيجةً لممارسات كثير من الجماعات الإسلامية المعاصرة. وعلى أيَّة حال فإنَّها في رأينا نموذج معاصر للتضادِّ بين النظرة التوسُّعية إلى وظيفة الدين، وبين مقتضيات عصر سريع التغير. وفي موضوعات كهذه يستطيع المنهج الفلسفي أن يُعِين الفكر الديني على تحليل عناصر المشكلة أولًا، ثم تأمُّلها في نظرة تركيبية شاملة تحيط بكافة جوانبها وعلاقتها.
(٣) ونستطيع أن نتأمَّل المشكلة السابقة من زاوية أخرى، غير زاوية الشكل والمضمون، وأعني بها زاوية التضاد بين النظرة الشمولية والنظرة الجزئية إلى الإنسان. ففي الجانب العملي، جانب الأخلاق والسلوك الاجتماعي، نرى تركيزًا متزايدًا من جانب جماعات دينية معاصرة، على نواحٍ جزئية ثانوية في السلوك الأخلاقي والاجتماعي للإنسان. إنَّ سلوك الإنسان كل متكامل، وهذه حقيقة تُثبتها لنا الفلسفة نظريًا، ويُثبتها علم النفس عمليًّا، وتؤكدها تجربة الحياة ذاتها على الدوام. ومع ذلك، ففي الوقت الذي تتمسَّك فيه بعض الاتجاهات الدينية المتطرفة، التي أصبح لها في الآونة الأخيرة تأثير كبير في عقول الشباب، بأنَّ «الإسلام دين ودنيا»، وتستهدف بذلك تأكيد شمولية النظرة الإسلامية، نراها تُركِّز دعوتها بين جموع الناس على أداء الشعائر الدينية بغضِّ النظر عن سلوك الإنسان عمليًّا، وعلى شكليات كالتحجُّب وإطلاق اللِّحَى والاختلاط بين الرجل والمرأة. وقد تكون لهذه الشكليات أصول دينية — هذا جائز، وإن كان مَثارًا للجدل — ولكن، ما قيمة هذه الأمور بالقياس إلى مجموع التحديات التي تواجه الإنسان المعاصر في مجتمعاتنا الإسلامية؟ ما قيمتها بالقياس إلى التحدي الصهيوني والتحدي الأمريكي، والانهيار الاجتماعي، وسيادة القِيَم الأنانية التي لم يبقَ معها للقضايا العامة أيُّ وزن في سلوك الإنسان العربي؟ كيف نترك هذه الأساسيات ونركز جهدنا وكفاحنا على الشكليات؟.
ألن يستطيع الفكر الفلسفي، وفي هذه الحالة، أن يساعد المُفكرين الدينيين على أن يعيدوا التوازن بين جوانب الإنسان المختلفة، وينظروا إلى الإنسان نظرةً متكاملة، تضع كل عناصره في موضعها الصحيح، وتعطيها حجمها الحقيقي؟ ومن جهة أخرى، فإنَّ التفكير الفلسفي يستطيع، بالاستناد إلى حقائق علم النفس، أن يجد مجالًا واسعًا للبحث في دلالة هذا الاهتمام المفرط بالجنس في دعوات الجماعات الدينية المعاصرة؛ فمشكلة الحجاب مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتحريم الجنسي، وبنظرة جنسية متطرِّفة إلى طبيعة الرجل وطبيعة المرأة، تبلغ أقصى مداها، وتُعبِّر عن عناصر الكبت فيها بوضوح صارخ حين يُحرَّم السلام باليد بين الرجل والمرأة بوصفه «تلامسًا» يؤدِّي، شأن أيِّ تلامس آخر، إلى الإثارة. ومثل هذا يُقال عن منع الاختلاط، الذي يفترض دائمًا وجود أفكار شريرة في ذهن الرجل والمرأة، لا يمكن حلُّها بالتربية ولا بالسعي إلى أهداف اجتماعية تعلو على النزوات الفردية، بل إنَّ الحلَّ الوحيد الممكن (الذي هو في الواقع «لا حل») هو الفصل القاطع بينهما!
إن الفلسفة تبحث أساسًا في الكليَّات، ولا جدال في أنَّ نظرتها الشمولية إلى الإنسان ومشكلاته كفيلة بأن تُقدِّم عونًا كبيرًا للفكر الديني حتى لا يبالغ في تضخيم عنصر واحد على حساب بقية العناصر، وحتى يدرك الدلالة الحقيقية لهذا التضخم.
(٤) وأخيرًا، فإنَّ في استطاعة الفلسفة أن تُلقيَ الضوء على بعض المفاهيم التي يستخدمها الفكر الديني، في معظم الأحيان، دون تحليل مُتعمِّق، أو التي تحتاج إلى إعادة تحديد لمعناها في ضوء المتغيرات العصرية.
فمفهوم العدل، كما حلَّله علماء الكلام، يحتاج إلى إعادة نظر شاملة تأخذ في حُسبانها معنى العدالة الاجتماعية من حيث هي مطلب أساسي للإنسان المعاصر. ومفهوم الحرية يحتاج إلى جهد هائل في التأصيل والتنظير من أجل الردِّ على سؤال يتردَّد على ألسنة كثير من دارسي الإسلاميات في الشرق والغرب، وهو: هل يتسع الفكر الإسلامي لمعنى الحرية الفردية، كما صاغته الدساتير الحديثة ونصَّت عليه مواثيق حقوق الإنسان، أم إنَّ الحرية التي عرفها ذلك الفكر هي الحرية بالمعنى الميتافيزيقي فحسب؟ وهل يحتمل هذا المفهوم إعادة تفسيره على نحوٍ عصري؟
هذه كلها أمثلة لمسائل تفتح أبوابًا خصبةً للفكر، وهي مسائل لم أحاول أن أدلي فيها برأي خاص، وإنَّما عرضتُها بوصفها موضوعاتٍ تستطيع فيها الفلسفة أن تُثريَ الفكر الديني بتحليلاتها وتنظيراتها. وأن تُسديَ إليه خدمةً جليلةً في هذا العصر الذي لا يكفُّ الناس فيه عن التساؤل والمناقشة.
وكل ما هو مطلوب لتحقيق هذا المزج الخصب بين الفكر الفلسفي والفكر الديني هو أن يشعر الفيلسوف بأنَّه لا يتعرَّض لتحريف أو إرهاب أو إنهاء بالخروج عن الدين، وأن يُهيِّئ كافةُ المشتغلين بالفكر الديني أذهانَهم لقبول حقيقة أساسية لن يستطيعوا بدونها أن يكون لهم دَور في حياتنا المعاصرة، وأعني بها أنَّ اللغة التي كانت المسائل الدينية تُناقَش بها منذ عشرة قرون لا ينبغي أن تظلَّ هي المستخدمة بالضرورة في هذا العصر، وأنَّ الإطار الفكري للمناقشات الدينية ينبغي أن يتطور، ويتسع، وأنَّ النظر إلى المشكلات المتعلقة بالدين كما لو كانت خارج نطاق الزمان، ومخاطبة إنسان القرن الحادي والعشرين بأسلوب القرن السابع أو الثامن لن تكون هي أفضل السُّبل للوصول إلى عقل ذلك الإنسان، وكل ما عليهم هو أن يمدُّوا أيديهم إلى الفلسفة، ويفتحوا صدورهم لها، ويُغلِّبوا سماحة العقيدة على جمود الكثرة من مُعتنِقيها المعاصرين.
د. فؤاد زكريا، الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، الفصل الخامس.



#محمد_بركات (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثامنة: ضرورة معرفة معنى ا ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السابعة: خطورة الإعجاز العل ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السادسة: ضرورة معرفة تاريخ ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الخامسة: العلاقة بالآخر ومش ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الرابعة: تاريخية النص الدين ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثالثة: الكهنوت العدو الأخ ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثانية: لا يوجد دين رسمي ع ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الأولى: الله ظاهر في خلقه
- المختار من الفتوحات المكية (23) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (22) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (21) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (20)
- المختار من الفتوحات المكية (19) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (18) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (17) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (16) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (15) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (14) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (13) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (12) محيي الدين بن عربي


المزيد.....




- فوق السلطة.. وزير فرنسي سابق: الإسلام الدين الأكثر اعتناقا و ...
- كل ما تريد معرفته عن دورة العاب التضامن الاسلامي واماكن إقام ...
- ترامب يشتم النائبة المسلمة إلهان عمر ويدعو لعزلها.. فما الأس ...
- إنتخابات الكنيسة السويدية الأحد - ممارسة ديمقراطية في مؤسسة ...
- عرض كتاب.. التهديدات الإسرائيلية للمقدسات الإسلامية والمسيحي ...
- عرض كتاب.. التهديدات الإسرائيلية للمقدسات الإسلامية والمسيحي ...
- نيويورك.. يهود يتظاهرون احتجاجا على مشاركة نتنياهو باجتماعات ...
- يهود يتظاهرون في نيويورك احتجاجا على مشاركة نتنياهو باجتماعا ...
- القمة العربية الإسلامية في الدوحة.. نجاح مرهون بمراجعة التحا ...
- التعليم كجبهة في الحرب الناعمة: بين الاستخراب الغربي وبناء ا ...


المزيد.....

- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - قواعد التنوير الأربعون | القاعدة التاسعة: ضرورة فهم معنى الفلسفة وحقيقة الدين