أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد غفير - انحراف الفهم الديني في ظل التوظيف السلطوي والاجتماعي















المزيد.....

انحراف الفهم الديني في ظل التوظيف السلطوي والاجتماعي


محمد غفير
كاتب و مدون

(Mohamed Gafir)


الحوار المتمدن-العدد: 8499 - 2025 / 10 / 18 - 11:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مقدمة: الدين كقيمة أم كأداة؟

منذ اللحظة التي خرج فيها الدين من فضائه الروحي ليختلط بمصالح السياسة وتقلبات المجتمع الطبقي، بدأ الانحراف الأكبر في مسار الفهم الديني. فالدين في أصله رسالة للارتقاء بالإنسان، وتحريره من القيود الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لكن حين تحوّل إلى أداة بيد السلطة أو الطبقة، تبدّلت مقاصده، وتحوّل من قوة تحرير إلى أداة تبرير.
لقد صار السؤال الملحّ اليوم: هل ما نعيشه من فهم ديني هو امتداد للوحي الإلهي، أم هو انعكاس لتاريخٍ من التلاعب السياسي والاجتماعي بالنص المقدّس؟


---

السياسة حين دخلت المسجد

يقول الاستاذ الامام محمد عبده: "الإسلام دين، والدولة شيء آخر، وإنما أُدخلت السياسة في الدين ففسدت السياسة والدين معاً."
بهذه العبارة الموجزة يلخص عبده مأساة قرون طويلة من التداخل بين النص والسلطة.

في التاريخ الإسلامي، لم يكن الانحراف الديني وليد لحظة واحدة، بل نتاج مسار طويل بدأ منذ اللحظات الأولى التي اختلط فيها الإيمان بالسياسة. فبعد وفاة النبي ﷺ، تحوّل الخلاف على الحكم إلى محور صراع دموي بين المسلمين أنفسهم، وأصبح الانتماء السياسي يُغلَّف بغطاء ديني.
ومن هنا بدأت عملية "تديين السياسة" و"تسييس الدين" في الوقت نفسه، لتنشأ مدرسة التبرير، التي جعلت من الفقه أداة لتقديس الحاكم وتكميم الأفواه.

لقد استخدم الخلفاء والملوك، منذ الدولة الأموية وحتى العثمانية، الدين لتثبيت حكمهم، فظهرت طبقة من "الفقهاء الرسميين" الذين احتكروا تفسير النصوص لصالح السلطان. ومن هنا، انحرف الدين عن غايته الأصلية: العدالة والحرية والمساواة، وتحول إلى منظومة خادمة لمصالح الطبقة الحاكمة.


---

الطبقة والعقيدة: حين صار الدين مِلكاً للأقوياء

في مجتمعاتٍ بنيت على التفاوت الطبقي، كان لا بدّ أن يتلوّن الفهم الديني بلون الطبقة المهيمنة. فالطبقة الغنية استخدمت الدين لتبرير امتيازاتها، بينما الطبقة الفقيرة استخدمته لتبرير صبرها على الظلم.
يقول المفكر علي الوردي في كتابه "مهزلة العقل البشري":

"إن الناس لا يفهمون الدين إلا بقدر ما تسمح به مصالحهم، فهم يفسرون النصوص وفق ما يوافق أهواءهم الطبقية أو السياسية."



وهذا القول يكشف مأساة المجتمع حين يصبح الدين انعكاساً لبنية طبقية غير عادلة. فبدلاً من أن يكون الإسلام رسالة مساواة، تحول إلى منظومة تُكرّس التراتبية.
تأمل مثلاً كيف أصبحت مفاهيم مثل الطاعة، والقدر، والصبر على البلاء، تُستخدم لتخدير العامة، في حين تُسقط مفاهيم العدل، والمساءلة، والشورى من الوعي العام لأنها تهدد استقرار السلطة.


---

العلماء بين الإيمان والسلطان

من أخطر التحولات التي أصابت الفهم الديني هي تحول العلماء من صوتٍ للحق إلى أداة للسلطان.
في القرون الوسطى، كان العلماء المستقلون أمثال أبي حنيفة النعمان يرفضون الدخول في بلاط الحكم، بل ويدفعون الثمن سجناً وتعذيباً، لأنهم أدركوا أن "من باع فتواه للسلطان فقد خان الله والناس".
لكن مع مرور الوقت، تشكّلت طبقة من "علماء السلطة"، الذين لم يعودوا ينطقون بالحق، بل بما يرضي الحاكم.

وهنا بدأ الانحراف المنهجي في الفكر الديني:
صار العالم يُقاس بمدى قربه من السلطة، لا بمدى صدقه العلمي.
وصار الناس يرون في الفتوى أداة سياسية، لا اجتهاداً فقهياً.

يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه "تكوين العقل العربي":

"إن بنية الفكر العربي ـ بما فيها الديني ـ تَكوّنت في ظلّ سلطةٍ استبدادية جعلت من النص وسيلة لتكريس الطاعة، لا لبناء الحرية."



وهذا القول يلخّص تماماً الكيفية التي تحوّل بها الفهم الديني إلى منظومة أيديولوجية، هدفها ضبط المجتمع لا تحريره.


---

الخطاب الديني كمرآة للمجتمع الطبقي

عندما نتمعن في مضمون الخطاب الديني في أغلب المجتمعات العربية اليوم، نلاحظ أنه يخاطب الطبقة الفقيرة بلغة الطاعة والرضا بالقضاء، ويخاطب الطبقة الغنية بلغة التسامح والستر وحسن الظن.
إنها انتقائية واضحة، تكشف عن انحيازٍ غير معلن.
فالفقير يُطالَب بأن يصبر على "الابتلاء"، بينما الغني يُمدَح لأنه "من أهل النعمة الذين يشكرون الله".

وفي هذا التناقض، يتم خنق جوهر الدين الذي جاء لإقامة ميزان العدل، لا لتثبيت الفوارق.
قال كارل ماركس يوماً: "الدين أفيون الشعوب."
لكن ماركس لم يكن ينتقد الدين نفسه، بل توظيفه الطبقي كأداة تخدير.
وهذا ما نراه اليوم في الخطاب الديني الذي يُروّج للاستسلام والسكوت على الفساد باسم القدر، بينما يسكت عن الظلم الاجتماعي والاحتكار الاقتصادي.


---

حين تُفرغ الروح من معناها

إن أخطر ما فعله التزاوج بين الدين والسياسة والمجتمع الطبقي هو أنه فرّغ الدين من مضمونه الروحي والإنساني.
صار التدين مظاهرَ لا جوهر، وصار الإيمان طقوساً لا وعي.
يقول المفكر الفرنسي فولتير: "حين يتحدث الناس كثيراً عن الدين، فاعلم أن العدالة غائبة."

لقد تحوّل الدين إلى شعارٍ سياسي وإعلاني، وصار الالتزام الديني يقاس باللباس والمظهر، لا بالضمير والرحمة والصدق.
في مجتمعاتٍ يسودها هذا النمط من الفهم، يصبح الدين حائطاً يُعلّق عليه الجميع عجزهم وخطاياهم، بينما يختفي صوت الضمير الإنساني.


---

التنوير كضرورة للخلاص

إن نقد الفهم الديني لا يعني محاربة الدين، بل تحريره من الأسر.
كما قال المفكر نصر حامد أبو زيد:

"المقدّس لا يُنتج وعياً، بل يُستَخدم لتبرير وعيٍ جاهز."



التحرر يبدأ حين نفصل بين الدين كقيمة مطلقة والخطاب الديني كمنتَج بشري يخضع للخطأ والصواب.
حين نفهم أن النص الإلهي فوق التاريخ، لكن فهم البشر له خاضع للظروف والمصالح، سنستعيد صفاء الدين.

التنوير لا يعني الكفر، بل يعني الإيمان العاقل الواعي، الإيمان الذي يرى في الدين طاقة نهضة، لا أداة استعباد.
يقول طه حسين:

"إن الدين لا يخاف من العقل، بل يستنير به."



وهنا يكمن جوهر الرسالة: إعادة الدين إلى مكانه الطبيعي كمنظومة أخلاقية وروحية، لا كأداة بيد الساسة أو الطبقات.


---

خاتمة: حين يعود الدين إلى الإنسان

لن يعود الفهم الديني إلى صفائه إلا عندما يتحرر من عباءة السلطان ومن قيود الطبقة.
حين يُفهم الدين على أنه رسالة للكرامة لا للهيمنة، للحرية لا للطاعة العمياء، للعدل لا للتفاوت.
فالدين في جوهره كما قال جلال الدين الرومي:

"الدين هو الحب، وكل ما سواه زيفٌ وتجارة."



إن نقدنا للخطاب الديني ليس انتقاصاً من الإيمان، بل دفاعٌ عنه من التشويه الذي ألحقه به التوظيف السياسي والاجتماعي.
فالدين لا يُختزل في المآذن والمنابر، بل يُختبر في الضمير الإنساني، في العدل والرحمة والمساواة.

وحين يتحرر الخطاب الديني من سلطة السياسة والطبقة، عندها فقط يمكن أن يعود الدين ليكون كما أراده الله:
نوراً يهدي الإنسان إلى ذاته، لا قيداً يحكمه باسم السماء




هامش المراجع والمصادر

1. محمد عبده – الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية – دار الشروق، القاهرة، ط. 4، 1993.
2. علي الوردي – مهزلة العقل البشري – منشورات دار الوراق، بغداد، 2001.
3. محمد عابد الجابري – تكوين العقل العربي – مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990.
4. نصر حامد أبو زيد – نقد الخطاب الديني – دار سينا للنشر، القاهرة، 1992.
5. طه حسين – في الشعر الجاهلي – دار المعارف، القاهرة، 1926.
6. كارل ماركس – نقد فلسفة الحق عند هيغل – ترجمة فؤاد أيوب، دار الطليعة، بيروت، 1970.
7. فولتير – رسائل فلسفية – ترجمة جلال صادق العظم، دار الطليعة، بيروت، 1988.
8. جلال الدين الرومي – المثنوي المعنوي – ترجمة عفيفي، دار العودة، بيروت، 1981.
9. أبو حنيفة النعمان – الفقه الأكبر – تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1999.
10. عبد الرحمن الكواكبي – طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد – دار الهلال، القاهرة، 1902.



#محمد_غفير (هاشتاغ)       Mohamed_Gafir#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حتي يصبح الدين رسالة حب وعدل لا منظومة هيمنة وسلطة
- الحجاج بن يوسف الثقفي: سيف الدولة وخصم الحرية — عبقرية القوة ...
- لغز اغتيال اسامة بن لادن
- تجديد الخطاب الديني بين المؤسسة والأفراد: معركة الوعي والتنو ...
- أبو حامد الغزالي: من الشك إلى اليقين...
- القضية الفلسطينية... من رمزٍ للنضال إلى سلعةٍ في أسواق السيا ...
- أفكار صنعت سيوفًا : من ابن تيميه الي سيد قطب
- غزة بعد عامين من الجحيم: مخاوف إسرائيلية من كشف الدمار الشام ...
- قراءة التاريخ الإسلامي بين القداسة والعقلانية: نحو وعيٍ جديد ...
- مستقبل نتنياهو بعد صفقة ترامب: هل يبقى اليمين المتطرف في قلب ...
- -صفقة ترامب تشعل إسرائيل: انقسام حاد وتهديدات بإسقاط حكومة ن ...
- الأزهر – بين منارة الدين وميدان السياسة
- كيف تغيرت موازين السيطرة والحياة داخل غزة في الذكرى الثانية ...
- الأديب الروسي العظيم فيودور دوستويفسكي
- التدين السطحي في العالم العربي: حين يتحول الإيمان إلى مظهر و ...
- ازدواجية المعايير في القانون الدولي: حين يسقط القناع عن الإن ...
- هدم الأسرة وصناعة الإنسان المستهلك: من المؤامرة إلى الواقع
- سيغموند فرويد: الأب الروحي للتحليل النفسي ومؤسس مدرسة علم ال ...


المزيد.....




- تفكيك نفوذ الإخوان في أوروبا.. المواجهة تصل إلى أيرلندا
- الزاوية المصمودية.. وقف آوى فقراء وصوفية المغاربة في القدس
- بعد انقطاع شهور.. صلاة الجمعة في غزة على أنقاض المساجد
- بعد انقطاع شهور.. صلاة الجمعة في غزة على أنقاض المساجد
- إصابة مزارع جراء اعتداء مستعمرين عليه أثناء قطفه الزيتون جنو ...
- دعوات للتحقيق في نفوذ الإخوان في أيرلندا
- حماس: جثامين الفلسطينيين المسلمة تكشف طبيعة إجرام وفاشية الا ...
- لاريجاني يسلّم رسالة قائد الثورة الإسلامية إلى الرئيس الروسي ...
- اللواء موسوي: الشعب اليمني في طليعة المدافعين عن الأمة الإسل ...
- الاحتلال يفتش كاميرات المحال التجارية غرب سلفيت


المزيد.....

- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد غفير - انحراف الفهم الديني في ظل التوظيف السلطوي والاجتماعي